بعد
"الثورة
التونسية" عملت النواة الصلبة للمنظومة القديمة، برعاية ودعم من
محور الثورات المضادة وكل القوى الإقليمية المتخوفة من "عدوى" الثورة،
على التحكم في الانتقال الديمقراطي أو على الأقل توجيهه بصورة تمكّن من الانقلاب
عليه بعد ذهاب ريح المد الثوري. وكان اعتماد منطق "استمرارية الدولة"
مدخلا ملكيا لإحياء دولة "ما دون
المواطنة" أو "المواطنة
المشروطة" (أي ما يسمى بالدولة-الأمة) برساميلها البشرية وأساطيرها التأسيسية
وسرديتها البورقيبية، تحت شعار مواجهة مشروع "ما قبل المواطنة" (أي
الإسلام السياسي) كما تتمثله النخب "
الحداثية" بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية
وصورها النمطية عن ذاتها وعن أعدائها الوجوديين. وكان الغالب على خطابات
"الحداثيين" اعتمادهم على ثنائيات "مانوية" غير متكافئة تسعى
جميعها إلى "أمثلة الأنا" و"شيطنة العدو"، مثل الوطنية/العمالة،
الديمقراطية/
الاستبداد، التنوير/الظلامية، العقلانية/الخرافة، التقدمية/الرجعية.. الخ.
رغم
أن التاريخ التونسي قبل الثورة وبعدها يشهد على أن احتكار القوى
"الحداثية" للجزء الجيد من تلك الثنائيات ليس إلا مجرد دعوى لا شاهد لها
في أدبياتها ومواقفها وتنظيماتها، فإنها استطاعت -بحكم هيمنتها على الثقافة
والإعلام والتعليم والمجتمع المدني والنقابات- أن تجعل من نفسها مرجعا للمعنى
"الصحيح" معرفيا و"المقبول" اجتماعيا، بل المطلوب إقليميا
ودوليا لتثبيت تونس في وضعيتها التأسيسية التي تكون فيها للأقليات الأيديولوجية
الكلمة العليا على كامل الجسد الاجتماعي. وهي أقليات يمكننا اعتبارها المقابل
الموضوعي والفكري للأقليات الطائفية في المشرق، بحيث سعت مثلها إلى شرعنة هيمنتها
على المجتمع باعتماد سردية وطنية "جامعة"؛ هي في حقيقتها مجرد مجاز يخفي
البنية الجهوية-الريعية-الزبونية للنظام، مثلما أخفت "القومية" في شكلها
البعثي البنية الطائفية للنظامين العراقي والسوري.
أقليات يمكننا اعتبارها المقابل الموضوعي والفكري للأقليات الطائفية في المشرق، بحيث سعت مثلها إلى شرعنة هيمنتها على المجتمع باعتماد سردية وطنية "جامعة"؛ هي في حقيقتها مجرد مجاز يخفي البنية الجهوية-الريعية-الزبونية للنظام، مثلما أخفت "القومية" في شكلها البعثي البنية الطائفية للنظامين العراقي والسوري
بحكم
البعد الوظيفي للسرديات الكبرى داخل المنظومة القديمة، وبحكم غياب أي مراجعات
جذرية أو نقد ذاتي، كان الهدف الأساسي من استصحاب السرديات "التقدمية"
في سياق "ثوري" لا علاقة له بالسياق الأصلي لظهورها -أي سياق دولة
الفساد والاستبداد- هو هدف مزدوج : أولا إسناد ورثة المخلوع والتطبيع معهم
باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية"، وهو جزء مهم ولا يمكن
الاستغناء عنه في مواجهة العدو الوجودي للجميع: الإسلاميين؛ ثانيا منع أي إعادة
تفاوض سلمي على المشترك الوطني أو الكلمة السواء بعيدا عن منطق الاستعلاء والإقصاء
وخارج أفق "الوظيفية" -ببعديها المعرفي والاجتماعي- وهي وظيفية طبعت
علاقة أغلب النخب "الحداثية" بالنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي
منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
بعد
الثورة، اشتغلت الشبكة المفهومية "الحداثية" بمنطق الإدماج والإقصاء
مثلما كان دأبها دائما، لكن مع القيام ببعض التعديلات التي اقتضاها السياق الثوري
الذي دفع بالإسلاميين -عبر الإرادة الشعبية الحرة- إلى مركز الحقل السياسي. ولذلك
عملت أغلب القوى الحداثية على دعم ورثة المخلوع وواجهاتهم الحزبية الجديدة سواء
بالتنسيق معهم وتبني خطاب "مظلوميتهم"، أو حتى عبر الدفع بالعديد من
الشخصيات "التقدمية" إلى مراكز قيادية داخل حركة نداء تونس وغيرها من
الأحزاب التجمعية الجديدة الباحثة عن شرعية مستأنفة بالانتماء الخطابي إلى التراث
"الدستوري".
لقد
كان ما تغير أساسا بعد "الثورة" هو أن "مركز" العائلة
الديمقراطية قد انتقل من "التجمع الدستوري الديمقراطي" -أي من الحزب
الحاكم زمن المخلوع والمنحل بحكم قضائي- إلى تلك المكونات التي كانت تدور في فلكه
أو تشتغل على هامشه، بل إنه قد انتقل حتى إلى بعض المكونات التي كانت تشتغل ضده،
لكن بتقديم التناقض مع الإسلاميين (الرجعية الدينية) على التناقض مع المنظومة
الحاكمة (الرجعية البرجوازية).
لقد
أثبتت مرحلة التأسيس وما تلاها خلال عشرية الانتقال الديمقراطي -أو "العشرية
السوداء" كما يسميها الكثير من المنتفعين بها والمقصيين منها- أن المركز
الحقيقي للنظام يوجد خارج واجهاته السياسية المتغيرة، كما أثبتت تلك المرحلة أن
علاقة التعامد الوظيفي بين أغلب النخب "الحداثية" وبين النواة الصلبة
للاستعمار الجديد أو الاستعمار الداخلي؛ هي علاقة استراتيجية وليست مجرد خيار
تكتيكي مؤقت. إن "الثورة" التي وفّرت للنخب الحداثية- على الأقل نظريا-
إمكانية التحرك خارج أغلال "الوظيفية" قد أكدت استحالة هذه الإمكانية
واقعيا. فالتفكير في سياق تأسيسي يستند إلى الإرادة الشعبية الحرة يفترض وجود عقل
"أصيل" أو عقل نقدي؛ لا عقل مشتق من نظامي الهيمنة الداخلي والخارجي
وخادم لهما في مستوى الخيارات الكبرى لما يسمى بعمليه "التحديث" وما
يرتبط بها من أساطير استعمارية جديدة شكّلت ما يسمى بـ"النمط المجتمعي
التونسي". وهو شرط لم يكن متوفرا في أغلب النخب الحداثية التي أعادت تدوير
سردياتها القديمة؛ بصورة جعلت منها عائقا مركزيا أمام بناء أي مشترك وطني يتجاوز
جدليا ما فرضته نخب الكيان الوظيفي المسمى مجازا "دولة وطنية" على عموم
التونسيين والتونسيات خلال مرحلتي الحكم الدستوري والتجمعي.
لو
أردنا التمثيل لعطالة العقل الحداثي وعدم أهليته لإدارة السياق التأسيسي ببنيته
الذهنية المنحدرة من السياق الاستبدادي والوارثة له بصورة لا واعية -مثل العقل
النهضوي تماما- فإننا سنكتفي هنا بمفهوم "التقدمية". فهذا المفهوم هو
نظريا مرادف لكل الخطابات التي تتعرف ذاتيا بالتقابل مع "الرجعية"
بشكليها الديني والبرجوازي، ولكنه واقعيا لم يستبقِ في دائرة النقد الجذري بعد
الثورة إلا الرجعية الدينية -خاصة تلك التي تنافسه في إدارة الشأن العام وتهدد
هيمنته الرمزية ومصالحه المادية- بينما اعتُبر ورثة المنظومة القديمة جزءا من
القوى الحداثية التقدمية الديمقراطية الخ.
ونحن
لسنا هنا في وارد مساءلة "التقدميين" عن دور هذا المفهوم في السياق
الاستبدادي، وعن دورهم هم أنفسهم في تبرير سياسات الدولة الاستبدادية وفي شرعنة
خيارات التحديث الفوقي المشوَّه والمشوِّه (مُشوَّه إذا ما قارنّاه بدوره في
سياقاته التداولية الأصلية -أي الغرب- ومُشوِّه إذا ما نظرنا إلى دوره في هدم
البني الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التقليدية دون النجاح في تعويضها ببنى
حداثية حقيقية)، كما إننا لن نسألهم عن محصول عملية التحديث واستعارة "اللحاق
بركب الدول المتقدمة"، ولكننا سنكتفي بالسؤال التالي: إذا كانت
"التقدمية" منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا أداة في الآلة الدعائية
للسلطة أو لخصومها في سياقات لا تحددها الإرادة الشعبية، فكيف يمكن أن نستصحبها في
سياق تأسيسي دون أن نحولها إلى أداة هيمنة وتحكم بين يدي النواة الصلبة لمنظومة
الاستعمار، وإلى مفهوم لا وظيفي يُغذي الصراعات الهوياتية القاتلة، ويحول دون
انبثاق حقل سياسي طبيعي يتكفل ببناء المشترك المواطني بعيدا عن تسلط الأقليات الأيديولوجية
وعن نوازع الهيمنة الطائفية التي تحملها مشاريع الإسلام السياسي؟
أصبحت كل تلك المفاهيم أدوات لتجذير الانقسام الاجتماعي ولتفتيت الجبهة الداخلية، وأصبح أدعياؤها جزءا من منظومة الاستعمار الداخلي وأداة لتكريس وضعية التبعية والتخلف بحكم ارتباط شرعيتهم -نشأة ووظيفة- بالدولة لا بالإرادة الشعبية
رغم
أن تحوّل أغلب المفاهيم الحداثية إلى مفاهيم "سيئة السمعة" عند عموم
المواطنين -على حد تعبير المرحوم عبد الوهاب المسيري- ليس ظاهرة مرتبطة بالحدث
الثوري في تونس وغيرها، فإن "الثورة التونسية" قد أكّدت أنّ الشبكات
المفهومية لدى الأغلب الأعم من النخب "الحداثية" هي شبكات مفوّتة ولا
يمكنها -بمحمولاتها التقليدية- أن تكون سندا لأي مشروع مواطني هدفه التحرر من
منظومات الاستعمار الداخلي ومن رُعاتها الأجانب. وهو توصيف تشترك فيه مع السرديات
الإسلامية ولكن مع وجود فوارق جوهرية بينهما ليس هذا محل تفصيل القول فيها.
إن
"الحداثة" و"الديمقراطية" و"الوطنية"
و"التقدمية" و"التنوير"، وغير ذلك من المفاهيم المؤسسة للعقل
السياسي الحديث، ليست مفاهيم ميتافيزيقية ولا هي جواهر متعالية، بل هي مفاهيم
إجرائية وسياقية لم تتمكن النخب "الحداثية" من الوفاء بمعانيها الأصلية،
فضلا عن أن نتجح في "تونستها" بصورة غير مشوّهة. ولذلك أصبحت كل تلك
المفاهيم أدوات لتجذير الانقسام الاجتماعي ولتفتيت الجبهة الداخلية، وأصبح
أدعياؤها جزءا من منظومة الاستعمار الداخلي وأداة لتكريس وضعية التبعية والتخلف
بحكم ارتباط شرعيتهم -نشأة ووظيفة- بالدولة لا بالإرادة الشعبية. وهو ما يعني أن
تلك المفاهيم لن تكتسب فاعليتها ولن تستعيد سمعتها أمام الرأي العام ما لم يتحرر
"الحداثي" من الاستقواء بالدولة، أي ما لم يُسفّه الإرادة الشعبية عندما
لا تعكس قناعاته/تحيزاته الذاتية.
فمحصول
القول أن المثقف "الحداثي" سيظل مجرد وظيفي ما لم يجعل شرعيته مرتبطة
بالإرادة الشعبية لا بالسلطة السياسية وبمنظومة الاستعمار الداخلي التي تقف وراءها.
ولن يتحقق ذلك حتى ينظر "الحداثي" في محصول الدولة-الأمة واقعيا دون أن
يطرف، أي حتى يعترف بفشل مشروع التحديث بمقدماته الفكرية وخياراته الكبرى الموضوعة،
بعيدا عن الإرادة الشعبية وفي ظل منظومات حكم لا استقلالية لها ولا سيادة إلا على
أجساد/أرواح من تدعي تمثيلهم، وهي في الحقيقة مجرد وكيل عليهم لخدمة مصالح مادية
ورمزية لا علاقة لها بالشعب وبانتظاراته/حقوقه المعنوية والمادية المشروعة.
x.com/adel_arabi21