إن هجوم
المقاومة في السابع من
أكتوبر عام 2023، وما تلاه من حرب إبادة ممنهجة في قطاع
غزة، لم يكن مجرد حدث
عسكري عابر، بل كان صدعا وجوديا أعاد تعريف الصراع بأنه صراعٌ وجوديٌ بلا حلٍّ في
مواجهة الصهيونية الجديدة ذات الطابع الديني/القومي. الإبادة، التي كشفت بشكل واضح
استمرار المشروع الصهيوني في ممارسة الحد الأقصى من العنف لتدمير المقومات
المجتمعية والهوية السياسية الفلسطينية، تفرض تحديا أعمق يتمثل في مراجعة حالة
الانعزال البنيوي التي تضرب جسد المشهد
العربي منذ عقود.
إن المقاومة، على قدر شجاعتها
وتضحياتِها، تفتقر إلى العمق الشعبي والثقافي اللازم لتحقيق المقاومة الكافية التي
تصل إلى الانتصار الاستراتيجي والتحرر الحقيقي. هنا، الالتحام المطلوب ليس مجرد
ائتلاف تكتيكي، بل هو عملية ولادة لـ"أيديولوجيا مضادة" قادرة على تحدي
الهيمنة الغربية/الاستعمارية المُتحدة مع الأنظمة المحلية شديدة الاستبداد.
فالهيمنة، كما يشرحها أنطونيو غرامشي، لا تستقر بالقوة العارية فحسب، بل بتحويل
الفلسفة إلى "قوة عملية" أو "الوجه الجماهيري لأي تصور
فلسفي"؛ تُعمّم وتبسّط حتى يستسيغها العامة، حيث تحولت الليبرالية ومفاهيم
"ما بعدها" إلى أيديولوجيا فجة مهيمنة تركز على خيار الفرد وسياسة
السوق، مطوقة الواقع الأيديولوجي العربي. لذا، يجب على أيديولوجيا المقاومة أن
تكون، بدورها، "حركة شعبية" واسعة، تسعى لخلق ثقافة متكاملة جديدة عبر
إصلاح فكري وأخلاقي تنظيمي وثقافي جماهيري.
إن أزمة الالتحام في العالم العربي
تنبع بالأساس من فشل هذه الأطراف (المقاومة، والمثقفون، والجماهير)، في ترجمة
رؤيتها إلى هذه الثقافة الشاملة، ما أنتج عزلة ثلاثية الأبعاد تتفاقم في الساحات
المركزية كمصر وفلسطين ولبنان وغيرها. فأولا، يعاني المثقف العربي الحقيقي -وهو
نادرٌ- من القاهرة إلى بيروت؛ من تحرك في تخوم الواقع المجتمعي بنزعة نخبوية شبه
مفرطة، منشغلا بإشكاليات هي إلى الخاصة أقرب منها إلى عامة الناس. هذه النخبوية
تعطل عملية إنتاج لغة قريبة من العموم، مما أنتج فجوة هائلة في الإرسال والتلقي
بين المثقف وبين الجماهير، وفقدت النخبة الفكرية دورها في صوغ الاستراتيجيات
الكبرى.
هنا، يتحول المثقف إلى كائن عاجي أو
كسول أو يسعى إلى أن يكون ما يُعرف بـ"المؤثر (إنفلونسر)". فاليوم،
المؤثر الذي يمتلك آلاف المتابعين، حتى إن لم يكن قرأ أربعة كتب على بعضها، هو
يحتل مكانة اجتماعية أفضل من المثقف. هذا ما يجعل المثقف بدلا من كونه "مثقفا
عضويا" بتعبير غرامشي، وهو الشخص الذي يستطيع أن يُدرك بمهارة تنم عن وعي
ثقافي مغاير، يُعبر عن جماعته التي ينتمي إليها ويعمل على تحرير المجتمع من عملية
التجهيل، أن يتجه إلى ما يلبي حاجته النفسية والاجتماعية؛ الشهرة والوجود في
الفضاء المرئي، وتقديم الفراغ، أي ما تطلبه أدوات السوق الحالية والمُفرغة من أي
محتوى معرفي حقيقي يُقدَّم.
هذا الغياب يكرّس ثقافة بائسة غير
قادرة على التحرير، ويُعيق بناء الوعي المقاوم المطلوب. لذا، يؤكد مفكر مصري مثل
حسن حنفي على ضرورة "علم الاستغراب"، الذي يهدف إلى تحرير الهوية من
جميع أشكال الهيمنة الغربية عبر "كسر حدة الانبهار بالغرب ومقاومة قوة
جذبه"، بتحويل الغرب من كونه مصدرا للمعرفة إلى موضوع لها. هذا المشروع
النهضوي يتطلب تكاتف المثقفين الأصيلين، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في ظل انعزالهم
وعجزهم عن تذويب الفجوة بين "أولئك الذين يعرفون" و"أولئك الذين لا
يعرفون".
أما ثانيا، فإن هذه العزلة تتجلى في
اغتراب الشعوب، حيث إن السُلطويات العربية هي أنظمة "مغرّبة" كما وصفها
حليم بركات، تحيل أفراد الشعب إلى "كائنات عاجزة". إن الشعب -بكل بساطة-
مغلوبٌ على أمره، مستلَب من حقوقه وممتلكاته -المادية والمعنوية- ومنجزاته
ومؤسساته، وماضيه وحاضره، ومهدّد في صميم حياته وكيانه. هذا الاغتراب السياسي
العميق، كما هو واضح في مجتمعات كبرى كمصر، يساهم في إحالة الفرد إلى حالة من
العجز وعدم المبالاة بالقضايا الكبرى، ما يضعف القدرة على الانخراط في عمل جماهيري
ضخم. ففي ظل الشعور بأن الفرد مغلوب على أمره، فاقد ذاته السياسية، تظل مساحة
التفاعل مع قضايا وطنية وقومية كبرى، مثل المقاومة بكافة أشكالها، محصورة في ردود
فعل عاطفية وسريعة، ولا تتحول إلى فعل مقاوم شامل وحقيقي، وذلك لأن شرط
الأيديولوجيا المضادة هو أن تكون "حركة شعبية" جماهيرية واسعة، وهو ما
يعطله هذا الاستلاب المُزمن.
وثالثا، تتجسد عزلة التنظيمات في
المنطقة في مسارات تاريخية متناقضة: فمن جهة، عانت القوى الفكرية والسياسية في
المنطقة، خصوصا في السياق المصري، من الإقصاء الممنهج. فقد اعتمدت الأنظمة على
آليات لاستبعاد هذه القوى، أهمها تصنيف كل سياسي أو مثقف أو ثوري بأنه "خائن"
أو "معادٍ للثورة" أو "إرهابي"، واستبعادهم من كافة مؤسسات
الحكم ومنعهم من تأسيس الأحزاب، بالتوازي مع الاغتيال المعنوي وتشويه الصورة أمام
الرأي العام. وتاريخ "العزل السياسي"، كما في "قانون الغدر"
الذي صدر بعد ثورة 1952 في مصر، كان قانونا سيئا، لأنه أخذ الصالح بالطالح، وقد
أدى هذا الإقصاء التاريخي إلى إضعاف جذري لقدرة هذه الأطياف على إنتاج خطاب مقاوم
جذري غير مؤدلج وإقصائيّ، وكرس فكرة الخصومة بدلا من التكاتف القومي
التحرري.
من جهة أخرى، فإن التنظيمات السياسة
والعسكرية الفاعلة أو التي كانت فاعلة في الماضي القريب، كاليسار والقوميين وجماعة
الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، وحماس وفتح في فلسطين، وحزب الله في لبنان، تعاني
من نقد "الذاتية الأيديولوجية". فرغم العمل العسكري الميداني المقاوم
لإسرائيل (حالة حماس وحزب الله)، إلا أن ثمة نقدا يوجه لهذه التنظيمات بأنها قد
تكون منغلقة ولا تسمع من الآخر، سواء جماهير أو مثقفين وباحثين، وتكتفي بسماع صوت
قيادتها فحسب، فضلا عن غياب المُصارحة بمصاعب الواقع وأخطائه. إن هذا الانعزال
الأيديولوجي والتنظيمي، يفوت فرصة تحويل المقاومة من ملكية حصرية لفصيل معين إلى
"حالة شعبية" جامعة تعكس مشروع التحرر الوطني الكامل.
نهاية، إن الخروج من هذا التشتت
البنيوي والانعزال الثلاثي هو ضرورة فلسفية واستراتيجية تفرضها وحشية الهيمنة
الاستعلائية المفروضة علينا، فيما يجب أن يتحول الالتحام من مجرد شعار إلى مشروع
ثقافي-سياسي متكامل، عصَبه الشباب العربي. يتطلب ذلك تفعيل المثقف العضوي على
الفور، ليتحول إلى "مثقف حركي" مُشتبِك، ومتواصل مع التنظيمات المقاومة،
ويعمل معها على تحرير المجتمع من حالة التجهيل، وصناعة التزاوج ما بين الثقافي
والسياسي والعسكري، وهو التزاوج الضروري لتحقيق التفاعل بين الجماهير وطليعتها
التغييرية.
وعلى الجانب التنظيمي، يجب تجاوز الذاتية الأيديولوجية
والإقصاء المتبادل والاتفاق على برنامج مقاومة مشترك. هنا، الالتحام لا يعني تفكيك
الأيديولوجيات (إسلامية، يسارية أممية، قومية عروبية)، بل تفعيل قواسمها المشتركة
في سياق المواجهة الوجودية، عبر نبذ القُطرية البغيضة والأصولية الفئوية، والتوحد
قوميا في فضاء إنساني رحب من القيم الأخلاقية الحقة، وذلك لترجمة المقاومة
الثقافية والعسكرية في غزة ولبنان، والمنطقة العربية، إلى برنامج سياسي استراتيجي
يقدم بديلا للهيمنة، وينهي الانفصال عن عامة الشعب وظروفه الفكرية والمعيشية. إن
هذا الالتحام، ومكوناته، هو الشرط الفلسفي لإنهاء الانعزال، وكسر قوة جذب الهيمنة
الرأسمالية العسكرية الفجة، والخروج من الهزيمة، وتحويل المقاومة من فعل تكتيكي
إلى مشروع تاريخي نهضوي شامل يُخرجنا خلال العقود القادمة من فلكات الاستعمار
والاستبداد.