قضايا وآراء

عن الديكتاتوريات الثورية التي لا تُهزم

أحمد عبد الحليم‎
"نموذج يوليو 1952 كأحد أكثر التجليات وضوحا لفكرة الديكتاتورية الثورية"- جيتي
"نموذج يوليو 1952 كأحد أكثر التجليات وضوحا لفكرة الديكتاتورية الثورية"- جيتي
يشكّل كتاب "الثورة والديكتاتورية: الأصول العنيفة للاستبداد الدائم" للباحثين ستيفن ليفيتسكي ولوكان واي، إضافة فكرية عميقة إلى فهمنا لأحد أكثر الأسئلة إلحاحا في التاريخ السياسي الحديث: كيف تنشأ الأنظمة الشمولية من رحم الثورات، ولماذا تعيش طويلا بعد أن تهدأ أصوات البنادق؟ الأطروحة التي يقدمها المؤلفان تقلب المفهوم التقليدي للاستقرار رأسا على عقب؛ إذ يريان أن الأنظمة الاستبدادية التي تولد من العنف الثوري لا تضعف به، بل تستمد منه صلابتها ومناعتها. فالثورة التي تُخاض بالدم والنار، كما في الصين وكوبا وإيران والاتحاد السوفييتي، تُنتج دولا قادرة على البقاء ليس رغم العنف، بل بسببه.

يطرح الكتاب مفارقة لافتة: العنف، الذي يُفترض أنه أداة للهدم، يتحول في لحظة الثورة إلى أداة للبناء. فحين تواجه الثورات مقاومة شرسة، داخلية أو خارجية، ينشأ ما يشبه "عقلية الحصار" داخل القيادة الثورية. الخطر الداهم يوحّدها، والدماء التي تُراق تصبح مادة لِحَميّةٍ سياسية جديدة تصهر النخبة في بوتقة واحدة. هكذا يتحول الخوف من الزوال إلى طاقة مركزية للبقاء، ويصبح النظام الثوري أكثر قدرة على التنظيم والسيطرة كلما ازدادت شدة التهديد.
الثورة التي تُخاض حتى النهاية تُنشئ في داخلها ذاكرة جماعية من الخطر والبقاء، تجعلها تفضّل القبضة الحديدية على التسامح، والوحدة القسرية على التعدد
العنف هنا ليس فعلا عرضيا أو انفعالا مؤقتا، بل هو جزء من البنية التكوينية للنظام نفسه. إنه اللحظة التي تنصهر فيها السلطة الوليدة، وتُعيد ترتيب علاقتها بالمجتمع وبالعدو معا، فالثورة التي تُخاض حتى النهاية تُنشئ في داخلها ذاكرة جماعية من الخطر والبقاء، تجعلها تفضّل القبضة الحديدية على التسامح، والوحدة القسرية على التعدد.

يرى ليفيتسكي وواي أن ما يسمّيانه "الاستبداد الدائم" يقوم على ثلاثة أعمدة متكاملة: نخبة موحدة، وجهاز قمعي مخلص، ومجتمع منزوع البدائل. فالعنف الثوري يولّد نخبة متجانسة تعرف بعضها عبر التجربة الدموية المشتركة. هذه النخبة ليست مجرد حزب سياسي، بل جماعة مغلقة تُفرز الولاء عبر النار، وتجعل الانقسام الداخلي شبه مستحيل، لأن كل عضو فيها يدرك الثمن الذي دفعه لبنائها. ومن رحم الثورة أيضا تولد الأجهزة الأمنية والعسكرية المشبعة بعقيدة العداء والخوف، فتتحول إلى مؤسسات تحرس النظام لا الدولة (مصر مثالا ما بعد يوليو 1952)، وتستمد شرعيتها من الدفاع عن "المشروع الثوري" ضد أعداء الداخل والخارج. أما المجتمع، فسرعان ما يُعاد تشكيله على صورة الدولة الجديدة: تُلغى الأحزاب، وتُقمع النقابات، وتُخنق المنظمات المستقلة، ويُمحى أي صوت قد يذكّر بزمن ما قبل الثورة. عندها تكتمل الدائرة؛ لا يبقى سوى الدولة والحزب والقائد، ولا يعود التغيير ممكنا إلا عبر العنف ذاته الذي أوجد النظام أول مرة.

ولكي يبرهنا على صلابة هذه البنية، يستعرض المؤلفان تجارب متعددة. فالثورة البلشفية في روسيا لم تكتف بإسقاط القيصر، بل خاضت حربا أهلية دموية جعلت الحزب الشيوعي يتوحّد كليا تحت راية واحدة. العنف هنا لم يكن خطأ تكتيكيا، بل لحظة ولادة الدولة الحديدية التي ستصمد سبعين عاما. وفي الصين، تحوّل العنف الثوري الطويل إلى بنية ذهنية دائمة، فالدولة الشيوعية هناك تعلّمت أن تعتبر أي احتجاج امتدادا للحرب القديمة. لذا حين اندلعت مظاهرات تيان آن مين عام 1989، كان القمع السريع والقاتل نتيجة طبيعية لمنطق البقاء الذي وُلد مع الثورة ذاتها.

في المقابل، فشلت ثورات أخرى لأنها لم تعبر هذا الطور "الدموي المؤسِّس". فالثورات التي سعت إلى التوافق أو التسويات السلمية، مثل بعض تجارب أمريكا اللاتينية أو أفريقيا، لم تُنتج دولا متماسكة بل أنظمة هشة تفككت سريعا أمام الأزمات. يبدو أن غياب الخطر الوجودي منعها من بناء جهاز قمعي قوي أو نخبة موحدة؛ فظلّت كمن يمشي على أرض رخوة.

ثمن البقاء في مثل هذه الأنظمة هو موت السياسة ذاتها، وتحويل المجتمع إلى صدى باهت لسلطة لا تعرف سوى الخوف والارتياب

في مصر، تشكّل نموذج يوليو 1952 كأحد أكثر التجليات وضوحا لفكرة "الديكتاتورية الثورية" التي لا تموت لأنها لا تكفّ عن التمثّل في ذاتها كثورة دائمة. فالعنف المؤسِّس الذي أطاح بالنظام الملكي لم يكن مجرد لحظة قطيعة، بل لحظة ولادة لسلطة جديدة صهرت نفسها في جيشٍ يتقمّص دور المخلّص، ويحرس شرعيته بما يسميه المؤلفان "أسطورة الخطر الوجودي". لم يعد النظام يبرر سلطته باسم الدولة، بل باسم الثورة التي لم تكتمل بعد. وهكذا تحوّل المشروع التحرري إلى آلة انضباطٍ شاملة، استبدلت فكرة الأمة بفكرة الجماعة الوطنية المطيعة، وامتصّت السياسة في جسدٍ واحد يحتكر النطق باسم الشعب. منذ ذلك الحين، لم تخرج مصر من منطق الثورة التي تحرس نفسها من الثورة، فاستمرّت ديكتاتورية يوليو كطيفٍ يتجدّد في كل أزمة، لأنها وُلدت من وهم الخلاص، ولأنها وجدت في هذا الوهم سبب بقائها.

ورغم الجاذبية الفكرية لأطروحة ليفيتسكي وواي، فإنها تطرح سؤالا مقلقا حول الثمن الإنساني للاستقرار. فهل يمكن لنظامٍ أن يُبنى على العنف دون أن يصبح أسيرا له؟ إن الدولة التي تولد من النار، مهما بلغت من القوة، تظل مشدودة إلى ذاكرتها الدموية وإلى خوفها من عودة الفوضى. إن العنف الذي يمنحها المناعة هو ذاته ما يجعلها عاجزة عن التحول، لأن أي انفتاح أو تسامح يبدو لها تهديدا وجوديا. وبهذا المعنى، تبدو الأنظمة الثورية المستقرة كيانات محنطة أكثر منها كائنات حية؛ فهي تصمد، نعم، لكنها لا تتطور. إن ثمن البقاء في مثل هذه الأنظمة هو موت السياسة ذاتها، وتحويل المجتمع إلى صدى باهت لسلطة لا تعرف سوى الخوف والارتياب. وهنا يكمن السؤال الأعمق الذي يتركه الكتاب مفتوحا: أيّهما أخطر على الإنسان- الفوضى التي تلد الحرية، أم الاستقرار الذي يلد القمع؟
التعليقات (0)

خبر عاجل