صحافة دولية

"عملية نارنيا" السرية.. كيف اغتالت "إسرائيل" العقول النووية الإيرانية؟

دولة الاحتلال اغتالت العالم محسن فخري زادة عام 2020 إضافة إلى 11 آخرين في 2025- وكالة فارس
نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرًا موسعًا يسلّط الضوء على تحقيق استقصائي مشترك أجرته مع برنامج فرونتلاين على قناة “بي بي إس”، كشف تفاصيل جديدة عن عملية “نارنيا” الإسرائيلية، وهي حملة اغتيالات استهدفت علماء إيران النوويين. ويخلص التحقيق إلى أن الهجوم الإسرائيلي–الأمريكي شكّل محاولة لتحييد ما تعتبره "تل أبيب" تهديدا نوويا إيرانيا عبر استهداف البنية البشرية والعلمية للبرنامج، من دون أن يؤدي ذلك إلى القضاء عليه بالكامل، بل أسفر عن تصعيد خطير وفتح الباب أمام سباق تسلح وتحديات مستقبلية في المنطقة.

وقالت الصحيفة في تقريرها، الذي ترجمته "عربي21"، إن الاستعدادات للحرب كانت على وشك الاكتمال، إذ كان عشرات العملاء المدرّبين العاملين لصالح "إسرائيل" موجودين داخل إيران ومزوّدين بأسلحة متطورة. وفي الوقت نفسه، كان طيارو سلاح الجو الإسرائيلي في حالة تأهّب بانتظار أوامر لمهاجمة البنية التحتية النووية الإيرانية، ومنصات إطلاق الصواريخ الباليستية، وأنظمة الدفاع الجوي.

وأضافت أن "إسرائيل" والولايات المتحدة، الداعم الرئيسي لها، توصّلتا بعد نقاشات مطوّلة إلى توافق تقريبي بشأن مدى اقتراب طهران من امتلاك سلاح نووي، بالتوازي مع إدارة خدع دبلوماسية هدفت إلى تضليل إيران وإعمائها عن الهجوم الوشيك.

وأشارت الصحيفة إلى أن المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين أدركوا أن إلحاق ضرر دائم ببرنامج إيران النووي الواسع يتطلب أكثر من ضرب المنشآت، بل يستوجب أيضًا القضاء على “العقل المدبّر” للبرنامج، في إشارة إلى جيل من المهندسين والفيزيائيين الإيرانيين الذين تعتقد أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية أنهم يعملون على تحويل المواد النووية الانشطارية إلى قنبلة ذرية.

وأضاف التقرير أنه عند نحو الساعة 3:21 فجر 13 حزيران/ يونيو، وفي الدقائق الأولى من الحرب التي استمرت 12 يومًا بين "إسرائيل" وإيران، بدأت الأسلحة الإسرائيلية تستهدف مباني سكنية ومنازل في العاصمة طهران، إيذانًا بانطلاق عملية “نارنيا” التي ركزت على تصفية أبرز العلماء النوويين الإيرانيين.

وأوضحت الصحيفة أن محمد مهدي طهرانجي، الفيزيائي النظري وخبير المتفجرات، قُتل في إحدى الضربات. كما لقي فريدون عباسي، الفيزيائي النووي والرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية والخاضع لعقوبات أمريكية وأممية، مصرعه في ضربة أخرى بطهران بعد ذلك بساعتين. وبحسب ما أعلنته "إسرائيل"، فقد اغتيل ما مجموعه 11 عالمًا نوويًا إيرانيًا بارزًا في 13 يونيو/ حزيران والأيام التي تلته.

وأفادت واشنطن بوست بأن الهجمات الإسرائيلية والأمريكية الواسعة والمتعددة المحاور على البرنامج النووي الإيراني هزّت منطقة الشرق الأوسط، وأشعلت تهديدات إيرانية بالانتقام، وأجهضت في الوقت الراهن فرص التوصل إلى اتفاق دبلوماسي يقيّد الأنشطة النووية لطهران ويخضعها لرقابة دولية مشددة.

وكشفت الصحيفة، بالتعاون مع برنامج فرونتلاين، تفاصيل إضافية حول طبيعة الهجمات والتخطيط الذي سبقها وتأثيرها داخل إيران، استنادًا إلى مقابلات مع مسؤولين حاليين وسابقين من "إسرائيل" وإيران ودول عربية والولايات المتحدة، تحدث بعضهم للمرة الأولى وبشرط عدم الكشف عن هوياتهم، في إطار شرح عمليات سرية وتقييمات استخباراتية.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين في "إسرائيل" والولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية قولهم إن البرنامج النووي الإيراني ربما تأخر لسنوات، إلا أن ذلك لا يرقى إلى ادعاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن البرنامج “دُمّر بالكامل وتحوّل إلى أنقاض”.

وفي المقابل، لا تزال إيران، التي تؤكد أن برنامجها النووي مخصص للأغراض السلمية وإنتاج الطاقة، تتسم بالتحدي. وقال أمير طهرانجي لبرنامج فرونتلاين إن عمل شقيقه محمد سيستمر، مضيفًا: “بقتل هؤلاء الأساتذة، قد يكونون قد رحلوا، لكن معرفتهم لم تُفقد من بلدنا”.

وأشارت الصحيفة إلى أن "إسرائيل" سبق أن اغتالت علماء إيرانيين، لكن غالبًا مع إمكانية الإنكار، عبر عمليات شملت إلصاق عبوات مغناطيسية بسيارات العلماء في شوارع طهران. ونجا فريدون عباسي بصعوبة من محاولة اغتيال مماثلة عام 2010، فيما قُتل العالم النووي البارز محسن فخري زاده في كمين عام 2020 باستخدام رشاش آلي يتم التحكم به عن بُعد خارج العاصمة الإيرانية.

غير أن التقرير يؤكد أن "إسرائيل" خرجت في حزيران/ يونيو من دائرة العمل السري، بعدما ازدادت جرأتها في أعقاب ضربها العلني لوكلاء إيران في قطاع غزة ولبنان وسوريا.

وفي سياق عملية “نارنيا”، جمع محللو الاستخبارات الإسرائيلية قائمة تضم 100 من أبرز العلماء النوويين في إيران، قبل تقليصها إلى نحو 12 هدفًا، مع إعداد ملفات تفصيلية عن نشاط كل منهم وتحركاته ومنازله، استنادًا إلى عقود من العمل الاستخباراتي.

وأكد التقرير أن العملية لم تكن خالية من الأخطاء، إذ تمكنت واشنطن بوست ومنصة التحقيقات مفتوحة المصدر بيلينغكات من التحقق بشكل مستقل من مقتل 71 مدنيًا في خمس ضربات استهدفت علماء نوويين، اعتمادًا على صور الأقمار الصناعية، وتحديد مواقع الفيديوهات، وسجلات الوفيات والمقابر، وتغطية الجنازات في الإعلام الإيراني.

وأوضحت الصحيفة أن 10 مدنيين، بينهم رضيع يبلغ من العمر شهرين، قُتلوا في الضربة التي استهدفت مجمع الأساتذة في حي سعدات آباد بطهران، مشيرة إلى أن شهادات الشهود ومقاطع الفيديو والصور أظهرت أن قوة الانفجار تعادل تقريبًا قنبلة تزن نحو 500 رطل.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين تأكيدهم أنهم بذلوا كل ما في وسعهم للحد من الخسائر في صفوف المدنيين، مشيرين إلى أن تقليص الأضرار الجانبية كان أحد الاعتبارات الرئيسية في التخطيط لعملية “نارنيا”، وفقًا لما قاله ضابط رفيع في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.

من جهته، قال العميد إيلاد إدري، رئيس أركان قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، إن الضربات الإيرانية الانتقامية استهدفت مدارس ومستشفيات ومواقع مدنية أخرى، ما أسفر عن مقتل 31 إسرائيليًا. وفي المقابل، صرّح متحدث باسم الحكومة الإيرانية في تموز/ يوليو بأن 1,062 شخصًا قُتلوا في الضربات الإسرائيلية، من بينهم 276 مدنيًا.

وأوضحت الصحيفة أن "إسرائيل" أطلقت على حملتها العسكرية الواسعة ضد إيران اسم “الأسد الصاعد”، حيث دمّرت الطائرات الحربية والطائرات المسيّرة الإسرائيلية، بدعم من عملاء داخل إيران، أكثر من نصف منصات إطلاق الصواريخ الباليستية الإيرانية، وحيّدت ما تبقى من أنظمة الدفاع الجوي. كما أدت الضربات إلى تصفية القيادة العسكرية الإيرانية وقيادات في الحرس الثوري. واستهدفت الغارات محطات توليد الكهرباء وأنظمة التهوية التي تعتمد عليها إيران لتشغيل أجهزة الطرد المركزي في منشأتي نطنز وفوردو، وهما الموقعان الرئيسيان لتخصيب اليورانيوم في البلاد.

ونقلت الصحيفة عن مسؤول أمني إسرائيلي رفيع شارك مباشرة في التخطيط للعملية قوله إن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) حرّك داخل إيران أكثر من 100 عميل إيراني، جرى تزويد بعضهم بـ“سلاح خاص” مكوّن من ثلاثة أجزاء، لتنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف عسكرية.

وأشارت الصحيفة إلى أنه على مدى عقود، فكّرت "إسرائيل" في شن هجوم واسع على البرنامج النووي الإيراني وأهداف أخرى، إلا أن العقبات تراجعت عقب قرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتدمير أعداء "إسرائيل" بعد هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، الذي أسفر عن مقتل نحو 1,200 شخص وفرض حصار على قطاع غزة، ما أدى إلى سقوط أكثر من 70 ألف شهيد فلسطيني. كما تلقّى حزب الله ضربة قوية في لبنان، شملت غارات جوية وعملية نوعية نفذها الموساد، وأسفرت عن استشهاد زعيمه حسن نصر الله في سبتمبر/ أيلول 2024.

وأضافت الصحيفة أن انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024 أتاح لـ"إسرائيل" استغلال الفراغ القائم لتدمير القدرات العسكرية السورية والسيطرة على مناطق إستراتيجية في جنوب غربي سوريا.  

وقالت الصحيفة بدأت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية منذ عام 2023 بجمع معلومات تفيد بأن باحثين في وحدة تابعة لوزارة الدفاع الإيرانية كانوا يدرسون سبل تسريع بناء سلاح نووي، في حال قرر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي إلغاء فتواه الصادرة عام 2003 التي تحرّم الأسلحة النووية. بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، بدأت إيران إنتاج كميات أكبر من اليورانيوم المخصب، لكن لم تعتقد وكالة الاستخبارات الأمريكية أو الموساد أن إيران شرعت في بناء قنبلة نووية. وبحلول ربيع 2025، لم يكن المحللون الإسرائيليون متأكدين مما إذا كان خامنئي سيعلن إلغاء الفتوى أو إذا كان بإمكانهم اكتشاف تجميع السلاح في الوقت المناسب.

وقالت الصحيفة في 12 حزيران/ يونيو، عشية عملية “الأسد الصاعد”، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن طهران انتهكت التزاماتها لمنع انتشار الأسلحة النووية، وهو أول انتقاد من نوعه منذ 20 عامًا.

وعندما زار نتنياهو ترامب في بداية ولايته الثانية، عرض أربعة سيناريوهات للهجوم على إيران: الهجوم الإسرائيلي بمفرده، قيادة إسرائيل للهجوم بدعم أميركي محدود، التعاون الكامل بين الحليفين، وقيادة الولايات المتحدة للعملية. بعد ذلك بدأت أشهر من التخطيط الاستراتيجي المكثف والخفي. أراد ترامب منح الدبلوماسية النووية فرصة، لكنه واصل تبادل المعلومات الاستخباراتية والتخطيط العملياتي مع "إسرائيل".

وفي منتصف نيسان/ أبريل منح ترامب إيران 60 يومًا للتوصل إلى اتفاق نووي، وانتهت المهلة في 12 حزيران/ يونيو، فتحرك ترامب ونتنياهو لضمان بقاء الإيرانيين غير مستعدين للضربة الوشيكة، وقال ترامب إن الضربة الإسرائيلية “قد تحدث بكل تأكيد” مع تفضيله الحل التفاوضي.

وقالت الصحيفة سرب مسؤولون إسرائيليون معلومات تفيد بأن مستشار نتنياهو رون ديرمر ورئيس الموساد ديفيد بارنيا سيجتمعان مع المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف، فيما كانت جولة جديدة من المفاوضات الأمريكية-الإيرانية.

وأكدت الصحيفة أن "إسرائيل" كانت قد قررت شن الضربة والولايات المتحدة كانت على علم، وكانت الدبلوماسية المخطط لها مجرد خدعة، مع تشجيع التقارير الإعلامية عن خلاف أميركي-إسرائيلي على استمرار التخطيط دون لفت الانتباه.

وقالت الصحيفة حتى بعد بدء حملة القصف والاغتيالات، أرسلت إدارة ترامب اقتراحًا سريًا لإيران لحل الجمود حول برنامجها النووي، وكانت هذه المبادرة آخر فرصة قبل الموافقة على استخدام القوة الأميركية بالتوازي مع إسرائيل. وتضمنت شروط الصفقة إنهاء دعم طهران للجهات الوكيلة مثل حزب الله وحماس، واستبدال منشأة فوردو وأي منشأة أخرى بمرافق لا تسمح بالتخصيب، مقابل رفع الولايات المتحدة “جميع العقوبات المفروضة على إيران”. وبعد إرسال الاقتراح، رفضته طهران، فأذن ترامب بشن ضربات أمريكية.

وفي الختام، قالت الصحيفة إن إيران كثفت أعمال البناء في موقع غامض تحت الأرض جنوب نطنز يُعرف باسم “جبل المعول”، وتسعى لإعادة بناء ترسانتها الصاروخية بمساعدة الصين. وفي مقابلة مع فرونتلاين، قال علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، إن البرنامج النووي الإيراني لا يمكن تدميره، مؤكدًا: “ما إن تُكتشف التقنية، يصبح من المستحيل محوها".