أفكَار

الدولة العثمانية المفترى عليها.. قراءة تاريخية وسياسية لإنصاف الحقائق

لم تتعرض دولة في العالم لمثل ما تعرضت له الدولة العثمانية من حملات عنيفة ضارية استهدفت التشهير بها والنيل منها. وقامت بهذه الحملات المكثفة قوتان عالميتان عانيتان، هما : الاستعمار الأوروبي والصهيونية.. فيسبوك
في هذا النص الذي ينشره موقع "عربي21" بالتزامن مع نشره على صفحة الكاتب والباحث المصري جمال سلطان على فيسبوك، يقدم سلطان قراءة نقدية معمقة لأساطير وتشويه صورة الدولة العثمانية في الوعي العربي الحديث. يرى الكاتب أن ثمة حملات شعوبية وشعبوية وجهل تاريخي سادت في العقود الأخيرة، حاولت تصوير الدولة العثمانية على أنها قوة احتلال أجنبي وظلمت الشعوب العربية، في حين تؤكد الدراسات العلمية الدقيقة، ومن بينها أعمال علماء مصريين وعرب كبار، أن الصورة الحقيقية أكثر تعقيدًا وتوازنًا.

يستند جمال سلطان في تحليله إلى إرث طويل من الكتابة التاريخية الوطنية المصرية، بدءًا من الزعيم الكبير محمد فريد في كتابه "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، وصولاً إلى العالم الجليل عبد العزيز الشناوي في سفره "الدولة العثمانية .. دولة إسلامية مفترى عليها"، حيث يوضح أن حملات التشويه لم تستهدف الدولة العثمانية فحسب، بل كانت جزءًا من مخططات استعمارية أوروبية وصهيونية لفرض نفوذها في مصر والعالم العربي.

يشدد سلطان على أن المصريين، تاريخيًا، لم ينظروا إلى الدولة العثمانية باعتبارها مستعمرًا أجنبيًا كما تصور بعض الكتاب الشعبويين، بل كانت لهم مشاعر ولاء دينية ووطنية حقيقية، مبنية على الاعتراف بالدور التاريخي للعثمانيين في حماية البلاد العربية والإسلامية من أخطار خارجية، وفي دفع عجلة الإصلاح والتنمية ضمن الإمبراطورية. وهو ما تؤكده شهادات أدباء ومفكرين مثل عبد الوهاب عزام، الذي وصف العلاقة بين المصريين والدولة العثمانية بأنها مزيج من الحب والولاء والتقدير للنجاحات، مع النقد العقلاني للقصور والسلبيات.

تقدم هذه القراءة الخاصة رؤية متوازنة ومستنيرة، تحاول تصحيح الانحرافات الشعبية والشعوبية، وتؤكد أن الإنصاف في دراسة التاريخ يتطلب عرض الفضائل والعيوب معًا، بعيدًا عن الجهل والتحامل، ليتمكن القارئ من فهم علاقة العرب بالدولة العثمانية في بعدها التاريخي والسياسي والديني على نحو واقعي وموضوعي.


أنقذت الأمة من الضياع

تنتشر في أدبيات بعض الكتاب المصريين والعرب ـ في العقود الأخيرة ـ الإشارات السلبية إلى الدولة العثمانية بصورة لا تخلو من روح العصبية القومية، أو النزق الأيديولوجي، وكثيرا ما تكون مشحونة بروح التحامل وسوق الأكاذيب، عن تلك الدولة، وخاصة عن علاقة الشعوب العربية بها، إذ تحاول بعض الكتابات تصوير الأمر على أن مصر وسائر بلاد العرب كانت تنظر إلى الدولة العثمانية كدولة احتلال أجنبي، مثل الأنجليز والفرنسيين، وتناضل من أجل التحرر من نير هذا الاستعمار العثماني!، وهو كلام شعبوي شديد السطحية، وشديد الجهل بالتاريخ، ويحاول أن يسقط مشاعر شعوبية وعنصرية حالية على تاريخ يختلف تماما، على النحو الذي توضحه الدراسات العلمية البحثية الرصينة والعميقة التي قدمها علماء مصريون وعرب أنصفوا الدولة العثمانية، وذكروا فضائلها على العرب والمسلمين، بقدر ما ذكروا أيضا أخطاءها ومعايبها.

ومن أبرز من كتبوا عن الدولة العثمانية، وأنصفوها، الزعيم الوطني المصري الكبير محمد فريد، في كتابه الكبير "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، والذي ذكر فيه السياق التاريخي الذي ولدت فيه الدولة العثمانية، على قدر مقدور، ويرصد ما تعرض له العالم الإسلامي من تراجع وتمزق وتعرض الإسلام لخطر ماحق، فبعث الله الدولة العثمانية لتنقذ الأمة من هذا الضياع.

ويضيف: "لكن العناية الصمدانية تداركتهم بلم الشعث، ورم الرث، ورتق الفتق ورقع الخرق فأضاءت الأفق الإسلامي بظهور النور العثماني، وأمدته بالنصر اللدني والعون الرباني فقامت الدولة العلية بحياطة هذا الدين وحماية الشرقيين ودعت إلى الخير، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر فكانت من المفلحين، ثم وقفت في طريق أوروبا حاجزا منيعا وسورا حصينًا، وحالت دون أطماعها، وألزمتها بكف غاراتها بأنواعها، ثم اهتمت بالإصلاح، وسعت في تأييد النظام؛ فصار لها بين الدول المقام الأول ونالت من العزة والتوفيق ما يجدر بكل شرقي أن يتذكره الآن لتستفزه عوامل الغيرة ودواعي النشاط إلى بذل نفسه ونفيسه في سبيل تقويتها وتعزيز رايتها وتأييد كلمتها؛ لما كان ـ ولا يزال ـ لها من الحسنات الحسان على كافة بني الإنسان من غير نظر إلى الأجناس والمذاهب والأديان، مما لا يراه الباحث في أية دولة غيرها قديما أو حديثا".

تخيل هذه المشاعر الوطنية المصرية المحبة والودودة تجاه الدولة العثمانية، حتى في أواخر عهدها وهي ضعيفة بلغ منها الوهن مبلغه، ثم يأتيك من يحدثك عن أن المصريين كانوا يرون العثمانيين قوة احتلال مثل الأنجليز والفرنسيين؟.

موجة التشهير بالدولة العثمانية في التاريخ الحديث، انطلقت من منصتين أساسيتين، وهما : الاستعمار الأوربي الذي أراد الانفراد بغزو مصر والمنطقة العربية، ثم التغلغل الصهيوني، مؤكدا أن بعض الجهلة من أبناء العرب سقطوا في شراك هذا المخطط.
كذلك، من العلماء المتخصصين بالتاريخ الحديث، الذين كتبوا بإنصاف وعمق، عن تاريخ الدولة العثمانية، العالم الجليل الأستاذ الدكتور عبد العزيز الشناوي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأزهر، ورئيس قسم التاريخ، في سفره الضخم "الدولة العثمانية .. دولة إسلامية مفترى عليها"، في أربعة مجلدات، وفيه يؤكد على أن موجة التشهير بالدولة العثمانية في التاريخ الحديث، انطلقت من منصتين أساسيتين، وهما : الاستعمار الأوربي الذي أراد الانفراد بغزو مصر والمنطقة العربية، ثم التغلغل الصهيوني، مؤكدا أن بعض الجهلة من أبناء العرب سقطوا في شراك هذا المخطط.

ويضيف قائلا : "لم تتعرض دولة في العالم لمثل ما تعرضت له الدولة العثمانية من حملات عنيفة ضارية استهدفت التشهير بها والنيل منها. وقامت بهذه الحملات المكثفة قوتان عالميتان عانيتان، هما : الاستعمار الأوروبي والصهيونية واتخذت هذه وتلك من المؤلفات التاريخية والبحوث (العلمية)، والتصريحات الرسمية ومن مجموعات الوثائق التي نشرتها بعض الحكومات الأوروبية مجالا رحيباً لإذاعة ما راق لها أن تنشره عن الدولة تحاملا عليها ، وقد ردد بعض المؤرخين والباحثين العرب عن جهالة أو تجاهل أو حقد تلك الآراء الخاطئة والظالمة معاً فى مؤلفاتهم، واستقرت في أذهان الأجيال المتعاقبة من رجال الفكر العربي والإسلامي صور حالكة الظلام عن الدولة العثمانية ، واقترن ذكرها في أفئدتهم بمظالم ومحن تكدست على رعاياها".

والدارس لتاريخ مصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين سيلاحظ بوضوح شديد أن النخب المصرية التي كانت تهاجم الدولة العثمانية هي نفسها التي كانت على ولاء للاحتلال الإنجليزي لمصر وقتها، ولها صداقات متينة مع اللورد كرومر ممثل الاحتلال الإنجليزي ومهندس الحالة التعليمية والثقافية والصحفية حينها.

ثم يشير العالم الجليل الدكتور عبد العزيز الشناوي إلى الجهود الضخمة التي قامت بها الدولة العثمانية لحماية بلاد الإسلام من مصير "الأندلس"، فيقول : "وغفل أولئك المتحاملون عن الخدمات التي أسدتها الدولة لولاياتها العربية بوجه خاص، وهي خدمات يجب أن تذكر لها وتشكر عليها، وتناسوا أيضاً أن الدولة العثمانية واجهت أخطاراً دولية جسيمة كانت تهدد العالم العربي بأفدح الأخطار. وكان من بينها وصول البرتغاليين إلى البحار الشرقية وتسللهم إلى شرق الجزيرة العربية واستيلاؤهم على مواقع عسكرية هامة ومحاولاتهم المكررة دخول البحر الأحمر من منفذه الجنوبي للاستيلاء على جدة والزحف منها على مكة المكرمة لهدم الكعبة الشريفة ثم موالاة الزحف على المدينة المنورة لنبش قبر الرسول صلوات الله وسلامه عليه . وكان الغزو البرتغالى لشرق الجزيرة العربية هو أول غزو أوروبي عسكري صليبي في التاريخ الحديث لأقاليم عربية . وكان شعاره : الصليب أو المدفع" .

"وإذا كان تاريخ الدولة العثمانية قد تكاثرت حوله الافتراءات والأباطيل فليس معنى ذلك أنها كانت مبرأة من المآخذ والعيوب ، فلكل دولة مزايا تذكر لها ، ومآخذ تسجل عليها، وليس من الدراسة الموضوعية ولا من الأخلاق إغفال المزايا لأى دولة والاقتصار على تسجيل عيوبها ، بل يجب عرض الجانبين معاً".
ثم ينتهي العالم الجليل إلى الدعوة إلى الإنصاف في التعامل مع دولة امتد عمرها قرابة 600 عام أو يزيد، وأنه حين نذكر معايبها فليس من الإنصاف أن نتعمد تجاهل فضائلها وإنجازاتها ويصف ذلك بأنه "سلوك غير أخلاقي".

ويقول : "وإذا كان تاريخ الدولة العثمانية قد تكاثرت حوله الافتراءات والأباطيل فليس معنى ذلك أنها كانت مبرأة من المآخذ والعيوب ، فلكل دولة مزايا تذكر لها ، ومآخذ تسجل عليها، وليس من الدراسة الموضوعية ولا من الأخلاق إغفال المزايا لأى دولة والاقتصار على تسجيل عيوبها ، بل يجب عرض الجانبين معاً".

أيضا، تصور البعض للعلاقة بين المصريين والدولة العثمانية، لا تخلو من جهل عجيب، فلقد كان المصريون ينظرون إلى الدولة العثمانية باعتبارها حاملة راية خلافة الإسلام في الأرض، الممتدة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم تنقطع يوما عن الأرض، وكان ولاؤهم لتلك الدولة عميقا، وتعبديا، ونابعا من الولاء الديني لولي الأمر وفق أصول الشريعة، وكانت الاحتفالات تعم مصر كلما حقق الجيش العثماني انتصارا في أوربا أو آسيا، وإذا وقعت مظالم من أحد الولاة فإن غضب الناس ينصب على الوالي وسلوكه، كما يحدث اليوم من أي معارضة لسلوك حاكم ملك أو رئيس، ولا يتصل ذلك بنقض الولاء للدولة ذاتها، بل كان الأهالي أحيانا يرسلون بالشكوى من الوالي إلى "البيت العالي" لإنصافهم، وغالبا ما كان يتم عزل الوالي من قبل السلطان العثماني ترضية لأهالي تلك الولاية.

ولتوضيح تلك المشاعر على حقيقتها، أنقل هنا نصا بديعا، للأديب والمفكر المصري الكبير الدكتور عبد الوهاب عزام، أستاذ الأدب العربي وعميد كلية الآداب بجامعة القاهرة ـ خلفا لطه حسين ـ وسفير مصر بعد ذلك في عدة دول، وهو يتحدث عن علاقة المصريين بالدولة العثمانية، وقد كتب هذا النص بعد زوال الدولة العثمانية بسنوات طويلة، حتى نسيها الناس، وكانت وقتها تهاجم في تركيا نفسها أيام مصطفى كمال، فكتب يسجل مشاعره في العام 1935 فيقول : "الترك العثمانيون إخوان لنا ، نشأنا على حبهم، ومنحناهم قلوبنا فتمكن بها ولاؤهم ، وشببنا نعدهم علم المسلمين الخفاق في زمن تنكست فيه أعلامهم، وجيشهم المجاهد على حين تفرقت الأجناد ، وتخاذلت الأعضاد، كنا نعد مفاخرهم مفاخرنا ، ومثالبهم مثالبنا، وترى صلاحهم صلاحنا ، وفسادهم فسادنا ، نصرناهم جهد العاجز بألسنتنا وأموالنا وبأيدينا وسع الأيدي المغلولة، والأعضاد المغلوبة، ولا يزال التاريخ الحديث يدوى بحادثات المدرعة (حميدية)، وحروب طرابلس والبلقان، وقدوم الطيارين العثمانيين إلى مصر، وغير هذا مما يشهد بالحب الصادق ، والمودة المخلصة ونفرح كلما فرحوا ، ونبتئس كلما ابتأسوا، وكلما نزلت بهم نازلة، ولقد نشأت على هذا الحب، لا يطربني إلا ما أطرب الترك، ولا يسوؤنى إلا ما ساءهم ؛ وفيهم تعلمت الشعر فشدوت به في حروب طرابلس والبلقان، وكتبت في الحرب الأخيرة (الحرب العالمية الأولى) أعطف عليهم القلوب، وأستحث الهمم على الامداد بالمال، ولست أمنُّ عليهم بذلك فقد كان فرضاً على وعلى غيرى، ولما قذف جنود الترك الأماجد بجيش اليونان في البحر كاد الناس في مصر وغير مصر يجن جنونهم فرحاً وزهواً".

هذه هي روح مصر الحقيقية وعلاقتها الروحية والدينية والسياسية بالدولة العثمانية في تلكم الحقبة، بعيدا عن الشعبوية الجاهلة والشعوبية البغيضة التي تحاول تسويق خرافات وجدانية وسياسية من محض الخيال ودوافع العصبية العرقية المقيتة، عن علاقة المصريين بالدولة العثمانية.