أفكَار

كيف تصنع الظروف الفردية والاختلافات الشخصية رؤى العقلاء وتشكل مواقفهم الفكرية؟

المسيرة الفكرية ليست مجرد نتاج للموهبة أو الإبداع وحدهما، بل هي نتاج مصائر وظروف شخصية واجتماعية أحيانًا غير متوقعة، تفرض على الإنسان خيارات قد تبدو متناقضة لكنها جزء من تجربة الحياة.
هذا النص الذي تنشره "عربي21" كتبه الكاتب والباحث المصري جمال سلطان ونشره أيضا على صفحته في منصة فيسبوك، يسلط الضوء على الصدف والمصائر الشخصية التي شكّلت حياة عدد من أبرز المفكرين والكتاب العرب، وكيف انعكست هذه الظروف على مواقفهم الفكرية والاجتماعية.

يتناول الكاتب شخصية رضوان السيد، المفكر والباحث اللبناني، من خلال تجربته الشخصية التي بدأت من طفولة صعبة بسبب عيب خلقي في ساقه، الأمر الذي دفعه نحو التعلم والعلم، ليصبح واحداً من أبرز الأكاديميين والمفكرين في العالم العربي، مؤكدًا أن تحديات الحياة يمكن أن تتحول إلى فرص لإبداع الفكر والبحث.

كما يستعرض النص قصص أنيس منصور وهدى شعراوي، ليظهر كيف أن السياقات العائلية والاجتماعية قد تدفع المفكرين والمبدعين أحيانًا إلى مواقف تبدو متناقضة مع قناعاتهم النظرية، لكنها تبرز الجانب الإنساني والظروف الواقعية المؤثرة في صياغة قراراتهم وسلوكهم.

النص يقدّم درسًا مهمًا للقارئ العربي: أن المسيرة الفكرية ليست مجرد نتاج للموهبة أو الإبداع وحدهما، بل هي نتاج مصائر وظروف شخصية واجتماعية أحيانًا غير متوقعة، تفرض على الإنسان خيارات قد تبدو متناقضة لكنها جزء من تجربة الحياة.


المصائر والصدف في حياة المفكرين والكتاب

"رضوان السيد"، مفكر وباحث لبناني كبير، وهو واحد من أهم الباحثين والمفكرين العرب في العقود الثلاثة الأخيرة، لغزارة انتاجه من كتب أو مقالات أو مشاركات في فعاليات ثقافية وفكرية، كما أنه أحد نجوم أي مؤتمر عربي أو إسلامي يعقد في أي عاصمة عربية، من المحيط إلى الخليج، فهو "أستاذ" في الخبرات المتعلقة بالعلاقات العامة، وهو داهية في قراءة عقول النخب السياسية الحاكمة في كل بلد، ويعطي كل شخص على قدر "نيته" !!.

عرفته عندما التقينا في عدد من المؤتمرات الفكرية في عواصم عدة، وهو شخص لطيف المعشر، وابن نكتة، وكثيرا ما كان يشاغبني عندما يلقاني ويقترب مني بطريقته المعتادة ـ حيث يقترب كثيرا من الشخص حتى يكاد يلتصق به، ثم يصعد نظره في وجهه من أسفل كأنه يتفرسه أو يحقق معه! ـ ويقول لي: جمال أين وصلت في جماعة الإخوان المسلمين؟!، وهو يعرف أن لا صلة لي بالجماعة، وكنت أرد على مشاغبته بالجواب المعتاد: تركتها بعد خروجك منها مباشرة يا دكتور رضوان، فيبتسم ابتسامته الماكرة، وهو عادة لا يضحك أبدا إلا نادرا.

يقول رضوان، أن هذا "العرج" الذي ابتلي به كان السبب الذي فتح له آفاق العلم، وكان هو الباب الذي فتح له ليجتهد ويقاوم كل الظروف الصعبة لكي يحقق ذاته، حتى انتهى به المطاف في أرقى الجامعات الألمانية يعرض أطروحته للدكتوراة باللغة الألمانية عن ثورة ابن الأشعث في الحقبة الأموية.
ذات يوم من أيام الغربة دعوته إلى "وليمة" مصرية فخيمة في شقتي في جزيرة "مالطا" حيث كنا نعمل أيامها، نالت الوليمة استحسانه الشديد، ففاضت قريحته، ورقت مشاعره مع أجواء الغربة، وكان معنا وجيه كوثراني، وراح يحكي الكثير من ذكرياته اللطيفة مع الدنيا والناس.

ومما قاله لي يومها، أنه ابن أسرة لبنانية بسيطة متواضعة فقيرة، وأبوه كان يرعى الأغنام مع أشقائه، وهذا رزقه، ولكن "رضوان" عندما ولد كان قد ولد بمشكلة خلقية ، حيث إحدى قدميه أقصر من الأخرى قليلا، وهو ما يفرض عليه بعض العرج في خطواته، يعوقه عن السير السريع أو الحركة الخفيفة التي تقتضيها مسؤولية رعي الأغنام، حتى يئس أبوه من أن يستفيد منه مع أشقائه في العمل، فقال له ذات يوم: أنت "مش نافع"، ولا تصلح للعمل معنا ولن تفيدنا بشيء، فاذهب إلى المدرسة لعلك تتعلم شيئا، باعتبار أن المدرسة تأوى "الفاشلين" الذين لم يفلحوا في سوق العمل !.

يقول رضوان، أن هذا "العرج" الذي ابتلي به كان السبب الذي فتح له آفاق العلم، وكان هو الباب الذي فتح له ليجتهد ويقاوم كل الظروف الصعبة لكي يحقق ذاته، حتى انتهى به المطاف في أرقى الجامعات الألمانية يعرض أطروحته للدكتوراة باللغة الألمانية عن ثورة ابن الأشعث في الحقبة الأموية.

يقول رضوان معقبا: ربما لو ولدت سليما، بدون هذا العرج، لكنت ما زلت هناك في إحدى الضيعات في لبنان أرعى الغنم مع أولادي وأحفادي.

ومن غرائب ما وقع للكتاب والمفكرين من مصائر ، وآثارها على اختياراتهم الفكرية والإنسانية، ما حدث مع الكاتب المصري الشهير "أنيس منصور"، وكان صاحب قلم سيال وسهل وممتع، وله مؤلفات في مختلف شؤون الحياة، خاصة في دنيا السفر، وكان فيلسوفا بالفعل، كما كان من مدرسة العقاد وتلاميذه، وله كتابات عن أيامه مع العقاد.

وعلى رغم أن المفكر الفذ عباس محمود العقاد من مدرسة مخاصمة للمرأة إلا أن "أنيس" كان عكسه، وكان يقدم نفسه كنصير للمرأة، كما كان يدعو إلى الحداثة ويناصرها، ويقاوم "التقاليد" البالية، ونمط المجتمع القديم، غير أنه ـ رغم قناعاته تلك ـ كان يقف على الشاطئ الآخر من الحداثة في مسألتين انتشر الحديث عنهما كثيرا بين النخبة والمثقفين، وأثارا الكثير من الجدل والمعارك الفكرية، حتى بين قيادات سياسية ومسؤولين كبار في مصر منهم رئيس الجمهورية، وهما مسألتا: تعدد الزوجات، وتحديد النسل.

على رغم أن المفكر الفذ عباس محمود العقاد من مدرسة مخاصمة للمرأة إلا أن "أنيس" كان عكسه، وكان يقدم نفسه كنصير للمرأة، كما كان يدعو إلى الحداثة ويناصرها، ويقاوم "التقاليد" البالية، ونمط المجتمع القديم، غير أنه ـ رغم قناعاته تلك ـ كان يقف على الشاطئ الآخر من الحداثة في مسألتين انتشر الحديث عنهما كثيرا بين النخبة والمثقفين، وأثارا الكثير من الجدل والمعارك الفكرية، حتى بين قيادات سياسية ومسؤولين كبار في مصر منهم رئيس الجمهورية، وهما مسألتا: تعدد الزوجات، وتحديد النسل.
"أنيس منصور"، الحداثي والمعارض للتقاليد، فاجأ الجميع برفضه الانسياق وراء موجة إدانة تعدد الزوجات أو الدعوة لتحديد النسل، وكانت صدمة كبيرة لقرائه ومتابعيه، لكنه شرح ذلك في مقال غاية في الطرافة والغرابة، حيث قال أنه ـ بشكل شخصي جدا ـ لا يستطيع أن يكون في معسكر محاربة التعدد لأنه ابن الزوجة الثانية، فكيف يهين أمه أو يعلن الحرب على موقع كانت هي فيه، وأما رفضه الانسياق وراء دعوة تحديد النسل فذلك أنه كان الابن التاسع لأبيه بين أشقائه، فلو كان هناك تحديد للنسل لما كان هو نفسه موجودا!.

ومن غرائب ما يجري للنخب الفكرية ويجعلها ـ من الناحية العملية ـ في معسكر مناقض لدعواتها الإنسانية النظرية التي طالما نافحت عنها، ما حكاه مصطفى أمين من قصة هدى شعراوي، إحدى أبرز رموز الحركة النسوية في مصر حتى عرفت ـ إعلاميا ـ بمحررة المرأة، لأنها أول من خلع النقاب، إلا أن صراعها مع زوجة ابنها محمد شعراوي، كان يعتبر نقطة سوداء في تاريخ السيدة التي عرفت بأنها نصيرة المرأة وداعية تحرر المرأة وتكريم المرأة والمساواة ونحو ذلك، فعندما وصلت المسألة إلى بيتها اختلف موقفها تماما ووقفت على الشاطئ الآخر تماما ضد المرأة.

والقصة أن "هدى شعراوي" أقامت حفلا في قصرها لإحدى المناسبات الأسرية ، غنت فيه مطربة شبه معروفة وقتها اسمها "فاطمة سري"، وكان في الحفل ابنها محمد شعراوي ، الذي أعجب بالمطربة، وتعلق قلبه بها، وارتبط بها عاطفيا، ورغب في الزواج منها إلا أن أمه "هدى شعراوي" رفضت ذلك بشدة، على اعتبار أنه لا يوجد "تكافؤ" بين الاثنين ، لأن ابنها ابن باشوات، أما هي فهي مطربة وبالتعبير الشعبي "بيئة"، لكن الولد رفض الانفصال عن المطربة، وأقام علاقة زواج عرفي بالفعل أثمرت عن حمل المطربة، فحاولت "هدى شعراوي" أن تجبرها على إجهاض نفسها، إلا أن الطبيب حذرها من خطورة ذلك على حياتها، حتى وضعت ابنتها "ليلى"، وكتب ابن هدى شعراوي وثيقة إقرار بأبوته للطفلة، لكن أمه "نصيرة المرأة" رفضت بإصرار الاعتراف بها حفيدة لها أو أن تسجل الطفلة باسم ابنها، ودارت معركة بين المرأتين في المحاكم، ولجأت "هدى شعراوي" إلى أساليب لا تليق، عندما حاولت تلفيق قضية "دعارة" لزوجة ابنها، التي خافت على نفسها فسافرت إلى أوروبا مع طفلتها خوفا من بطش "هدى" وأسرتها.

وقد عادت بعد سنوات، لتخوض معركة قضائية جديدة لإثبات نسب ابنتها، تحدتها "هدى شعراوي" من جديد في المحاكم، إلا أن المطربة انتصرت في النهاية على نصيرة /عدوة "المرأة" ، وتم تسجيل الطفلة ليلي محمد شعراوي ، لتكون حفيدة ، رغم أنف الجدة ! .