منذ أكثر من
ثلاثة عقود، وجميع الدول العربية تعترف بفلسطين كدولة مستقلة ذات سيادة (الجزائر
كانت أول
دولة عربية تعترف بفلسطين، وكان ذلك في عام 1988). ثم ماذا بعد؟ لا شيء،
لأنه وكما يقول المثل السوداني: "الحيلة قليلة والخشم بليلة". والخشم في
العامية السودانية هو الفم، وعند الطبخ تتبارى حبيبات البليلة في القفز محدثة صخبا
يشي بأنها أكلة عظيمة الشأن، أي أن الدول العربية تحدث جلبة وضجيجا وهي تتناول
الشأن
الفلسطيني باللسان، حتى لتحسب أن قيامة
إسرائيل على وشك القيام.
اليوم هناك 151
دولة تعترف بفلسطين، وعلى رأسها جميع الدول العربية، وتقريبا جميع الدول الأفريقية
واللاتينية والآسيوية، ثم جاء الدور على كندا وبريطانيا وفرنسا وأستراليا
والبرتغال، بينما أعلنت بلجيكا ومالطا ولكسمبورغ أنها ستنضم قريبا الى قائمة
المعترفين بالدولة الفلسطينية، وبهذا فإن أربعا من الدول الخمس دائمة العضوية في
مجلس الامن الدولي (بريطانيا وفرنسا والصين وروسيا)، وبعضها ومعها كندا تتمتع
بعضوية مجموعة السبع (جي 7) الصناعية الكبرى، تقف مع الحق الفلسطيني، بينما تبقى
الولايات المتحدة متخندقة مع إسرائيل، معلنة أن
الاعتراف بفلسطين مكافأة لحركة
حماس، ولا يرتجى أن تغير موقفها مهما علا الغضب الشعبي في الشارع الأمريكي ضد حرب
الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، طالما الرئيس الحالي دونالد ترامب جالس في
البيت الأبيض.
انحيازها هذا في ظاهره شكلي بـ"اللسان"، ولكنه على شكليته عظيم الدلالات، ففيه اعتراف ضمني بحق فلسطين في الوجود في حدود حزيران/ يونيو 1967، وفي القدس الشرقية، لأنه اعتراف يقوم على قرارات أممية
والشاهد هنا هو
أن دولا ذات ثقل ضخم في المحفل الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة، لم تعد تأبه
للابتزاز الإسرائيلي، وقررت الانحياز للفلسطينيين، وانحيازها هذا في ظاهره شكلي بـ"اللسان"،
ولكنه على شكليته عظيم الدلالات، ففيه اعتراف ضمني بحق فلسطين في الوجود في حدود
حزيران/ يونيو 1967، وفي القدس الشرقية، لأنه اعتراف يقوم على قرارات أممية. وما
هو أهم من كل ذلك هو أن بريطانيا باتت تشكل رأس الرمح في هذه العملية، فالتاريخ
يشهد على أنها من بث السموم في أوصال عشرات الدول التي كانت تستعمرها، وما زال
السم يسري في أوصال السودان وجنوب اليمن وزيمبابوي وكينيا وغيرها، وهي من وضع
إسرائيل لأول مرة على الأطلس ثم الأرض، وظلت تغذيها وترعاها وتقدم لها السند
للإفلات من العقوبات الدولية، وإذا برئيس حكومتها الحالي كير ستارمر يعلن الأسبوع
الماضي أن الاعتراف بدولة فلسطينية هو الطريق الى دولة فلسطينية "ذات جدوى
وقابلية للاستمرار تتعايش مع إسرائيل آمنة".
والأمر الذي لا
يمكن إغفاله، هو أن ملايين العرب والمسلمين المقيمين في الدول
الغربية صاروا جهيري
الأصوات، منذ استعار أوار الحرب على غزة، وأن الحكومات الغربية التي سارعت الى
الاعتراف بفلسطين مؤخرا أدركت أن الكتلة الانتخابية العربية-المسلمة ستلعب أدوارا
حاسمة في عمليات الاقتراع لانتخاب الحكومات، وظلت هذه الكتلة خاملة لسنين عددا
وتتفرق أصواتها بين القبائل الحزبية، وتحولت اليوم الى كتلة صلبة تحكم على تلك
القبائل في ضوء موقفها من الحقوق الفلسطينية. وهذا ما أدركه ماركو روبيو وزير
الخارجية الأمريكي حين قال تعقيبا على اعتراف حلفاء أمريكا التاريخيين بالدولة
الفلسطينية: "إنهم يتجاوبون مع معطيات سياسات بلدانهم الداخلية.. مع المحتجين
في الشوارع وما إلى ذلك"، ولم يفت على روبيو صنيعة ترامب أن يصم الرئيس
الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتهور لأنه كان رأس رمح تلك الاعترافات.
جاء في اتفاقية
مونتفيديو الدولية لعام 1933 عن حقوق وواجبات الدول، أن الاعتراف بوجود دولة يقوم
على وجود سكان دائمين فيها، في رقعة جغرافية معلومة، لتصبح لها حكومة تقيم علاقات
دبلوماسية مع دول أخرى. وفيما يتعلق بفلسطين، فإن القانون الدولي المستند على
اتفاقية مونتفيديو يقول إن خضوع جزء من تلك الرقعة الجغرافية للاحتلال، لا يمنع
الاعتراف بحق تلك الدولة في الوجود.
ما هو أهم من كل ذلك هو أن الدول الغربية التي تبارت مؤخرا للاعتراف بفلسطين الدولة، وضعت فلسطين وإسرائيل على كفتين متوازيتين في ميزان القانون الدولي
حتى عام 2014
كانت السويد هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تعترف بالدولة الفلسطينية، ثم جاءت
الحرب على غزة فانضمت إلى السويد كل من النرويج وسلوفينيا وبريطانيا وفرنسا وأيرلندا
والبرتغال، والحبل على الجرار. ولعل الحرب الاقتصادية التي شنها ترامب على حلفائه
الأوروبيين، وتنصل واشنطن من التزاماتها تجاه حلف الأطلنطي، لعبت دورا حاسما في حض
الدول الأوروبية على الخروج من بيت الطاعة الأمريكي، فيما يتعلق بالعلاقات الدولية،
وتحديدا القضية الفلسطينية.
ولمن يقولون إن
الاعتراف المتزايد بفلسطين كدولة مستقلة فقط ذو قيمة رمزية، يقول البروفيسور
فيليبي ساندس، أستاذ القانون البريطاني- الفرنسي، في حوار مع صحيفة نيويورك تايمز
الأمريكية في منتصف آب/ أغسطس الماضي: "على رمزيتها المفترضة، فإنها تغيّر
قواعد اللعب تماما، لأن فلسطين تملك كل مقومات الدولة".
وخلاصة القول هي
أن الدول التي صنعت إسرائيل وآزرتها وهي تعربد في الشرق الأوسط، هي -وبما تملك من
نفوذ سياسي واقتصادي على مستوى العالم- الأكثر قدرة، على ممارسة الضغوط على
إسرائيل؛ ليس فقط لمنعها من إعادة احتلال الضفة الغربية وغزة، بل للاعتراف بالدولة
الفلسطينية بحدودها المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي 242 لعام 1967، وما
هو أهم من كل ذلك هو أن الدول الغربية التي تبارت مؤخرا للاعتراف بفلسطين الدولة،
وضعت فلسطين وإسرائيل على كفتين متوازيتين في ميزان القانون الدولي.