كتاب عربي 21

جيلي جيل الابتلاءات الجسام

كنت كلما أحبطني انتمائي العربي، وأحسست بأن القضية الفلسطينية لم تعد بأي حال "مركزية" في جدول أعمال مجموعة الجامعة العربية، استعصم بأفريقيتي، وأتباهى بأن أهلي الأفارقة هزموا الاستعمار الاستيطاني.. الأناضول
قال أبو العلاء المعري فيما قال:

أراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني
فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ

لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي
وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ

يشكو أبو العلاء هنا من فقدان البصر، الذي جعله حبيس بيته، وهذا فوق أن نفسه حبيسة جسده الموصوم عنده بالخبث.

ورغم أنني أقصر قامة وهامة من أبي العلاء، إلا أنني استدعي بيتي الشعر أعلاه كلما تذكرت أنني حبيس أفريقيتي ـ وعروبيتي، ثم استدرك "وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، وأتذكر أن "المؤمن مصاب"، وأن الله يبتلي عبده في أمور كثيرة، ولا يعني هذا أنني اعتبر انتمائي الأفريقي ـ العربي ابتلاء بالمعنى الدارج للكلمة، ولكنه قطعا انتماء جنيت من ورائه الكثير من الإحباط والغضب والضيق، بل وفي لحظات الضعف الشديد "اليأس".

نحن الجيل الذي غنى لثوار الأوراس في الجزائر، وبن بيلا ثم بومدين، ثم من؟ جنرال إثر جنرال أو مدني يتستر على جنرال، وغنى لثوار بنزرت في تونس، ثم جفت الحلوق بعد ان صار بورقيبة رئيسا مزمنا كبقية رصفائه العرب، وورث الحكم عنه بن علي، وثار شعب تونس ونفض العناكب  السامة من قصور الحكم، وها هي الأمور تؤول في تونس لتلميذ لبن علي، وفي ليبيا زال نظام السنوسي الملكي في أيلول سبتمبر 1969، فإذا بملك أشعث أغبر اسمه القذافي، يجثم على صدور الليبيين لأكثر من أربعة عقود، وسطر الشعب الليبي في عام 2011 ملحمة نضالية بالدم، وها هي ليبيا لا تزال تنزف، وفي اليمن قام النظام الجمهوري بكلفة عالية في الدماء في ستينات القرن الماضي، وما زالت أنهار الدم تجري في اليمن الذي لم يعرف السعد في قرونه الأخيرة، وفي العراق زال حكم حزب البعث، في عام 2003، فآلت الأمور في بلاد الرافدين الى أحزاب العبث بالأرواح والأموال والسيادة، ورقص ملايين العرب طربا لخلاص سوريا من كابوس آل الأسد، وها هي الأفاعي التي ظلت في حال كمون لنحو ستة عقود، تخرج من جحورها في منطقة الساحل والسويداء، لتنهش جسد سوريا المنهك. والسودان الذي تباهى أهله بأنهم أول من نالوا الاستقلال من الاستعمار في افريقيا، انقسم الى سودانَيْن في عام 2011 ومرشح اليوم الى التشظي إلى دولتين أو أكثر.

أما حكاية جيلي مع فلسطين ف"خليها على الله"، فقد كانت معنوياتنا مغروسة في قلب الشمس، بعد أن وعدنا إعلام مصر جمال عبد الناصر الذي بايعناه زعيما لشعب من المحيط إلى الخليج، في 5 حزيران يونيو 1967 بأن صلاة العصر و"بالكثير" صلاة المغرب ستكون في تل أبيب. وما زالت ذاكرتي تستعيد: أنا النيلُ مقبرةٌ للغزاة/ أنا الشعبُ نار تُبيدُ الطغاة... / سنمضى رعوداً ونمضى اسوداً/ نرددُ أُنشودةَ الظافرين. وصحونا  بعدها بأيام قليلة لنكتشف أن كامل فلسطين قد ضاعت.

حكاية جيلي مع فلسطين ف"خليها على الله"، فقد كانت معنوياتنا مغروسة في قلب الشمس، بعد أن وعدنا إعلام مصر جمال عبد الناصر الذي بايعناه زعيما لشعب من المحيط إلى الخليج، في 5 حزيران يونيو 1967 بأن صلاة العصر و"بالكثير" صلاة المغرب ستكون في تل أبيب. وما زالت ذاكرتي تستعيد: أنا النيلُ مقبرةٌ للغزاة/ أنا الشعبُ نار تُبيدُ الطغاة... / سنمضى رعوداً ونمضى اسوداً/ نرددُ أُنشودةَ الظافرين. وصحونا بعدها بأيام قليلة لنكتشف أن كامل فلسطين قد ضاعت.
وقلنا خيرها في غيرها، ونقلنا الولاء العاطفي من عبد الحليم حافظ وام كلثوم الى فيروز، لأنها وعدتنا بأن:

الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان/ الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان/

من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ وسيهزم وجه القوة سيهزم وجه القوة / البيت لنا والقدس لنا/ و بأيدينا سنعيد بهاء القدس، وهنا نحن اليوم وقد  تحجّرت الدموع في مآقينا، على حال ما تبقى من أهلنا في غزة، وملايين الأكف ترتفع بالدعاء: اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوَّتنا، وقلَّة حِيلتنا، وهواننا على الناس، اللهم أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربنا، لا إله إلا أنت، إلى من تكِلنا، إلى قريبٍ يتجهمنا، أم إلى عدوٍ ملكته أمرنا، إن لم يكن بك سخطٌ علينا فلا نبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لنا.

كنت كلما أحبطني انتمائي العربي، وأحسست بأن القضية الفلسطينية لم تعد بأي حال "مركزية" في جدول أعمال مجموعة الجامعة العربية، استعصم بأفريقيتي، وأتباهى بأن أهلي الأفارقة هزموا الاستعمار الاستيطاني البرتغالي في أنجولا وموزمبيق، وغينيا بيساو والاستعمار الاستيطاني البريطاني في روديسيا الشمالية (صارت زامبيا) وروديسيا الجنوبية (صارت زيمبابوي)، وأرجع البصر الى تلك الدول فيرتد الي خاسئا وهو حسير، إذ أن جميع تلك الدول تقوم من نُقرة تقع في دحديرة" كما يقول المثل المصري عن النهوض من مطب للوقوع في مطب أكثر عمقا وضررا.

 والشاهد: معي الحق في أن أكون محبطا، وألّا أرى في الأفق ما يشير الى نهوض ما يسمى مجازا بالمارد العربي، ولكنني أرى خلل الرماد المتصاعد من ارض غزة وميض برق واعد، سيؤتي مطرا يستسقي منه جيل عيون بناته وأبنائه أشد من عيوننا بريقا، وصدورهم أكثر اتساعا، يجمعون بين الأمل وحسن العمل.

Jafabbas19@gmail.com