كتاب عربي 21

مشروع الانبعاث الحضاري وأصول المنهاجية "مشاتل التغيير" (32)

في البداية يجب أن نتوقف عند التعريف وخرائط التصنيف وقدرات التوظيف لأن هذه الأمور والوصل والصلة فيما بين الأطر البحثية لمناهج التفكير التي تشكل المقدمات الأساسية ومناهج البحث التي تمثل الطرائق والأساليب في البحث والدرس كل ذلك من الأمور المهمة..
من أهم ما يتسم به مشروع الانبعاث الحضاري اهتمامه بالمنهاجية التي تعد الحصن الحصين في عمليات الاستجابة الإحيائية؛ ما بين إرادة الخروج وعمليات الانبعاث والإحياء. ويقع هذا المشروع استشرافا لعمليات تنزيله وتوقيعه في ميادين ومجالات الحياة المتنوعة؛ فيما أسماه هذا المشروع بـ "الانتقال الحضاري"؛ أن من حسن الأداء في ميدان ما أو مجال معرفي بعينه معرفة طرقه وإشاراته وتنبيهاته وأساليب السير فيه وأدواته بلوغا للمقصود وتحصيلا للمنشود. 

كان من بين الدواعي لتفسير ذلك الاختزال في العمل والإهمال لمسألة المنهج والتطبيقات المتعلقة به والإغفال لبعض معطيات المناهج وموجباتها والانفصال بين الموضوع وصاحبه (أي الباحث) والطريق الذي يسلكه والأدوات والعدة التي يتزود بها للسير فيه من أقصر طريق وأوصل جهة وأوضح تطبيق وأداء، يكون من حيث معرفته بالطريق يرد الإبل من مواردها وتفتح مغاليق الأبواب البحثية له بمفاتيحها.

غاية الأمر أننا لم نزود الباحث أو المهتم بجملة المفاتيح لفتح أبواب المنزل أو البيت من خارجه ومداخله، ومن داخله وحجراته المختلفة ومرافقه الخادمة المتنوعة، كل بمفتاحه وكل بمدخله، فيقيم فيه ما أقام لاستثماره ويجيد اعتباره لكل ما يلزم من آليات وأداء وإعداد وعدة، وإمكانات وقدرات، أول تلك المفاتيح مفتاح القراءة ومناهجها ومفتاح التلقي وأدواته ومفتاح الكتابة وأساليبها ومفتاح البناء العقلي وبنياته، ومفاتيح مناهج التفكير وقدراته ومهاراته..

إن إهمال مسألة المنهج والمنهاجية ضمن مناهج التفكير والبحث والتغيير والفاعلية والتأثير أثر بالسلب على الرؤى التي تتعلق بمشاتل التغيير والنهوض وهي حقيقة سنثبت في مقالات أخرى جدواها وما يمكنها أن ترشد إلى مناهج التفكير وتؤسس لمداخل سعي ووعي؛ ومرجعية تأسيس ووحي؛ وأصول تدبير وتغيير وتأثير؛ ولحديث المنهاجية بقية إن كان في العمر بقية.
وعلى أهمية المفاتيح السابق ذكرها إلا أن المفتاح الأساس في هذا المقام " Master Key "  إنما يتمثل في التعرف على مناهج التفكير؛ قدرات ومهارات وأدوات، خرائط وتنويعات وتصنيفات، فتعين الباحث في ممارسته البحثية وتطبيقاته العلمية مع تعدد مجالاتها وتكرار تجاربها وخبراتها، إن فعل التعقل والتفكر والتدبر إنما يشكل طاقة حقيقية للباحثين يجب أن لا يغفلوا عنها أو عن القدرات التي تتعلق بها بحيث يكون استخدامها المرة تلو المرة وربط ذلك بالتطبيقات والممارسات البحثية معينا في تكوين الملكة العلمية والبحثية وصقلها بعد كل ممارسة من خلال الوعد بضروراتها، والسعي بموجباتها، والقدرة على توصيفها، تأصيلا ما أراد، وتفعيلا ما استطاع، وتشغيلا مبدعا في أي مجال من المجالات.

ومن ثم في البداية يجب أن نتوقف عند التعريف وخرائط التصنيف وقدرات التوظيف لأن هذه الأمور والوصل والصلة فيما بين الأطر البحثية لمناهج التفكير التي تشكل المقدمات الأساسية ومناهج البحث التي تمثل الطرائق والأساليب في البحث والدرس كل ذلك من الأمور المهمة في تلك العمليات، وأن الوصل بين هذين الأمرين مناهج التفكير ومناهج البحث من جهة أخرى يتطلب وصلا بصيرا لكل أدوات التفعيل بمناهج التغيير ومناهج الفاعلية والتأثير، رباعية في غاية الأهمية بينها عروة وثقى لا انفصام لها، مناهج التفكير ومناهج البحث ومناهج التغيير ومناهج الفاعلية والتأثير.

ضمن شبكة من التفاعل الإيجابي فيعطي لتطبيقات مناهج التفكير في البحث الثمرة المرتبطة بهما وتحقيق المقاصد المعقودة عليهما في إطار من التفعيل المتكامل لكل ذلك مع مناهج التغيير المثمرة ومناهج الفاعلية والتأثير المحكمة، إنها دورة التفاعل والتبادل والتكامل حينما تتم بأصولها وشروطها فتكون تلك الشجرة المنهاجية الطيبة التي تنتج أكلها كل حين بإذن ربها في عقد أمر يتعلق بالصلة والاتصال والتواصل والواصل والموصول فيتحرك كل ذلك ببصر وبصيرة إلى محطة المقصد والوصول. 

وهو ما يجعل طبيعة النظر إلى تلك الرباعية ضمن منهج مأمون يتعلق ببلوغ المقصد والوصول ألا وهو النظر إلى حقيقة العلاقة أي يكون ذلك باعتبارها رسالة اتصالية كاملة ومتكاملة فتمثل أصالة في أدوارها ومقصدها، وكما يقول الإمام "الطوفي" أن مغزى الأصل في أصله هو الوصل فإن همزته قلبت (واو) وهو أمر لعَمره يعقد الوصل المعقود لبلوغ الوصول المأمون أصول الغاية والمقصد المنشود. وكذا من المهم تأكيدا على قاعدة أن الأصل هو الوصل أن نتحرك صوب محاولة تأسيس جملة من القواعد المهمة التي ترتبط بمسألة الصلة والوصول (فصل المقال لما بين مناهج التفكير ومناهج البحث ومناهج التغيير ومناهج الفاعلية والتأثير من الاتصال)، إن عملية التفسير بين الرباعية المنهاجية التفكير والبحث والتغيير والتأثير إنما تستند إلى دواع عدة تقيم أواصل هذه العلاقة ووشائجها المتينة والرصينة فتجعل الصلة طريقا للتواصل والاتصال ومعبرا للوصول إلى الهدف وبلوغ المقصود.

ولو أردنا أن نعدد تلك الجسور الواصلة بعرى وثيقة وروابط أكيدة وعمليات مهمة تشكل تلك الرؤية البنيوية فتشتد بها الأركان وتشد إليها الأعمدة من الاجتهاد والتجديد؛ والعلم النافع والعمل الصالح؛ ومن الواقع وموجباته؛ والوعي والسعي على ترابط بينهما والتحديات وارتباطها بالاستجابات؛ والسياقات المتعلقة بالفقه المتكامل: فقه الحكم وفقه الواقع وفقه التنزيل، كما أن من الأركان المهمة في هذا المقام السنة الماضية المتعلقة بضرورة الخروج من الأزمات ومواجهة التحديات ومتطلبات ذلك من إرادة موصولة بالعدة مقصودة وإدارة الإرادة والعدة معا {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] كما يرتبط ذلك أيضا بأركان متعلقة بتوصيف تلك العلوم في الرؤية الإسلامية بكونها علوم عمران قاصدة إليه، وعلوم أمة تتحرك نحوها البوصلة وتحدد الجهة والوجهة.

وأيضا تتحرك مسألة التأثير تلك ضمن عمليات متراكمة؛ وصلة من التدبير الواجب والتسيير اللازم كل هذه الروابط والمسالك المهمة في الجمع التفاعلي بين التفكير والبحث والتغيير والتأثير يكون فاعلا مؤصلا استنادا إلى رؤى مقاصدية عامة وكلية ورؤية سننية تحكم الأفعال وتحدد مسار الحركة بمدد من وعي شديد وسعي رشيد بفهم عميق وحركة فاعلة عادلة ويترافق مع هاتين الرؤيتين نموذج معرفي سفني إذ تجعل من مناهج التفكير السفني ومناهج البحث المرتبطة بها وكذلك المناهج التفكير والبحث المتعلقة بتسيير السفينة وإدارتها تجنبا لعاقبة الهلاك وسلوك مسالك الإنقاذ بلوغا لعاقبة الفلاح والنجاح.

إن تحريك وتنظيم وتأسيس تلك الروابط إنما يتجسد في فعل مؤسسي راشد وفاعل من مستودعات التفكير ومؤسسات لتأسيس عقل استراتيجي للأمة وجامعات ومراكز بحث حضارية، كل ذلك يرتبط بطرفي؛ باحث مهموم بقضايا أمته وعالم مسؤول ملتزم بوظيفته الكفاحية في اطار رؤية جامعة تؤكد على رؤية تستلهم أدب العالم والمتعلم ضمن رؤية تنشد إلى منظور حضاري واعي بأصول فقه حضاري بقواعده وموجباته، في سياق ممارسة واسعة وممتدة لشورى باهضة في قلبها الشوري البحثي مستندا في كل التركة برؤية واضحة رافعة دافعة ناهضة مؤسسة على نموذج معرفي توحيدي مستلهمة رؤية منفتحة متسعة الأفق للكون والعالم داعية وواعية بأن هذه الرؤى لا يمكن القيام بواجباتها في التأصيل والتفعيل والتشغيل إلا من خلال ممارسة تربوية ونشاطات تعليمية واسعة، وخطة تدريبية ومهاراتية ممتدة تمكن لتكوين شبكة ملكات ومكنات متعلقة بمناهج التفكير ومناهج البحث ومناهج التغيير ومناهج الفاعلية والتأثير في أرض الله الواسعة وميدان الحياة العامرة.

ولعل ارتباط مناهج التفكير بتراث في الإنسانية من المسائل المهمة المتعلقة بمناهج التفكير التي أشرنا إليها أن هذه المناهج تعبر عن عمليات ذهنية بديهية وفطرية يقوم هؤلاء من بعد بتطويرها في أشكال وأساليب ومناهج للتفكير تتعلق بمستويات دنيا للتفكير ومستويات عليا وحينما نرى مناهج التفكير في أبعادها الإنسانية سنجد أن التفكير يتخذ عدة تصنيفات على قاعدة من معايير متنوعة ومتعددة، ذلك أن عمليات التفكير بطبيعتها تتعلق بكل شيء في حياة الإنسان فالإشكال البحثي ليس بعيدا عن أي مشكلة يمكن أن تواجه الإنسان وليست بعيدة عن عمليات التفكير الفطرية التي يقوم بها لمواجهة مشكلة ما، فالمشكلة لابد أن تتعين وتوصف في إطار تحديد المشكلة، ثم يقوم الإنسان باستعراض عناصر المشكلة والمعلومات التي تحيط بها، ثم يفترض فروضا عدة يستبعد بعضها ويستبقي بعضها، ثم يجتهد في وضع البدائل والحلول لتلك المشكلة، هذا شأن الإنسان وهو شأن الباحث لممارسة ما يسمى البحث العلمي، إلا أن الخطوات التي مورست من غير قصد وكيفما اتفق تتحول إلى خطوات منظمة مرتبة متتالية وتتوسل أدوات وتجمع من مصادر ومن المراجع وتناقش افتراضات واحتمالات وتقدم بدائل وحلول.

ليس الهدف من هذا المقال أن نستعرض بالتفصيل مناهج التفكير أو نشرح محتواها، بل أن نلفت الانتباه إلى أهميتها وتنوعها واختلاف تصنيفاتها وفق معايير متعددة. لذلك سنكتفي هنا بالإشارة إليها وذكر بعض أمثلتها أو تعريف بعضها تعريفاً موجزاً، مع التأكيد أن هذا لا يُغني بأي حال عن ضرورة دراسة كل منهج والتعامل معه على حدة ضمن نماذج لمناهج التفكير الاعتيادية والعليا بما فيها من بنية أساسية لمناهج البحث والتغيير، والهدف من ذلك أن ندل أن مناهج التفكير والتعرف عليها والتطور الذي طرأ على بنيتها هي أمور أساسية كمقدمات ضرورية للدخول إلى مناهج البحث واستنادها إليها كمقدمات لا يجوز بحال إغفالها أو الدخول إلى مناهج البحث مباشرة بدونها؛

ليس الهدف من هذا المقال أن نستعرض بالتفصيل مناهج التفكير أو نشرح محتواها، بل أن نلفت الانتباه إلى أهميتها وتنوعها واختلاف تصنيفاتها وفق معايير متعددة. لذلك سنكتفي هنا بالإشارة إليها وذكر بعض أمثلتها أو تعريف بعضها تعريفاً موجزاً، مع التأكيد أن هذا لا يُغني بأي حال عن ضرورة دراسة كل منهج والتعامل معه على حدة ضمن نماذج لمناهج التفكير الاعتيادية والعليا
ومن ثم يمكن تصنيف مناهج التفكير استنادا إلى معايير متنوعة تفضي إلى تصنيفات متعددة؛ فالتفكير منه المركب والبسيط ومنه كذلك الاختزالي. ومنه في مستوى آخر التفكير العميق والتفكير السطحي والتفكير المستنير؛ وفي تصنيف آخر منه التفكير الإيجابي والتفكير السلبي. ومنظومات تفكير تعبر عن العمق مثل التفكير المنظومي والتفكير الاستراتيجي والتفكير المستقبلي. ومنها مناهج التفكير العليا، ومناهج التفكير الاعتيادية والدنيا؛ والتفكير الكلي والتفكير النقدي والتفكير الإبداعي؛ أما عن المهارات والعمليات والأدوات في مناهج التفكير، منها؛ التوصيف والتصنيف والتوظيف ومهارة السؤال وحل المشكلات والتركيب والتحليل والمقارنة، وكذلك فيها العصف الذهني وفقه المعلومات وبناء الحجة والمناظرات ونماذج المحاكاة وبناء المفاهيم وحلقات النقاش وورش العمل، والخرائط الذهنية والمعرفية، وبناء السيناريوهات ،والخيارات والبدائل.  

الأمر لا يتوقف مطلقا في مناهج التفكير عند هذا الحد الذي يشير إلى بعض صنوفه وأشكاله خاصة حينما نربط بين مناهج التفكير ورؤية إسلامية أصيلة؛ ولكنها تتطرق إلى قيمة مضافة لا تقل أهمية على ما ذكرنا؛ وتنطلق إلى رؤية إسلامية تضيف إليه عمقا في التحليل والتركيب والمقدرة التفسيرية الأعلى؛ واكتشاف التحيزات الكبرى في النماذج الحضارية المتنوعة؛ وارتباطها بشكل أساسي أي مناهج التفكير بمناهج البحث؛ إن إهمال مسألة المنهج والمنهاجية ضمن مناهج التفكير والبحث والتغيير والفاعلية والتأثير أثر بالسلب على الرؤى التي تتعلق بمشاتل التغيير والنهوض وهي حقيقة سنثبت في مقالات أخرى جدواها وما يمكنها أن ترشد إلى مناهج التفكير وتؤسس لمداخل سعي ووعي؛ ومرجعية تأسيس ووحي؛ وأصول تدبير وتغيير وتأثير؛ ولحديث المنهاجية بقية إن كان في العمر بقية.