كتاب عربي 21

حل الدولتين ولد ميتا

"دولة فلسطينية ديمقراطية بشروط مسبقة"- جيتي
الطوفان حرر العالم من السردية الصهيونية.. ستبدو الجملة حالمة جدا للمحبطين ولكنها واقعية جدا لمن سيحسن قراءة المآلات السياسية لما جرى وما يجري في غزة منذ سنتين. إن الثمن المدفوع مرتفع جدا ويبدو حل الدولتين أقل من الثمن المدفوع، بل هو جزء من المعركة السياسية على هذ الدم المسفوح بلا حساب. يأتي حل الدولتين في تقديرنا بناء على حساب استعماري غربي لا شك أن مخابر السياسة قد وضعته على طاولة القيادات، ومؤداه أن منطقة الشرق الأوسط بدون الكيان قد صارت احتمالا حقيقيا قابلا للتصور والوجود، وعليه وجب الاستباق بإنقاد ما يمكن إنقاذه من الكيان لمواصلة السيناريو القائم؛ شرق أوسط تحت الهيمنة الاستعمارية بواسطة كيان استعماري إحلالي يتحكم بضغطة زر في مصير المنطقة.

السؤال الغربي الكامن خلف حل الدولتين يبحث في كيفية إنقاذ الكيان بقليل من التنازلات وتقديم أنصاف حلول غايتها تمييع نتائج الطوفان وامتصاص نتائجها الحاسمة، فدولة فلسطينة على أراض مقطعة ودون سلاح وتعيش بالمساعدات قد تبقي الوضع على ما هو عليه، بل تسمح بالمزيد من النفاق الحقوقي.

الفرنسي يوزع الأنصبة بعقل استعماري
السؤال الغربي الكامن خلف حل الدولتين يبحث في كيفية إنقاذ الكيان بقليل من التنازلات وتقديم أنصاف حلول غايتها تمييع نتائج الطوفان وامتصاص نتائجها الحاسمة، فدولة فلسطينة على أراض مقطعة ودون سلاح وتعيش بالمساعدات قد تبقي الوضع على ما هو عليه، بل تسمح بالمزيد من النفاق الحقوقي

استمعت مليا لخطاب الرئيس الفرنسي، بل أعدت الاستماع إليه بلغته، لم أجد أي خلاف بين خطاب ماكرون في 2025 وهو يدخل بحديث سلام الشرق الأوسط وبين خطاب جنرال فرنسي يحتل الجزائر العام 1832 بخطاب التنوير، نفس الغرور ونفس العقل الاستعماري الذي يمنح نفسه حق توزيع الحقوق على الآخرين دون أن يسأل نفسه مرة من خول له حق توزيع حقوق الآخرين. لم يبد لهذا العقل الاستعماري أن دولة منزوعة السلاح بجانب دولة نووية مدججة بأحدث أسلحة الغرب هي دولة غير قابلة للحياة، وأقصى ما يمكن أن تقوم به هي حماية الكيان من الفلسطيني تحت يافطة التنسيق الأمني المقدس. دولة فلسطينية ديمقراطية بشروط مسبقة، منها عدم إشراك الإسلاميين في حكمها بعد تثبيت وصم الإرهاب عليهم. من يكون الفرنسي أو الإنجليزي ليرتب للفلسطيني من يحكمه؟

لم ير الفرنسي الاستعماري أن اتفاقيات أوسلو التي كانت قامت على حل الدولتين قد انتهت إلى جهاز شرطة فلسطيني ينسق مع العدو لمنع شعبه من التحرر. طبعا لا يتذكر الفرنسي أن فتح باب الديمقراطية لمرة واحدة في فلسطين قد أدّى إلى فوز حماس الإسلامية، وأن فرنسا والغرب معها قد انقلبوا على نتائج تلك الانتخابات ومنعوا تطور الحالة الفلسطينية إلى حالة ديمقراطية. يدير الفرنسي الأمر بنوايا استعمارية نعرفها في المغرب العربي، فالديمقراطية المشروطة بتغييب الإسلاميين كما اشترطت فرنسا على بن علي وعسكر الجزائر ومصر؛ قد انتهت إلى أنظمة قمعية فاشية في الجزائر وفي تونس وفي مصر. لذلك نرى أن خطاب ماكرون في الأمم المتحدة لن يتحول إلى مسار سياسي قابل للعيش على الأرض، إنه مرهم على جسد مسرطن يعرف الفرنسي وهو يرتبه أنه غير جدي وغير منتج، لكنه في هذه المرحلة يؤدي وظائف مهمة ليس منها إعادة الحق الفلسطيني بل تمييع دمه وتفريغه من كل نتيجة.

استباق الشوارع الهائجة

نقدر أن حل الدولتين الذي يثير موجة من الحماس الرسمي وتراقبه الشوارع بريبة كبيرة قد جاء نتيجة لمفاعيل حرب الطوفان في المنطقة وفي العالم. لقد تم تحرير عقل العالم من السردية الصهيونية، وبدأ التمرد على السردية في الجامعات الأمريكية أول الطوفان ثم تم طمره بقمع منهجي، ولكن شوارع الغرب أعادت تنظيم نفسها وخرجت خروجا نهائيا لا نراه يعود إلى استقراره إلا بعد اتضاح حل عادل في المنطقة لا يكون فيها الكيان فاعلا رئيسيا. إلى ذلك، فإن مخابر السياسة الغربية لا تتجاهل التوتر العالي الذي يتحسسونه في الشوارع العربية من خلال الصمت المقهور، ففتح فجوة صغيرة في جدار القمع أخرجت قافلة الصمود المغاربية التي سرعان ما تحولت إلى أسطول دولي غطى المتوسط بالراية الفلسطينية، وهو يبحر إلى ضفاف غزة ليتعرض إلى قمع أكبر فيثير غضبا أكبر ننتظره. إن إضرابا عاما في إيطاليا يناصر الحل الجذري في الأرض المحتلة ليس مؤشرا يمكن تجاهله؛ الغرب يعرف شوارعه ويقدر قوتها على استقراراه في السردية المريحة، ولذلك وجب أن تقدم له حلولا وترضيات لعله يعود إلى رشده (السردية إياها).

والشوارع العربية وإن بدت صامتة أو لامبالية بما يجري حولها، فإن الغرب يعرف أكثر من الأنظمة الحاكمة أنها شوارع متوترة وانفجارها قادم وستمس سلامة الوضع القائم على وجود الأنظمة الوظيفية. لقد أنقذ الغرب الأنظمة من الربيع العربي (بانقلاب السيسي أولا)، ولكن بديل الربيع لم يستجب لأي من مطالب الشعوب في الديمقراطية وفي الحياة الكريمة، وقمع الربيع العربي لم يؤد إلى موت الشوارع بل إلى تخزين غضبها، وهي تتربص بانفجار يغير كل شيء.

الأنظمة الوظيفية غالية على الغرب ولذلك يحميها، فإذا انهارت فإن المنطقة ستدخل مرحلة من التغيير العميق الذي لا يمكن توقع نتائجه. لكن العلم بنبض الشوارع لا يُنتج عند أمثال ماكرون تواضعا أو تفهما لمطالب الشوارع، بل العمل على استباقها ومنعها من التحرر. ومن هنا يؤتى بحل الدولتين لأنه حل لا يرضي أيا من الشوارع، فجوهره قائم على بقاء الكيان والأنظمة الوظيفيية الحامية له من شعوبها. هذا أمر لا يفهمه عقل استعماري مثل عقل ماكرون (وهو نسخة باهتة من العقل الإنجليزي الذي سبقه إلى نفس الشروط).

العالم يتغير من حول الكيان
حل الدولتين مشروع مرتب ضمن السردية الاستعمارية الصهيونية يستبق نتائج الطوفان في غزة، وفي الشوارع العربية المكتومة الأنفاس، وفي الشوارع الغربية الهائجة على حكوماتها وعلى كل سرديتها التي حكمت بها منذ الحرب الثانية واستهلكت جيلين لم يفهما ما يجري حتى جاء الطوفان فأيقظ عقولها ونبهها إلى الحق الفلسطيني، وقد يمتد الوعي إلى مراجعة التاريخ الاستعماري برمته

يضع أي مخطط استراتيجي غربي على طاولته في هذه اللحظة أوراقا مؤثرة. هناك أربعة أنظمة صاعدة في المنطقة تصنع قوتها الاقتصادية والعسكرية ولا تبدو قابلة للإخضاع (تركيا وإيران وباكستان والجزائر)، أربع دول تصنع قوتها الخاصة وإن لم تبد في وارد تحالف عسكري في مدى منظور رغم أن أماني الشعوب تتحول إلى مطالب ترفع إلى هذه الأنظمة. وعلى خطاها يبدو العسكر المصري يرتب لسلامته خارج دور الحارس التقليدي للكيان، ونستشعر أن عدوى الاستقلال قد مست النظام السعودي؛ فبحثه عن حماية عسكرية خارج الغطاء الأمريكي مؤشر يثير القلق في الغرب. لقد رجت ضربة الدوحة العقل العربي الخليجي الهادئ المطمئن رجة عنيفة لن تكون بلا أثر استراتيجي.

كل هذه القوى الصاعدة تفتح نوافذ تواصل اقتصادي وسياسي وعسكري مع العملاق الصيني الذي يتقدم بسلاسة في المنطقة دون أن يتكلف جنديا واحدا أو رصاصة واحدة. وعندما يضع الاستراتيجي الغربي هذه المعطيات في حسبانه سيجد أن نفوذه في المنطقة يتقلص (مثل قطعة بلاستيك مستها النار). وهذا يجري في نفس اللحظة التي يتهشم فيها الكيان فيضعف دوره في المنطقة. من هنا تبدو المسارعة بحل الدولتين مغامرة أخيرة يقودها عقل أوروبي غير متهور (غير ترامبي)، بل عقل إنجليزي بأعصاب باردة لترميم ما يمكن ترميمه مما تهشم بحرب الطوفان ومفاعيلها شرقا وغربا.

لكن ملاحظتنا لجسد ماكرون المهتز على منصة الأمم المتحدة أشعرتنا بأن وقت الترميم قد فات وأن الباقي هو المزيد من الثمن الدموي في غزة ثمن يوجعنا، لكنه يدخل تحت شعار الثورة الليبية "دم الشهداء ما يمشيش هباء". يكفينا أن يردد ماكرون لازمته "لقد حان الوقت"، نعم لقد حان الوقت للخروج من السردية الصهيونية والغربية الاحتلالية، لقد حان وقت الفسلطيني الحر ووقت العربي الحر ووقت المواطن الغربي المتحرر من الصهيونية.

إذن لنوضحها مرة أخرى؛ حل الدولتين مشروع مرتب ضمن السردية الاستعمارية الصهيونية يستبق نتائج الطوفان في غزة، وفي الشوارع العربية المكتومة الأنفاس، وفي الشوارع الغربية الهائجة على حكوماتها وعلى كل سرديتها التي حكمت بها منذ الحرب الثانية واستهلكت جيلين لم يفهما ما يجري حتى جاء الطوفان فأيقظ عقولها ونبهها إلى الحق الفلسطيني، وقد يمتد الوعي إلى مراجعة التاريخ الاستعماري برمته لتكون ديكولونيالية كونية انطلق شرارها بدم غزاوي غزير. لقد قضى الطوفان على حل الدولتين. نثق في المقاومة. نقطة.