كتاب عربي 21

غزة.. 700 يوم من الصمود والمعاناة والخذلان والتواطؤ

"اشترك الجميع في التواطؤ على غزة"- الأناضول
يستمر الرئيس الأمريكي في ألاعيبه بإعلانه عن إجراء مباحثات متعمقة مع حماس، مطالبا إياها بالإفراج عن جميع المحتجزين، رغم موافقة حماس على مقترح مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف مؤخرا، ليساير ترامب مطلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بالإفراج الكامل عن الأسرى، رغم إعلان حماس استعدادها لذلك منذ فترة لكن نتنياهو كان يفضل الصفقات الجزئية.

ومع تعدد تصريحات ترامب المتكررة بالتدخل لوقف الحرب لم يعد أحد يصدقه، بل إن كثيرين ينظرون إلى تصريحاته الأخيرة على أنها مقصودة لتشتيت الأنظار، المتجهة إلى التدمير المستمر لمباني مدينة غزة والقتل اليومي للعشرات ودفع سكانها للنزوح للجنوب، وهو الذي سبق له التصريح بالسعي لإيجاد حل للمجاعة في غزة، وعندما أعلنت منظمة تابعة للأمم المتحدة عن تفشى المجاعة في الثاني والعشرين من الشهر الماضي، ساير الإدارة الإسرائيلية في إنكار ذلك.

مع تعدد تصريحات ترامب المتكررة بالتدخل لوقف الحرب لم يعد أحد يصدقه، بل إن كثيرين ينظرون إلى تصريحاته الأخيرة على أنها مقصودة لتشتيت الأنظار، المتجهة إلى التدمير المستمر

وتغاضى عن القتل اليومي لطالبي الغذاء من خلال المنظمة التي أسموها زورا منظمة غزة الإنسانية، ولم يحدث شيء مما وعد به من وسيلة جديدة لتخفيف المجاعة، كما خداعه لكل من إيران وحماس من قبل أحد الشواهد، حين ضلل إيران قبل القصف الإسرائيلي والأمريكي لها بالدخول في مفاوضات معها، وحين خدع حماس عندما طلب إطلاق الجندي الأمريكي الأسير مقابل إدخال المساعدات لكنه لم يفعل شيئا.

وتنسق الحكومتان المصرية والإسرائيلية معا أيضا للإلهاء عن ضخامة أعداد الضحايا في الفترة الأخيرة، وارتفاع عدد المنازل التي يتم نسفها يوميا والدفع بسكان مدينة للنزوح خارجها، بادعاء وجود خلافات بين الحكومتين وخروج تصريحات ساخنة متبادلة من مسؤولين في الجانبين.

ولا يختلف ذلك عن موقف الدول الأوروبية التي تزعم اعترافها بالدولة الفلسطينية في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الشهر، بينما تواصل بريطانيا اعتقال المحتجين المتعاطفين مع فلسطين، وتواصل ألمانيا صفقات السلاح مع إسرائيل، وتواصل دول أخرى منع الاتحاد الأوروبي من اتخاذ أي موقف عملي مضاد لإسرائيل ولو كان رمزيا، وتواصل دول أخرى إصدار بيانات الإدانة المتفق عليها من وراء الكواليس للممارسات الإسرائيلية، لإفساح المجال الزمني للإدارة الإسرائيلية لتنفيذ مخططها للتهجير، رغم مرور أكثر 700 يوما على الإبادة الجماعية المستمرة لسكان غزة.

الصمود

من كان يصدق أن مجموعة من المقاتلين الذين لا يمتلكون أسلحة دفاع جوى أو طائرات أو صواريخ متطورة، تستطيع أن تواجه الآلة العسكرية الإسرائيلية المتقدمة والمدعومة أمريكيا وأوروبيا بأحدث الأسلحة، وأحدث الصور من طائرات الاستطلاع الأوروبية طوال 23 شهرا، بل وتكبيد القوات الإسرائيلية العديد من الخسائر في الأرواح والمعدات، وإفشال مسعاها لإطلاق سلاح الأسرى بالقوة، رغم صغر مساحة غزة الجغرافية واحتلال القوات الإسرائيلية حوالي 80 في المائة من مساحة القطاع، وتعرض كامل القطاع للانكشاف الجوي على مدار الساعة.

ومن كان يصدق أن يصمد سكان غزة كل تلك الشهور مع منع الغذاء والدواء والوقود والكهرباء منذ بداية الحرب الأخيرة التي سبقها حصار مستمر لسبعة عشر عاما، والذين تم تدمير بيوتهم وتكرر نزوحهم من أماكن خيامهم التي لا تحميهم من حر الصيف أو برد الشتاء القارص، وفقدوا الكثير من أقاربهم وجيرانهم وأصدقائهم ولا يجدون ما يسدون به جوع بطونهم.

المعاناة

رصدت حكومة غزة ما أسفرت عنه المجازر الدموية طوال السبعمائة يوم، من استشهاد وفقدان حوالي 74 ألف شخص، منهم أكثر من 20 ألف طفل و12.5 ألف امرأة، وإبادة 2700 أسرة بالكامل من السجل المدني، وقتل 1670 من الطواقم الطبية و248 صحفيا و139 رجل دفاع مدنى، إلى جانب إصابة أكثر من 162 ألف جريح بينهم آلاف من حالات البتر والشلل وفقدان البصر، إلى جانب تدمير الاحتلال 38 مستشفى و 833 مسجدا و163 مؤسسة تعليمية كليا، وفرض التجويع مما أدى لوفاة العشرات بسبب الجوع، بخلاف من تم قتلهم أو إصابتهم وهو يحاولون الوصول إلى أماكن توزيع الغذاء، وحتى مياه الشرب أصبح الحصول عليها أمرا صعبا.

الخذلان

لم يقتصر خذلان غزة على الدول العربية والإسلامية، التي لم تمنع فقط المظاهر الجماعية لمساندة غزة، بل زجت بالكثيرين من المتعاطفين مع غزة في السجون، بل امتد الخذلان إلى كافة المنظمات الدولية التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث لم تتحرك المنظمات المعنية بحقوق الطفل والآلاف من أطفال غزة يقتلون، ونفس الموقف للمنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق المرأة وآلاف النساء في غزة يفقدن أرواحهن، بينما كانت تهاجم طالبان لعدم توفير التعليم العالي للنساء في أفغانستان.

وكذلك المنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق الإعلام مع هذا العدد غير المسبوق من القتلى من الصحفيين، والمنظمات المعنية بالتعليم التي لم تتحرك مع تدمير المنشآت التعليمية وفقدان طلاب غزة عامين دراسيين، وكذلك المنظمات المعنية بالصحة مع قصف المستشفيات وقتل الطواقم الطبية وأسرها. ونفس الأمر مع المنظمات المعنية بالحفاظ على الآثار مع قصف الأماكن التاريخية وتدميرها، بالمقارنة لما قامت به تلك المنظمات من تحرك عندما قصفت طالبان معالم أثرية في أفغانستان قبل سنوات.

ولم يقتصر الخذلان على الدول العربية والإسلامية التي لم تنفذ قرارات قممها المتكررة بإدخال المساعدات إلى غزة، ومنع بعضها قوافل الصمود لمساندة غزة من المرور عبرها، بل امتد إلى الدول التي ادعت مناصرة فلسطين مثل الصين وروسيا، حيث زاد حجم تجارة كل من الصين وروسيا مع إسرائيل، وزاد حجم استثمارات الصين في إسرائيل حتى في مناطق الاستيطان.

التواطؤ

اشترك الجميع في التواطؤ على غزة والمقاومة، من حكام عرب طالبوا إسرائيل بسرعة القضاء على المقاومة، وشوهوا صورتها في وسائل إعلامهم ثم طالبوها بتسليم سلاحها، وزادت تجارتهم مع إسرائيل والتي أمدوها باحتياجاتها الغذائية بعد تضرر مزارعها من غياب العمالة الأجنبية، بل واستمر السياح من العديد من الدول العربية الإسلامية في السياحة في إسرائيل حتى بيانات الشهر الماضي المعلنة من قبل إسرائيل، ودفعت الأحقاد التاريخية تجاه المسلمين الدول الغربية إلى تبني إسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا وإعلاميا، وتبني سرديتها للأحداث مهما كان شذوذها.

الدروس المستفادة

كشف أحداث غزة دور الحكام العرب الحقيقي المتمثل في إجهاض التنمية وتكريس التبعية الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية، وشغل المواطنين بالانغماس في الملاهي والشهوات وتوافه الأمور، وكشفت المهمة الرئيسية للجيوش العربية لمحاصرة الشعوب وليس لمواجهة العدو الخارجي، وكشفت النفاق الغربي الذي سارع لنجدة أوكرانيا بالمال والسلاح واستقبال اللاجئين، وفرض العقوبات على روسيا لغزوها لأوكرانيا، بينما ساندوا إسرائيل التي تقوم بالإبادة الجماعية؛ بالسلاح والمال، وتصدوا لموقف كل من لمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تجاهها، بل وفرضوا العقوبات على المحكمتين اللتين خفتت أصواتهما رغم اشتداد وتيرة الإبادة الجماعية.

يجب ألا ننسى أن الصهيونية المسيحية ظهرت في الولايات المتحدة قبل ظهور الصهيونية اليهودية، ولهذا فإن المواقف الغربية الحقيقية تستهدف تمزيق الدول العربية إلى دويلات وإثارة النعرات الطائفية فيما بينها

والاكتشاف العملي أن إسرائيل يمكن التصدي لها، حين اقتحمت كتائب القسام معسكراتها وأسرت منها العشرات من الجنود، وأنه لولا الدعم الأمريكي ما استطاعت مواصلة الحرب لأكثر من أسبوعين، ولهذا فإن المقاومة هي السبيل الوحيد لمواجهة إسرائيل، وأن الوحدة شرط أساسي لتلك المواجهة بالتصدي للنعرات الطائفية المقصودة لتمزيق الصفوف، وأن المقاومة في غزة تمثل حائط صد يحمى الأمن القومي في كل من مصر والأردن والسعودية والعراق وسوريا ولبنان، والتي تشملها خريطة إسرائيل الكبرى، وإدراك الشعوب الإسلامية أن غزة هي التي ستحررها من طغيان حكامها الوكلاء للمصالح الغربية، وأن قوة إيران تساهم في النيل من قوة إسرائيل، وأن امتلاكها للقنبلة النووية يساهم في توازن الرعب في المنطقة.

والتعويل على المواقف الغربية لحل الصراع يمثل وهما عايشناه منذ اتفاق أوسلو 1993 وحتى الآن، وألا ننخدع بما يُسمى صداقة الدول الأوروبية لنا وألا ننسى تاريخها الاستعماري البغيض، وألا ننخدع بالحديث الأوروبي عن رفض تهجير سكان غزة، حيث يعملون لتحقيقه عمليا وامتداد الأمر إلى الضفة الغربية، وألا يتم توقع رفض ذلك من قبل كل الصين وروسيا، فالإسلام عدو مشترك لدى كل هؤلاء.

ويجب ألا ننسى أن الصهيونية المسيحية ظهرت في الولايات المتحدة قبل ظهور الصهيونية اليهودية، ولهذا فإن المواقف الغربية الحقيقية تستهدف تمزيق الدول العربية إلى دويلات وإثارة النعرات الطائفية فيما بينها، وأن تلك الدول الغربية تعتبر الإسلام خصما لها ولهذا تسعى ألا يكون للدول الإسلامية مكانة اقتصادية أو تكنولوجية وبالطبع عسكرية، أو دورا مؤثرا على الساحة الدولية، لتظل منظمة التعاون الإسلامي المكونة من 57 دولة إسلامية بمثابة إدارة بوزارة الخارجية السعودية ولا أكثر من ذلك.

ولهذا، فإن الصراع طويل وممتد لعقود، وهو ما يتطلب إعداد أجيال مسلمة مدركة لتلك المخاطر تأخذ بأسباب التكنولوجيا والقوة الذاتية اقتصاديا وعسكريا، ولا تكتفي بالتعليم الرسمي الذي استبعدت منه القوى الغربية كل ما يربط الأجيال بعقيدتها وتراثها، وإدراك أن ما حدث في غزة هو بروفة لما تنوى تلك الدول الغربية فعله بباقي بلاد المسلمين، سواء من خلال المخلب الإسرائيلي أو من خلال الحكام وجيوشهم أو بأيدي الجيوش الغربية مباشرة.

x.com/mamdouh_alwaly