كتاب عربي 21

هل يبلغ أسطول الصمود غايته؟

"عفوية تنظيم وانطلاق الأسطول ستزداد حماسا برده عن غايته أو تهديد سلامة المشاركين فيه، بما يحوله إلى تيار كوني ضد الكيان"- جيتي
في لحظة إعلان مشروع إسرائيل الكبرى التي تنوي التوسع شرقا توسعت الراية الفلسطينة غربا، فتغطى البحر الأبيض المتوسط بالعلم الفلسطيني من برشلونة إلى غزة مرورا بجنوة وقرطاج، ونرى رايات فلسطين على موانئ اليونان وتركيا، وتُقيّد أيدي الاسكندرانية، أولاد البحر من زمن قديم، عن رفع الراية وقد تغامر وتشارك في دفع الأثمان فالبحر اسكندراني.

السؤال الذي لا يطرحه المغامرون عن إمكان الوصول من عدمه يردده قوم محبطون: هل سيصل الأسطول لغايته ويكسر الحصار الظالم؟ هناك رد جاهز يقنعني بعد، لقد بلغ غايته ويعد بالمزيد، فعندما نسمع القائد النقابي الإيطالي وهو يهدد بإغلاق موانئ أوروبا في وجه التجارة مع الكيان نقول لقد تحققت غاية عظيمة. لقد صار اقتصاد العدو تحت رحمة الشعوب الأوروبية التي تكثف وعيها بالحق الفلسطيني، فشمرت عن سواعدها وتجاوزت حكوماتها، وقد تجاوزت السؤال القديم: أين العرب من قضية إخوتهم وبني دينهم؟ لقد دوّلوا القضية وتولوا أمرها، ولا نراهم يتوقفون عند أسطول بسفن صغيرة.

الشرارة التونسية والتشبيك الدولي
عندما يبلغ الأسطول مياه غزة وتبدأ طائرات العدو في التهديد بالإغراق ستكبر المسألة، وتضخميها غاية في ذاته. ستكون الضجة الإعلامية قد بلغت مداها وهي هدف في ذاته، وتجد حكومات كثيرة نفسها في الورطة المرغوبة؛ مواطنوها المسالمون مهددون مثل الغزاوية، والعدو في هذه الحالة يَغْرَقُ إذ يُغْرِقُ

لست في وراد الفخر (القُطري البغيض) بأن الشرارة الأولى خرجت من تونس، فأنا قعدت دونها، والقاعدون ملزمون أخلاقيا بالصمت والمتابعة والكف عن التشكيك الكسول في حديث المقاهي المكيفة. قافلة الصمود لم تُحبط ولم تتوقف، بل واصلت وكشفت عن قدرة عظيمة على بناء شبكة تفاعل دولي لم تلبث أن عبرت عن نفسها بالأسطول الأكبر في تاريخ النضال الشعبي. بدايات الأخبار جاءت من نواة برشلونة لكن المفاجأة ظهرت في إيطاليا وموانئها، فإذا الحملة أوسع وإذا موانئ أخرى تستعد وتجمع المساعدات (أدوية وأغذية). جهد شعبي صِرف وقليل من التغطية الرسمية، وهو الأفضل لكل نشاط تطوعي، فالحكومات تسرق الجهود إذا صارت انتصارات. هذه ملاحظات مهمة لاختصار القول.

التشبيك صار تقليدا عالميا ميسورا، لم تعد اللغات (عربي، إسباني، إيطالي، يوناني، تركي، إنجليزي، اسكندنافي..) حاجزا للتشبيك، يتحدثون بلغة مفهومة للجميع؛ لغة مفهومة بقدر وضوح الهدف.

الصور نقلت إلينا وجوها شابة تنظم وتقود، لكن رأينا أجيالا تتعاون في حفلات التوديع على الأرصفة، بل إن بعض المشاركين كهول يُخجلون كل شاب قاعد يتفاصح عن صعوبة الوصول وفشل الرحلة قبل انطلاقها.

لم يحتج الأمر نظرية ثورية (من بقايا القرن العشرين) لتنظيم نضال شعبي، الحق بيِّن والباطل بيِّن. الإنسان السوي يقف مع الحق وقد تبيّن أن الأسوياء كثير، وهم يُجبرون المتقوّلين على الصمت والتوقف عن الطعن في ضمير العالم، هذا العالم له ضمير حي. سقطت النظريات الكبرى ونشأت الأفعال المنتجة دون نظريات وشغل مثقفين كسالى.

عندما يبلغ الأسطول مياه غزة وتبدأ طائرات العدو في التهديد بالإغراق ستكبر المسألة، وتضخميها غاية في ذاته. ستكون الضجة الإعلامية قد بلغت مداها وهي هدف في ذاته، وتجد حكومات كثيرة نفسها في الورطة المرغوبة؛ مواطنوها المسالمون مهددون مثل الغزاوية، والعدو في هذه الحالة يَغْرَقُ إذ يُغْرِقُ، فمهما تواطأت الحكومات مع العدو فإن أرواح مواطنيها لها ثمن انتخابي لا يمكن تجاهله. (في الأثناء نسجل سقوط تهمة الإرهاب عن الغزاوية).

يتزامن موعد وصول الأسطول مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو موعد منتظر لإعلان الاعتراف بدولة فلسطينية ولو على الورق. (وقد تورطت الدول المعلنة في إعلانها وصار تراجعها فضيحة، وأعني فرنسا وإنجلترا بالخصوص)، وسيجعل الأسطول أسبوع الجمعية العامة أسبوعا قاسيا على الكيان، سيكون أسبوع إسرائيل ضد العالم. ثم ينطلق تشبيك جديد قد يقوده نقابي بحري إيطالي خرج من المجهول بفعل الطوفان الذي لم ير أحد مداه إلا مطلقيه، قد تستقل الموانئ الأوروبية عن إرادة حكوماتها وشركاتها قبل غزة.

صورة الكيان في العالم

كانت صورة مقدسة غير قابلة للطعن، ولها جهاز دعائي جبار كيَّف عقل العالم على باطل، نرى الصورة تهشمت وهذا الأسطول يجهز عليها. إن عفوية تنظيمه وانطلاقه ستزداد حماسا برده عن غايته أو تهديد سلامة المشاركين فيه، بما يحوله إلى تيار كوني ضد الكيان. ولقد زل لسان ترامب بقول خطير (ونعم الزلة الكاشفة)؛ أن اللوبي الصهيوني في بلاده يفقد السيطرة بما في ذلك السيطرة على الكونجرس (ندع جانبا هرطقة رئيس يكشف عورة مؤسسات دولته السيادية).

والكيان يصب ماء في طاحونة عزلته، آه لقد صب نتنياهو المزيد من الماء في الطاحونة بضربه الدوحة التي كانت آخر نافدة محترمة له على العالم، سقطت كذبة البحث عن السلام.

وإلى ذلك، فإن الإجراءات التي شرع فيها تجاه الضفة وحاكمها (ثمرة أوسلو) الذي بنت عليه دول أوروبا موقفها من الفلسطيني المسالم وظلت تردد حل الدولتين؛ ستراه ينهار، فلا أوسلو ولا اتفاقيات سلام وتعايش. ماذا سيبقى لهذه الحكومات إذا أُسقط خيار أوسلو، وقد كان أعطاها ذريعة ووفر لإعلامها المتصهين مادة للتكرار الممل للسردية إياها؟

الحكومات الغربية أعرف منا بحال المنطقة، وهي تعاين نصف مليون بندقية سورية متوترة تُمنع من بناء دولتها فلا يبقى لها إلا القتال (الانتحاري أو الاستشهادي والتسمية تفصيل يخص العرب). وهي ترى حرج حلفاء مسالمين مثل الأردن ومصر؛ استقرت دولهم نسبيا بفضل دورهم في حماية الكيان من شعوبهم، فماذا سيبقى لهذه الدول لتحكم شعوبها إذا توسع الكيان في مجالها الجغرافي؟

الحكومات الغربية تراقب التصرف التركي أيضا وهي لا تطمئن له، ونراها قدرت انفلاته من قبضتها عسكريا واقتصاديا فلم يعد حديث دخول تركيا للاتحاد الأوروبي يجري على ألسنة الأتراك. هل ستعيد حكومات الغرب تقدير كلفة دعم الكيان بلا شروط كما فعلت منذ أسسته وحمته؟

إن لم تفعل الآن فلن تتأخر طويلا في ذلك. الطوفان جلب الأسطول والأسطول سيجلب إغلاق الموانئ (أو تعطيل الشحن للكيان وهو كاف) وتبدأ البورصات في الصراخ، والبورصات هي الحاكم الفعلي لحكومات أوروبا، قريبا سيكتب خبير اقتصادي من عندهم: "البورصات الأوروبية ضد الكيان".

والعرب في كل هذا؟
لنتوقف عن الأحلام ونرى اللحظة الواقعية، العالم يتغير بسرعة مذهلة وما كان مستحيلا منذ سنة صار احتمالا ممكنا جدا خلال شهور

كأن هذا السؤال صار قديما وطرحه ينتمي إلى ما قبل الطوفان. العرب عَربان شعوب وأنظمة، ومهما أحبطنا من صور غزة المكلومة فإن خامة الشعوب جاهزة. لقد قدّمت قافلة الصمود دليلا ويقدم الأسطول دليلا إضافيا، فالأسطول التونسي صار مغاربيا بالتحاق مغاربة وجزائريين وقد يلتحق ليبيون ومصريون. الضفتان تتجمعان وتتجهان نحو غزة، هذا مطمئن لجهة التعرف على ما في نفوس الشعوب (جنود ربك).

أما الأنظمة فنحن نتمتع بحرجها وهي تناور للبقاء في الخطة القديمة حماية الكيان من شعوبها لكسب الإسناد الأمريكي والغربي؛ مشهد يشبه خوض معركة أخيرة مع الشعوب المتحفزة.

إن اللحظة مناسبة لإعلان قرار مشابه للقرار التركي بقطعية اقتصادية مع الكيان؛ تكون خطوة مهمة لقطيعة سياسية. لقد نظر الغرب عاجزا للقرار التركي ولا نراه يقدر على شيء خطير لو ترادفت القرارات في نفس الاتجاه. لقد قرر رئيس حكومة السنغال وهو بلد فقير؛ القطيعة مع فرنسا وذهب إلى الأتراك لبناء شراكة فعَّالة، فنظرت فرنسا عاجزة وصمتت. لا شيء يمنع بلدا عربيا من الخطوة السنغالية وليس بالضرورة تجاه تركيا، فالحلفاء كثير والصين مفتوحة للشراكات دون دبابات. وقبل البحث عن شراكات خارجية فإن الشعوب تملك قدرات عظيمة لو سمحت لها حكوماتها بالكلمة والحركة.

لنتوقف عن الأحلام ونرى اللحظة الواقعية، العالم يتغير بسرعة مذهلة وما كان مستحيلا منذ سنة صار احتمالا ممكنا جدا خلال شهور. العالم دون دولة الكيان لم تعد خرافة، إنه أفق منتظر.. لقد بلغ الأسطول غايته.