ليست
استقالة وزير الخارجية الهولندي كاسبار
فيلدكامب مساء 22 أغسطس/آب 2025 مجرد حدث إداري عابر في سياق السياسة الهولندية،
بل هي ذروة مسار متسارع من التحولات الأمنية والشعبية والدبلوماسية في
هولندا تجاه
إسرائيل. فقد أعلن فيلدكامب استقالته بعد أن فشل في إقناع حكومته بفرض عقوبات على
إسرائيل، في ظل
الحرب المدمرة على غزة. المفارقة أن هذا الموقف وقع في هولندا،
الدولة التي تُعد مقر محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، ما يجعل
العجز السياسي أكثر فداحة.
من الأمن إلى الدبلوماسية ثم السياسة
قبل أسابيع قليلة، أحدث التقرير السنوي
للوكالة الوطنية للأمن في هولندا صدمة داخلية حين صنّف إسرائيل لأول مرة
كـ"جهة تهديد محتملة للأمن القومي"، محذرًا من تدخلات في الرأي العام
الهولندي ومحاولات تضليل رقمية. التقرير لم يمر مرور الكرام، إذ تلاه تحرك
دبلوماسي مباشر:
ـ استدعاء السفير الإسرائيلي في لاهاي لتقديم توضيحات بشأن
جرائم الحرب في غزة.
ـ إعلان نية الحكومة استدعاء سفيرها من تل
أبيب للتشاور.
هذه الخطوات شكّلت نقلة نوعية من مربع
التقييم الأمني إلى مربع التحرك الدبلوماسي، لكنها كشفت أيضًا حدود قدرة المؤسسة
على اتخاذ قرارات أكثر حزمًا.
تحركات شعبية غير مسبوقة
بالتوازي مع هذا المسار الرسمي، شهدت هولندا
تحركات شعبية غير مسبوقة: تظاهرات ضخمة في أمستردام وروتردام ولاهاي، إضرابات
طلابية، وبيانات صادرة عن نقابات مهنية وجامعات تطالب بوقف التعاون الأكاديمي
والعسكري مع إسرائيل. هذه التحركات ضغطت على الحكومة الهولندية، وأعطت القضية
الفلسطينية حضورًا استثنائيًا في النقاش العام، بما لم تشهده البلاد منذ عقود.
قوة الفرد أمام هشاشة المؤسسة
في هذا السياق، جاءت استقالة فيلدكامب لتعكس
مأزقًا داخليًا: وزير يملك الجرأة ليترجم قناعته إلى استقالة، مقابل مؤسسة غارقة
في الحسابات الحزبية الضيقة. فقد اختار الوزير ألّا يكون شاهد زور على قرارات
حكومية لا تنسجم مع قناعاته، بينما بدت لاهاي عاجزة عن ترجمة شعارات العدالة التي
ترفعها للعالم. وزادت الصدمة حينما أعلن بقية وزراء حزب العقد الاجتماعي الجديد
تضامنهم مع فيلدكامب بتقديم استقالاتهم أيضًا، الأمر الذي عمّق أزمة الائتلاف
الحاكم وكشف مدى الانقسام الداخلي حول فلسطين.
الانقسام الداخلي حول فلسطين
فالاستقالة تكشف أيضًا هشاشة التحالف الحاكم
بعد انسحاب حزب من أجل الحرية اليميني المتطرف في يونيو/حزيران 2025. وبينما ينتمي
فيلدكامب إلى حزب العقد الاجتماعي الجديد الوسطي، عارضه بشدة شركاء الائتلاف من
أحزاب مثل الشعب من أجل الحرية والديمقراطية وحركة المزارعين ـ المواطنين، رافضين أي
خطوات عقابية ضد إسرائيل. هكذا تحولت فلسطين إلى محور انقسام مباشر داخل البيت
السياسي الهولندي.
استقالة فيلدكامب ليست مجرد نهاية مسار سياسي فردي، بل هي مؤشر على أزمة أعمق: أزمة قيم في الغرب حين يتعلق الأمر بفلسطين. إنها تقول إن الأفراد قد يملكون الشجاعة ليقفوا مع العدالة، لكن المؤسسات تظل أسيرة المصالح. والسؤال المفتوح: هل ستبقى هذه المواقف الفردية مجرد ومضات، أم أنها ستتراكم لتشكل ضغطًا يغيّر المعادلة؟
ازدواجية معايير أوروبية فاضحة
وتكشف هذه الاستقالة مرة أخرى التناقض
الأوروبي: الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا بعد غزو أوكرانيا،
لكنه يتجمد أمام إسرائيل رغم وضوح الجرائم في غزة. استقالة الوزير هنا ليست فقط
احتجاجًا داخليًا، بل شهادة على أن حتى الأصوات المعتدلة في أوروبا تصطدم بجدار
المصالح والتحالفات حين يتعلق الأمر بفلسطين.
صورة هولندا تكشف العجز وتفتح الفرص
المفارقة الكبرى أن الدولة التي تُقدَّم
عالميًا كـ"عاصمة العدالة الدولية" تبدو اليوم عاجزة عن تطبيق هذه
العدالة على نفسها. استقالة وزير الخارجية، ومعه وزراء حزبه، جاءت لتضع هولندا في
موقف حرج أمام صورتها الدولية: كيف يمكن لبلد يحتضن محكمة العدل الدولية والمحكمة
الجنائية الدولية أن يعجز عن فرض أبسط العقوبات على طرف متهم بارتكاب جرائم حرب؟
هذا التناقض لا يسيء فقط إلى سمعة هولندا، بل يفضح الفجوة العميقة بين خطابها
الأخلاقي وممارستها السياسية.
لكن هذا العجز، على فداحته، يفتح أيضًا
نافذة جديدة أمام الجالية الفلسطينية والناشطين الحقوقيين في هولندا. فالمشهد
السياسي والإعلامي بات مهيأ أكثر من أي وقت مضى لطرح القضية الفلسطينية كقضية
عدالة وحقوق إنسان، لا كملف نزاع خارجي بعيد. إن استثمار هذه اللحظة بعمل منظم
ومخاطبة المجتمع الهولندي بلغته وقيمه يمكن أن يحوّل الاستقالة من مجرد حدث سياسي
عابر إلى رافعة لتوسيع دائرة الدعم والضغط على صناع القرار.
ما جرى في لاهاي خلال الأسابيع الماضية ـ من
تقرير أمني صادم، إلى تحرك دبلوماسي، إلى احتجاجات شعبية واسعة، وصولًا إلى
استقالة وزير الخارجية ومعه وزراء حزبه ـ يرسم لوحة متكاملة: هناك وعي يتشكل، لكن
المؤسسة السياسية ما زالت قاصرة عن تحويله إلى سياسة رسمية.
استقالة فيلدكامب ليست مجرد نهاية مسار
سياسي فردي، بل هي مؤشر على أزمة أعمق: أزمة قيم في الغرب حين يتعلق الأمر
بفلسطين. إنها تقول إن الأفراد قد يملكون الشجاعة ليقفوا مع العدالة، لكن المؤسسات
تظل أسيرة المصالح. والسؤال المفتوح: هل ستبقى هذه المواقف الفردية مجرد ومضات، أم
أنها ستتراكم لتشكل ضغطًا يغيّر المعادلة؟
*كاتب صحفي
فلسطيني مقيم في هولندا