قضايا وآراء

الحصاد الموجع لفلسطينيي سورية.. شهادات الدم والمسؤولية الجماعية

منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية غابت عن معركة الدفاع عن اللاجئ، وكأن الفلسطيني في سورية “خارج الحساب”.. الأناضول
بعد ثلاثة عشر عاماً من الحرب، يكشف تقرير مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية أن المأساة لم تكن أرقاماً عابرة، بل ذاكرة موجعة وجرائم ممتدة، مسؤول عنها الجميع بلا استثناء.

ذاكرة لا تُمحى

لم تكن الأرقام التي نشرتها مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية في تقريرها الأخير تحت عنوان "الحصاد الموجع" مجرد جداول باردة أو إحصاءات صماء ، بل كانت وجهاً آخر لوجع جماعي ممتد منذ عام 2011، يقطر دماً من مخيمات درعا جنوباً حتى حلب شمالاً، جعل من الفلسطيني هناك أسير نكبتين: نكبة أولى هجّرته من وطنه، وأخرى جعلت وطنه المؤقت مقبرة جماعية ومسرحاً للتعذيب والاختفاء القسري.

4965 ضحية موثقة، وأكثر من 7200 معتقل، بينهم 5370 مختفٍ قسرياً. أرقام قد تبدو صادمة بذاتها، لكنها لا تحيط بالحقيقة كاملة، إذ تشير المجموعة إلى أن الواقع أوسع وأكثر قسوة مما سُجّل. كيف يمكن للأرقام أن تلتقط صرخة أم تنتظر خبراً عن ابنها منذ عشر سنوات، أو تحصي أنفاس معتقل تنقطع تحت سياط التعذيب، أو تترجم الخوف الذي يكمم أفواه الشهود؟

مخيم اليرموك كان قلب المأساة النابض

1596 ضحية، بينهم 194 امرأة، و1182 معتقلاً. هناك، لم يعد الفلسطيني مجرد لاجئ، بل صار رمزاً لوجع مضاعف. اليرموك الذي كان يوماً عاصمة الشتات الفلسطيني، تحوّل إلى مدينة أشباح، تُستدعى في الذاكرة كلما ذُكر الجوع والحصار والموت تحت الركام.

التاريخ لا يرحم المتفرجين، والذاكرة لا تسامح الشركاء بالتواطؤ والخذلان أو حتى بالصمت. سيظل الفلسطيني في سورية شاهداً على أن العدالة المؤجلة هي جريمة أخرى تُضاف إلى الحصاد الموجع.
لكن الأكثر قسوة من كل ذلك أن التعذيب تصدّر أسباب الموت: 1298 ضحية قضوا في السجون، كأن الألم لم يعد عرضاً جانبياً للحرب، بل سياسة ممنهجة لإبادة الفلسطيني وإخماد صوته. لم يكن الموت بالقصف أو الرصاص أقل فداحة، لكنه ظل محكوماً بمنطق الحرب، بينما التعذيب هو الوجه الكاشف لقرار الإبادة البطيئة.

شهادات الدم

التقرير لا يكتفي بالرصد، بل يضع العالم أمام مسؤوليته: آلية تحقيق دولية، محاسبة للمجرمين، حماية اللاجئين الفلسطينيين عبر دعم الأونروا لتضيفها عملياً إلى ولايتها، ورعاية نفسية ومادية عبر جبر الضرر لعائلات الضحايا. توصيات تبدو بديهية، لكنها تصطدم بجدار الصمت، ذلك الصمت الذي يتقن فنّ إدارة الأزمات بدلاً من حلّها، ودفن الضحايا في أرشيف القضية الفلسطينية.

المسؤولية الجماعية

لا تكفي حقيقة الإشارة إلى النظام السوري البائد وحده رغم أن إحرامه فاق كل حد ، بل إنه جدير بنا لفت النظر إلى أن النكبة الثانية والكارثة الكبرى صنعتها وشاركت بها شبكة من الفاعلين، محليين ودوليين، كلٌّ منهم ساهم بشكل أبو بآخر سواء بالصمت أو الفعل أو التواطؤ.

النظام السوري البائد مارس أبشع الانتهاكات بحق الفلسطينيين، من قصف مخيماتهم إلى تحويل معتقلاته إلى مسالخ بشرية، حتى صار “الموت تحت التعذيب” السبب الأول للوفاة. هذه جرائم لا تسقط بالتقادم وفي ذلك تفاصيل كثيرة .

الإدارة السورية الجديدة

ورثت المشهد ومطلوب منها وبقوة فتح الصفحة لا طيّها دون حساب ومساءلة ملفات الماضي. فهي لن تُعفى من المسؤولية ما لم تكشف مصير المختفين وتقدّم الجناة إلى العدالة. الصمت أو التقصير هنا شكل آخر من أشكال الجريمة.

الفصائل الفلسطينية ترددت ثم تخبطت إلى أن تركت أبناء المخيمات وحدهم في مواجهة مصيرهم، واكتفت بالشعارات تارة وبالصمت طوراً آخر ثم تحولت إلى عبء لا ملاذ. لم يكن الفلسطيني بحاجة إلى بيانات شجب إن صدرت أحياناً بل إلى حماية ودفاع سياسي وقانوني فعلي بدل البحث عن مصالح حزبية وفئوية ثم نزوع إلى مصالح سياسية مرتبطة بمحاور إقليمية وحسابات شخصية داخل تكتلات الفصيل الواحد.

منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية غابت عن معركة الدفاع عن اللاجئ، وكأن الفلسطيني في سورية “خارج الحساب”. صمتها كان شراكة غير مباشرة في المأساة، وعندما تدخلت كان تدخلها على شكل علاقات عامة لخدمة تنافسها مع خصومها السياسيين وبحثاً عن استرداد عقارات وممتلكات سابقة على حساب الدم.

مؤسسات المجتمع المدني الحقوقية والإنسانية

عندما قررت المناصرة وثّقت متأخرة جداً وترددت في رفع الصوت خشية الحسابات الخاصة بالممول. بينما كانت الحاجة إلى عمل استباقي يوقف التعذيب والاختفاء قبل أن يتحول الضحايا إلى أرقام.

المجتمع الدولي ترك الفلسطينيين وقوداً للحرب، ثم عاد ليتعامل معهم كأزمة إنسانية تحتاج إلى تمويل للأونروا، فكان الضحايا هنا فرصة لاستجرار الأموال بدلاً من مساءلة الجناة أو توفير حماية حقيقية.

إن “الحصاد الموجع” ليس وثيقةً تُقرأ ثم تُركن على رفوف المنظمات، بل هو صرخة في وجه النسيان. شهادة تقول إن الفلسطيني في سورية لا ينبغي أن يموت مرتين أو مرات لا تُعد: مرة حين سُلخ عن وطنه، ومرة حين تُرك لمصيره تحت القصف والاعتقال، ومرة حين تجاهله من يدّعون تمثيله وكذا العالم كله وكأنه فائض عن الحاجة الإنسانية.
إن “الحصاد الموجع” ليس وثيقةً تُقرأ ثم تُركن على رفوف المنظمات، بل هو صرخة في وجه النسيان. شهادة تقول إن الفلسطيني في سورية لا ينبغي أن يموت مرتين أو مرات لا تُعد: مرة حين سُلخ عن وطنه، ومرة حين تُرك لمصيره تحت القصف والاعتقال، ومرة حين تجاهله من يدّعون تمثيله وكذا العالم كله وكأنه فائض عن الحاجة الإنسانية.

اليوم، وبعد أن صار لدينا تقرير يوثق ويوجه أصابع الاتهام، يبقى السؤال: هل يملك أي طرف شجاعة مواجهة نفسه وتفعيل دوره والوقوف أمام مسؤولياته في استحقاق شهادة الدم التي هي بهذا الحجم؟ أم أن الفلسطيني السوري سيُترك مرة أخرى ليحصد وحده ثمار مأساة لم يزرعها؟

التاريخ لا يرحم المتفرجين، والذاكرة لا تسامح الشركاء بالتواطؤ والخذلان أو حتى بالصمت. سيظل الفلسطيني في سورية شاهداً على أن العدالة المؤجلة هي جريمة أخرى تُضاف إلى الحصاد الموجع.
فالتاريخ لن يكتب فقط أسماء الضحايا، بل أسماء المتواطئين أيضاً.

*كاتب صحفي فلسطيني مقيم في هولندا