قضايا وآراء

ضمٌ بلا تفاوض: الثمن الخفي لوقف الحرب على غزة

"الضم اليوم لا يُنفَّذ عبر صفقة تفاوضية، بل عبر واقع ميداني تُكرّسه القوة، ويُغطّيه الصمت الدولي"- جيتي
في الظاهر، تبدو الحرب على غزة مجرّد فصلٍ آخر في الصراع الطويل. لكن خلف الدخان الكثيف والمساعدات المقطّرة، يجري ترتيب جديد للواقع الفلسطيني، عنوانه الصريح: وقف إطلاق النار مقابل الصمت السياسي، والضفة ثمنا لتهدئة مدفوعة بالدم.

تتوالى الإشارات، فكلما اقترب الوسطاء من هندسة "تهدئة طويلة الأمد" في القطاع، تُفتح شهية الحكومة الإسرائيلية على الأرض في الضفة. تصريحات وزراء اليمين الإسرائيلي باتت أكثر جرأة، تتحدث عن "فرصة تاريخية" لفرض السيادة الإسرائيلية على مناطق C، وعن "نهاية مرحلة أوسلو"، وكأن الحرب في غزة ليست سوى ورقة تفاوض صامتة على ما تبقى من الضفة الغربية.

في حين تُقدَّم غزة كمشكلة إنسانية معزولة، يجري تصوير الضفة كفراغ سيادي قابل للملء الإسرائيلي. هذا التحوّل ليس صدفة، إنه جزء من خطة أكبر لإعادة تشكيل المشهد الفلسطيني

الظروف لم تكن يوما أكثر مواتاة للضم: النظام السياسي الفلسطيني مفكك، البيئة الإقليمية منهكة ومُطبِّعة، والمجتمع الدولي غارق في قضايا الطاقة والردع. أما أمريكا، بقيادة ترامب في ولايته الثانية، فقد رفعت الغطاء عن كل التزاماتها السابقة، وأعادت تعريف ما تسمّيه "السلام" وفق معادلة: لا دولة، لا تفاوض، لا مقاومة شرعية.

وفي حين تُقدَّم غزة كمشكلة إنسانية معزولة، يجري تصوير الضفة كفراغ سيادي قابل للملء الإسرائيلي. هذا التحوّل ليس صدفة، إنه جزء من خطة أكبر لإعادة تشكيل المشهد الفلسطيني: غزة كإقليم مَكسور الإرادة يُدار إنسانيا، والضفة كأرض تُدار أمنيا وتُضم بالتقسيط، وبينهما، تُفكك منظمة التحرير وتُعاقب السلطة إذا ما حاولت التوجّه نحو المحاكم الدولية أو حتى التلويح بخيارات سياسية مستقلة.

الضم اليوم لا يُنفَّذ عبر صفقة تفاوضية، بل عبر واقع ميداني تُكرّسه القوة، ويُغطّيه الصمت الدولي، وتُباركه واشنطن بتجاهل متعمّد. ليس ثمّة حاجة إلى اتفاقيات أو صور توقيع في البيت الأبيض؛ ما يجري الآن هو ضمٌ بلا توقيع، بلا شريك، وبلا شروط، ضمٌ يقدَّم كـ"خيار واقعي" مقابل وقف العدوان على غزة، وبصفته الطريق الوحيد لـ"حسم" الصراع، بعد فشل كل مشاريع الحلول المرحلية.

وحدهم الفلسطينيون، إن أعادوا تعريف أدواتهم وموقعهم، يستطيعون إعادة ترتيب المعادلة. لكن إلى أن يحدث ذلك، يبدو أن العدوان على غزة لا ينتهي عند حدودها

في هذه المعادلة الجديدة، لا صوت يُسمع للفلسطينيين. فـ"التمثيل السياسي" يُختزل في إدارة خدمات، و"الحقوق الوطنية" تتحول إلى مناشدات إنسانية، أما الحضور الفلسطيني على المسرح الدولي، فيُقابل بالعقوبات، كما حصل مؤخرا مع مسؤولي السلطة الذين تم منعهم من دخول الأراضي الأمريكية بسبب توجههم إلى المحكمة الجنائية الدولية.

يبقى السؤال: هل الضفة الغربية على عتبة الضم الشامل؟ وهل سيكون هذا الضم هو الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون، مرّة أخرى، باسم "التهدئة"؟ وإذا كانت إسرائيل قد اختارت الحسم الميداني، وواشنطن قد منحت الغطاء، فمن تبقّى ليقول "لا"؟

ربما وحدهم الفلسطينيون، إن أعادوا تعريف أدواتهم وموقعهم، يستطيعون إعادة ترتيب المعادلة. لكن إلى أن يحدث ذلك، يبدو أن العدوان على غزة لا ينتهي عند حدودها، بل يمتد إلى عمق المشروع الوطني نفسه، حيث تُباع الجغرافيا بالصمت، ويُرهن المستقبل بحسابات اللحظة.