منذ بدء العدوان الشامل على
غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ومراقبة المذابح
اليومية للفلسطينيين في غزة، تعرفنا على الموقع الطبقي لسياسة
عربية رسمية،
وبالدقة اللازمة لهذه المعرفة التي ازدحمت معها تنظيرات ودعوات الردة والانحسار عن
قضية
فلسطين، والطعن بها، وبمقاومة الشعب الفلسطيني لمحتله. يمكن ملاحظة سياسة
الانكفاء الرسمي عن القضية الفلسطينية في تباين مواقف عربية من المستعمر الصهيوني،
عند كل اجتماع عربي يبحث العدوان وتطوراته وتداعياته، لذلك يغيب الإجماع والمواقف
المنتظرة لمؤازرة ضحايا العدوان أو ردعه عنهم..
سياسة الانكفاء العربي عن فلسطين، كانت السبب الرئيس في استمرار جرائم
الإبادة
الإسرائيلية في غزة، واتساع رقعتها على كامل جغرافيا فلسطين وتخطيها نحو
سماء وأرضٍ عربية، وبفضل سياسة فلسطينية رسمية رديئة في الانحدار والتمسك بتلابيب
وهْم السلام، في ظل واقع صهيوني دمّر كل أسسه. ولا يزال خطاب السلطة الفلسطينية يُحمّل
فشل أوهامه ورهانه على المستعمر؛ على وجود سلاح المقاومة الفلسطينية، ودعوتها الأخيرة
للمقاومة لتسليم سلاحها والانخراط ببرنامج منظمة التحرير والشرعية الدولية؛ ما هو
إلا دليل على العطب والرداءة السياسية، وكأن البرنامج الفلسطيني للمنظمة، والذي فُصّل
على مقاس أوسلو بنزع كل مخالبها وتعديل الميثاق وشطب البنود وتعطيل مؤسسات المنظمة،
لم يُصب الحالة الفلسطينية بفشل وعطالة دورها منذ أكثر من ثلاثة عقود.
سياسة الانكفاء العربي عن فلسطين، كانت السبب الرئيس في استمرار جرائم الإبادة الإسرائيلية في غزة، واتساع رقعتها على كامل جغرافيا فلسطين وتخطيها نحو سماء وأرضٍ عربية، وبفضل سياسة فلسطينية رسمية رديئة في الانحدار والتمسك بتلابيب وهْم السلام، في ظل واقع صهيوني دمّر كل أسسه
وهنا ينظر الفلسطيني لكل دعوات الشارع الفلسطيني بقواه وحركاته المطالبة
بضرورة استعادة منظمة التحرير لدورها ومؤسساتها والتي يدار الظهر لها لم تكن السبب
في استمرار خراب البيت الفلسطيني.
بكل الأحوال، في كواليس سياسة فلسطينية وعربية رسمية، وعند كل منعطف حاد
ومفصلي كالذي تعيشه غزة اليوم بشكل خاص، وعموم الأراضي الفلسطينية، تظهر مسببات
الخراب الفلسطيني الرسمي المؤسس لانكفاء عربي رسمي عن قضية فلسطين، فما قيل وسرب من
مواقف طيلة فترة جرائم الإبادة على غزة، كان كافيا وطافحا بكل الخذلان والتآمر، والقدرة
الصفرية للعلاقة العربية الأمريكية بعد زيارة ترامب للمنطقة زادت من منسوب العدوان
الإسرائيلي؛ الذي يرتفع معه خطاب صهيوني فاشي عنصري ضد الفلسطينيين والعرب عموما.
يتولى كل من سموتريتس وبن غفير، شريكي نتنياهو في الحكم، مهمة إضفاء الطابع
المؤسسي للتطهير العرقي رسميا، والذي تزعم بعض المواقف الغربية أنه غير مرخص به،
ومؤسف، لكن بن غفير يؤكد الحقيقة تماما في نيته مع سموتريتش تطبيق مهمة تهجير
الفلسطينيين وقتلهم وتدمير مدنهم وقراهم.
لذلك، التداعيات مُرعبة في
الضفة الفلسطينية، فكل فلسطيني في "المنطقة
ج" (الضفة الغربية) يواجه الآن احتمال تعرضه لمهاجمة مستوطنين مسلحين له في
بيته بحماية شرطة بن غفير، وكل بستان زيتون، وكل طريق راعٍ، وكل طريق مدرسي أصبح
نقطة اشتعال محتملة مع عصابات المستعمرين بحراسة جيش الاحتلال، إنه نظام فصل عنصري
بترخيص وتفويض قانوني.
لقد حلّ بن غفير مشكلة صورة إسرائيل بكفاءة فاشية نموذجية، فلماذا يرتكب
الجنود جرائم حرب في غزة، بينما يُمكن أن يرتكبها "المستوطنون" بدلا
منهم؟ تتراكم الجثث في الضفة ويتسع الحطام، لكن العناوين الرئيسة تقول "عنف
المستوطنين" بدلا من "عملية عسكرية"، إنها إبادة جماعية بتغطية
إعلامية أفضل.
فمنطق قبول ومعايشة الغطرسة الإسرائيلية باعتبارها قدرا لا يُرد مع القدر
الأمريكي، هو في واقع الحال منطق غربي قديم، يجري تقديمه اليوم بترقيعات جديدة
تتجانس مع الوقائع العربية والفلسطينية، التي تقود عربة سياساتها إلى محطة أخرى من
محطات هزيمة عربية رسمية، لن يقر بها الشعب الفلسطيني المدرك في استخلاصه العام من
سياسات عدوه وعلانية خطط مستعمره؛ أن سياق الهدف المطلوب مما يجري من جرائم في
غزة، وما يُحضّر لمشروع التهجير الجماعي بدعم أمريكي، لا يعقل أن يواجه بنفس الرداءة
السابقة من مواقف.
التخفيف من طبيعة ومرامي السياسة العربية من جرائم الاحتلال، وتحديدا في
القدرة على لجم العدوان ومقاطعة إسرائيل وفرض الحصار عليها، وعدم الانضمام لجهود
دولية تسعى لإبراز مخاطر فاشية التوجه الصهيوني والمطالبة بمحاكمة قادة الاحتلال، يؤدي
كل ذلك لقتل كل الجهود الرامية لوقف مذابح الشعب الفلسطيني، مع اتباع نهجٍ غادر
ورديء في ذروة جرائم إبادة جعلت من صورة إسرائيل في شوارع غربية وحول العالم مثير
للاشئمزاز ومحتقَرة، ودفعت لاتخاذ موقف منها وتوفير الزخم الكافي لدول مثل إسبانيا
وأيرلندا وجنوب أفريقيا، ووفرت لشوارع غربية فرصة التعبير عن الغضب تجاه جرائم
الإبادة الصهيونية وغطرستها، وإسقاط سرديتها، من خلال الالتزام الحقيقي والمبدئي
بقضية فلسطين كقضية عادلة وبحقوق راسخة،
الراهن الفلسطيني صعب بحكم معادلة دولية تعمل لصالح المحتل وجرائمه، وبحكم سياسة عربية رديئة بكل المقاييس في تاريخها المعاصر، فمعركة الجميع الآن هي التصدي لمشاريع التهجير للشعب الفلسطيني من أرضه والمنْوي فرضها على غزة، وتوسيعها في الضفة والقدس
والابتعاد عن التوصيفات الحافلة
بالعموميات عن السلام والقضية الفلسطينية أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية. هناك
وقائع على الأرض لا يمكن تغييرها وزحزحتها بالدعوات، إنما بمقاومة المستعمر
ومقاطعته وعزله، وتلك بديهيات أي شعب يرزح تحت الاحتلال، وبديهيات من يناصره
ويدعمه ويؤمن بعدالته وحريته.
ولأن إسرائيل حققت ربحا كبيرا في ضرب المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة،
وأسقطت من يد السلطة الفلسطينية سلاحها القوي المتمثل بالشارع الفلسطيني الذي
سلمته لإسرائيل بعد أن عجزت الأخيرة عن النيل منه، واستطاع الاستبداد العربي تنظيم
نفسه بتشديد القمع والقبضة على شوارع عربية، لذلك تبدو ملامح انتظار موقف فلسطيني
يبحث عن وحدة فلسطينية ذات مضامين سياسية واضحة، وسارية المفعول وأساسها التناقض
مع الاحتلال، تبدو صعبة وعصية، مع إدراك طبيعة الموقع الذي تبوّأته طبقة السياسة
الفلسطينية مع شقيقاتها العربية، وهو موقع يسجل في خانة الربح الإسرائيلي على الفلسطينيين.
ولأن هذا الإدراك متمم لموقف عربي لن يحسم ضد إسرائيل، دون إدراك الشق
الفلسطيني منه، سيبقى غياب القدرة الذاتية، بحكم الاعتبارات الموضوعية لسياسة
عربية وفلسطينية، لإمكانية حدوث انقلاب في ميزان القوى في الوضع الراهن؛ يعني
التسليم بالمشروع الصهيوني وبأدواته.
أخيرا، الراهن الفلسطيني صعب بحكم معادلة دولية تعمل لصالح المحتل وجرائمه،
وبحكم سياسة عربية رديئة بكل المقاييس في تاريخها المعاصر، فمعركة الجميع الآن هي التصدي
لمشاريع التهجير للشعب الفلسطيني من أرضه والمنْوي فرضها على غزة، وتوسيعها في
الضفة والقدس. ومرة أخرى ليس المطلوب كسر الأقلام وحمل البنادق، بل عدم فصل ما
يجري عن الأبعاد الأخرى، السياسية والاقتصادية والأمنية، التي تجعل من المؤسسة الصهيونية
قوة مهيمنة على المنطقة، والمستقبل لن يكون كذلك، والحياة والشعوب كفيلة بذلك.
x.com/nizar_sahli