كتاب عربي 21

إسرائيل بوصفها مشروعا للهندسة الإقليمية: من قصف السويداء إلى تفكيك المنطقة

"دخلت إسرائيل بعمق، فيما يدعوه بعض استراتيجييها بالمبادرة العسكرية النشطة، على الحالة السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد"- الأناضول
أثناء كتابة هذه المقالة كانت إسرائيل تقصف القوات السورية في السويداء، بدعوى الدفاع عن دروز سوريا. لا تقيم إسرائيل أدنى وزن للدروز، ولا حتى لدروز فلسطين الذين يخدمون في جيشها، والمظاهرات التي ينظمها دروز فلسطين للضغط على حكومتهم الصهيونية للتدخل بنحو أكثر عمقا لصالح دروز سوريا؛ لا أثر مستقلا له، لأنّه مضمن أصلا في الخطة الإسرائيلية، وفي الذروة منها أن تكون القوّة المهيمنة لا في مجالها الحيوي فحسب، بل في "الشرق الأوسط" كلّه. ما ينبغي التأكيد عليه، والحالة هذه، أنّ هذه الضربات الإسرائيلية، غير الجديدة بالمناسبة، تأتي بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية، كما أفاد اليوم (15 تموز/ يوليو) مصدر سياسي إسرائيلي للقناة 14 الإسرائيلية.

دخلت إسرائيل بعمق، فيما يدعوه بعض استراتيجييها بالمبادرة العسكرية النشطة، على الحالة السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد، وفي إطار هذه المبادرة، فعَلت كلّ ما يلي: احتلال أراض جديدة، وتدمير ما تبقى من قدرات تسليحية للجيش السوري السابق خشية من أن تقع في يد الإدارة الجديدة، وعمليات أمنية، بالقتل، أو بالاعتقال، والاقتحام والتفتيش، وبعضها كان يهدف لتأكيد ولايتها فيما يتعلق بالمجال الحيوي الإسرائيلي في الجنوب السوري.

ما تفعله إسرائيل في سوريا، تفعله في لبنان، بالاستمرار في احتلال أراض لبنانية، وتجديد القصف سواء على أهداف مادية، أم على أهداف بشرية

لم تكن تهدف إسرائيل من خلال عدوانها المستمرّ على سوريا، بما في ذلك احتلال أراض جديدة؛ فقط إلى ضمان مصالح أمنية مباشرة في البيئة المادية الجغرافية في الجنوب السوري، ولكنها أيضا كانت تهدف إلى ثلاثة أمور جوهرية: الأول؛ امتلاك أوراق قوّة وضغط وابتزاز بهدف مساومة الإدارة الجديدة بها، والعمل على فرض اتفاق مستقبليّ بما يوافق إسرائيل ومصالحها الاستراتيجية، والثاني؛ التدخل المباشر في التوازنات الداخلية السورية، وهذا يجري بانتهاج عدد من الخطوات، منها تدمير القدرات التسليحية الرسمية بما يحرم الإدارة الجديدة منها؛ بهدف التحكم في توازنات القوى الداخلية؛ في حال جرى الدفع نحو خطوات انفصالية أو تمردية من الأطراف الجهوية أو الأطراف الطائفية والقومية، علاوة على التحكم بمستوى الجيش السوري مستقبلا من حيث البنية والتسليح في إطار تقليص الجيوش العربية إلى قوات فوق شرطية، وضمان التوازن الإقليمي لصالح إسرائيل، والتأسيس العملي لفرض حق النقض المسبق على تسليح الجيش السوري مستقبلا، وأمّا الأمر الثالث؛ فهو مدّ لسياسة تكريس الهيمنة الإقليمية، والتي من صورها الهندسة السياسية للأوضاع الداخلية في الدول الإقليمية، والمبادرة العدوانية على تلك الدول فيما تسميه "المعركة بين الحروب"، و"جز العشب".

ما تفعله إسرائيل في سوريا، تفعله في لبنان، بالاستمرار في احتلال أراض لبنانية، وتجديد القصف سواء على أهداف مادية، أم على أهداف بشرية، بحيث تكون جغرافيا لبنان كلها ساحة للعدوان الإسرائيلي، وربط ذلك سياسيّا بمطالب إسرائيلية، تشرف على تنفيذها الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال سفيرتها في لبنان ليزا جونسون، ومبعوثها إلى سوريا ولبنان توم باراك؛ الذي دغدغ مخيلات الحمقى بنقده لسايكس بيكو الذي قسّم المنطقة، وحديثه عن ضرورة تجاوز سايكس بيكو نحو ترتيب جديد، وصولا إلى التهديد بتضمين لبنان إلى سوريا، ليتبين أنّ الحديث عن إعادة ترتيب المنطقة يهدف؛ لا إلى توحيدها، وإنّما إلى تقسيم جديد على أسس طائفية (وهو ما من شأنه أن يهدد مستقبلا حين تجاوز الواقع الحالي بالإكراه الأمريكي؛ دولا عربية كبيرة ثمّة فرص للترويج لتقسيمها على أسس جهوية أو تاريخية أو ثقافية، أو الادعاء بأنّ بعض أراضيها هي جزء من أراض تاريخية لجيرانها.. وغير ذلك)، وهو في الوقت ذاته يهدد اللبنانيين حكومة وشعبا وقوى سياسية بقتال سوري لبناني في حال لم تتمكن الحكومة اللبنانية من تجريد حزب الله من سلاحه (لا يخلو الأمر من حمقى ومغفلين يفرحون بذلك).

الشرّ الإسرائيلي ليس مباشرا للفلسطينيين وحدهم، فهو محيط بالجميع، ومتدخل بعمق، ويمسّ جميع السكان الأصليين لهذه المنطقة مهما كانت خلافاتهم وتناقضاتهم والمرارات التي صنعوها لبعضهم، ولا يمكن اجتنابه بالاستجابة له، أي بالتسليم للهيمنة الإسرائيلية، أو تقديم التنازلات التي تتوخاها المبادرة الإسرائيلية، أو إلغاء العداء لإسرائيل من السياسات الرسمية والوعي الشعبي

ليس بعيدا عن هذا ما أعلنت عنه إيران أخيرا، من كون إسرائيل حاولت قتل كل أركان السلطات الثلاث ومجلس الأمن القومي بضربة واحدة، بالطريقة ذاتها التي اغتالت فيها الأمين العام الأسبق لحزب الله السيد حسن نصر الله؛ وبالنهج نفسه الذي سلكته لتدمير البنى القيادية للحزب دفعا نحو انهياره، وهو ما سعت إليه بهذا النوع من الضربات على إيران التي أرادت منها خلق فراغ لإسقاط النظام، ويتصل بذلك دعوات نتنياهو وغيره للشعب الإيراني للتمرد على النظام، وشبكات العملاء التي شيدتها داخل إيران لهذا الغرض، وهو ما يعني تدخلا مباشرا وعميقا وفعّالا في الداخل الإيراني.

يتضح بذلك، أن إسرائيل هي الفاعل الأهم والأكثر قدرة على التأثير في هذه المنطقة، لتفوّقها العسكري الساحق، وتقدّمها التكنولوجي الكاسح، علاوة على سيادتها الاستخباراتية التي لا تضاهى، وذلك كله بفضل الدعم المفتوح والمطلق لها من الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تثبت التجربة منذ السابع من أكتوبر وحتى هذه اللحظة؛ أنّ القدرات تلك كلّها ما كان لها الوجود، ولا الفاعلية، لولا هذا الدعم الأمريكي غير المتواني، والذي يسخّر قدرات الإمبراطورية لصالح إسرائيل، وقوتها، وهيمنتها، واستمرارها.

ما يُستفاد من ذلك، أنّ الشرّ الإسرائيلي ليس مباشرا للفلسطينيين وحدهم، فهو محيط بالجميع، ومتدخل بعمق، ويمسّ جميع السكان الأصليين لهذه المنطقة مهما كانت خلافاتهم وتناقضاتهم والمرارات التي صنعوها لبعضهم، ولا يمكن اجتنابه بالاستجابة له، أي بالتسليم للهيمنة الإسرائيلية، أو تقديم التنازلات التي تتوخاها المبادرة الإسرائيلية، أو إلغاء العداء لإسرائيل من السياسات الرسمية والوعي الشعبي، لأنّ الابتزاز الإسرائيلي لا يتوقف، والمسعى الإسرائيلي للتدخل في التوازنات الداخلية، والتقسيم، والتتبيع السياسي، والاقتصادي، وجعل المنطقة برمتها خادمة للوجود الإسرائيلي، هو المعنى التأسيسي من وجود إسرائيل في هذه المنطقة.

x.com/sariorabi