كتاب عربي 21

خونة الوعي.. المتسلّلون في زمن الإبادة

"هل يمكن للجماهير ألا تقع ضحية سياسات التطبيع الرسمية، والضخ المكثف في قنوات فضائية وصحف"- إكس
لا شيء يملأ الفضاء المرئي في مواقع التواصل الاجتماعي، مما له علاقة بحرب الإبادة الجماعية التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين، كالفعاليات المنظمة والفردية المتضامنة مع الفلسطينيين في البلاد الغربية، والتي وصلت حدودا غير مسبوقة من الجرأة في بعضها بالقطيعة الكاملة مع الموقف الغربي التاريخي والسردية الصهيونية وتبنّي المقولة الفلسطينية/ العربية، طبعا قبل أن ينقلب العرب على كلّ ما قالوه من قبل بشأن فلسطين وحقيقة قضيتها ومعنى هذه القضية بالنسبة لهم، وموقعها في التاريخ الآدمي بما هي قضية حرية وعدالة أولى في دلالتها على وضع الجوهر الإنساني في هذه اللحظة من عمر الآدمية.

لا تتضمن الفقرة أعلاه أدنى قيمة إحصائية، ولا تعطي أيّ وصف لتحولات الموقف الغربي بخصوص القضية الفلسطينية، ولكنها تشير إلى ظاهرة، وكونها ظاهرة لا يعني أنّها أغلبية غربية، أو أنّ فلسطين في قلب اهتمامات الغربيين، ولكن هذه الظاهرة، وبقطع النظر عن حجمها، ولا سيما أنّها من مجال صهيوني من جهة إطباق السردية الصهيونية عليه تاريخيّا، ومن جهة أنّ الديمومة الإسرائيلية استندت تاريخيّا وحتى اللحظة إلى كونها جزءا استراتيجيّا من المجال الغربي، لها دلالتها الصارخة؛ حين مقارنتها بالمجال العربي، مع أدوات الرصد نفسها، أي مع الفضاء المرئي العربي في مواقع التواصل الاجتماعي.

هذه الظاهرة، وبقطع النظر عن حجمها، ولا سيما أنّها من مجال صهيوني من جهة إطباق السردية الصهيونية عليه تاريخيّا، ومن جهة أنّ الديمومة الإسرائيلية استندت تاريخيّا وحتى اللحظة إلى كونها جزءا استراتيجيّا من المجال الغربي، لها دلالتها الصارخة؛ حين مقارنتها بالمجال العربي، مع أدوات الرصد نفسها، أي مع الفضاء المرئي العربي في مواقع التواصل الاجتماعي

لا تتوخى المقارنة نقد الجماهير العربية، لأنّ عدم حركتها بخصوص الإبادة الجماعية في فلسطين في الشارع انعكاس للأوضاع الأمنية القاسية المفروضة عليها، والتي أفضت إلى تجريف مراكز الفعل والحركة في الشارع، إذا كان الحديث عن الدول التي توفّرت سابقا على مساحات للفعل السياسي الجماهيري العامّ، وأمّا غيرها، وكما هو واضح من دول أخرى، فإنّ إظهار التعاطف العلني مع فلسطين، ولو في تغريدة، قد ينتهي بصاحبه إلى السجن. في بعض البلاد العربية يمكنك أن تسبّ الفلسطينيين وتشكك في عدالة قضيتهم، بل وتروّج للسردية الصهيونية دون أن تخشى العاقبة، لكن ليس كذلك الأمر إن أردت دعمهم فكيف بالتضامن مع مقاومتهم؟ وبما أنّ المجال الفني بات مركّزا في قبضة رأس مال عربي رسمي، فإنّ الفنان من شأنه أن يقامر بمستقبله كله لو أظهر قدرا من التضامن الإيجابي مع الفلسطينيين في سياق الفعاليات التي يقودها رأس المال ذاك.

وإذن فالمهم دلالة ذلك. وحين الحديث عن الفضاء المرئي في مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّ المقصود بذلك هم من يُسمّون بالنشطاء، ويدخل فيهم الفنانون، أي هؤلاء الذين لا ترتبط وظيفتهم الإعلامية بالقضايا السياسية، فيخرج من هذه الملاحظة المدونون وصناع المحتوى الذين يدور نشاطهم حول القضايا السياسية والثقافية، وأكثر هؤلاء لديهم موقف تأسيسيّ داعم للشعب الفلسطيني وقضيته ومقاومته، لأنّ المقصود رصد وعي الأقلّ تسييسا، والانطلاق من ذلك لمناقشة من تسميهم هذه المقالة بالمتسللين، أي مثقفين يدّعون دعم الفلسطينيين ومقاومتهم ولكنهم يمثلون قناة تسللية للخطاب التطبيعي بوعي أو بدونه.

لا تنحصر المقارنة في هذه حيثية الكمّ، بل في المقولة نفسها، فإذا تجاوزنا الفضاء المرئي إلى النقاشات المكتوبة، وحين مقارنة النشطاء الغربيين غير المسيسين بمثقفين عرب مسيسين؛ فإنّ الحضور شديد الوضوح للمقولة اللوّامة لدى العديد من المدونين والنشطاء العرب الذين يُفترض بهم بحسب دعواهم أنّهم أنصار أصليون وراسخون لفلسطين وشعبها ومقاومتها، إذ تكثف في طرح بعضهم نقد المقاومة بما يتجاوز المراجعة الإيجابية إلى الإدانة، بحيث صارت الإبادة الإسرائيلية في أطروحتهم مشروطة بالفعل الفلسطيني، أي لولا الفعل الفلسطيني لما حصلت الإبادة، دون أن يلاحظوا التبرئة الضمنية في أطروحتهم هذه لإسرائيل من فعلها الإبادي الذي لم يعد متصلا في واقع الأمر بلحظة السابع من أكتوبر، إذ لا يمكن اليوم أبدا بعد 22 شهرا من الإبادة على غزة تفسير الإبادة الجماعية بالسابع من أكتوبر.

تحوّل التعاطف مع ضحايا الإبادة، إلى استخدام هؤلاء الضحايا لإدانة المقاومة الفلسطينية، وتجريدها من كونها ضحية، وعزلها عن بقية الفلسطينيين الواقعة عليهم الإبادة، وبينما لا يمكن القول إنّ جميع أصحاب هذا الخطاب واعون بمعنى مقالتهم ومنتهاها، فإنّ ذلك قطعا ينمّ عن حالة ذهنية تعاني إعاقة في الوعي بإسرائيل وحقائق الصراع، وقصورا أخلاقيّا واضحا في كيفية ترتيب الموقف الخطابي إزاء الأحداث، وضمورا مريعا في الموقف من الاستعمار الأجنبي، لأنّ أصحاب هذا الموقف ضمّوا إليه طوال الحرب خطابات تسوّي بين إيران وإسرائيل في حربيهما القصيرة الأخيرة، وهذه التسوية ليست أكثر من قناع؛ لا للتعاطف مع إسرائيل ولكن لعداء أكثر عمقا وجذرية تجاه إيران، وهو ما يسنده قولهم المكرور عن كون إيران أكثر خطرا، لكونها، بحسب دعواهم، أكثر قدرة على التسلل داخل مجتمعاتنا.

لم يقتصر ضمور الحساسية تجاه الاستعمار الأجنبي على ذلك، بل وصل إلى حدّ السخرية من مفاهيم استكمال التحرر والاستقلال الوطني، وحصر معاني الكرامة في التنمية الاقتصادية، وتشويه خطابات القوى التحررية، بوصفها قوى مغرمة في العداء العدمي للغرب!

بمقارنة هذه الخطابات؛ بتلك التي تبثها الحسابات الغربية، يتضح أولا وعي الكثير من المؤثّرين الغربيين بالعقيدة الإبادية للاستعمار الصهيوني لفلسطين، وقدرتهم على ربط اللحظة الراهنة بالتاريخ الاستعماري الصهيوني كله، وحين تركيز الحديث في المشهد القائم الآن، فإنّهم يؤكدون بنحو واضح أنّ الفعل الإبادي الإسرائيلي تجاوز تماما السابع من أكتوبر، ليكون فعلا منفصلا قائما بذاته يعبّر عن عقيدة صهيونية وعن استراتيجية إسرائيلية.

يستدلّ بعضهم باستطلاعات الرأي التي تشير إلى أكثرية عربية ترفض التطبيع، لكن الاكتفاء بهذا عملية تضليل واضحة، لأنّ التقليل من شأن خطابات التطبيع يعني تعزيز هذه الخطابات، وهذا بالإضافة إلى أثر السياسات الرسمية، والحملات الدعائية الصريحة التي ينخرط فيها أيضا أمثال هؤلاء بتناول الإبادة الجارية، أو قضية الصراع برمتها، من زاوية أخطاء الفلسطينيين حصرا، بدعوى أنّ العدوّ معلوم العداء لا يحتاج إلى من يذكر بعدائه

علاوة على ذلك، فإنّ وعي هؤلاء الغربيين بالصراع مثير للإعجاب بالقياس إلى عرب يفترض أنّهم أكثر معرفة بفلسطين وشعبها وقضيتها، بيد أنّ الكثير من هؤلاء الغربيين لا يفصلون الإبادة في غزة والاستعمار الصهيوني في فلسطين عن سياسات الهيمنة الغربية، المضمنة المكانة المركزية لإسرائيل، والمحمولة على تحالفات المال السياسي الفاسد، لا للهيمنة على العالم فحسب، بل وللهيمنة على المجتمعات الغربية، وتحويل السياسات الغربية، لا سيما في بريطانيا وأمريكا، إلى سياسات دعم غير عقلاني لإسرائيل، على حساب مواطني تلك البلاد، ليس فقط اقتصاديّا بل وحتى أمنيّا، هذا بالإضافة إلى تمدد هذه السياسات لقمع حريتهم، وإخضاع المجال العام، بسياقاته الأكاديمية والثقافية والإعلامية والترفيهية، للمال السياسي الفاسد المرتبط عضويّا بتسخير السياسات الغربية لصالح إسرائيل.

هذه المقارنة كافية لا للدلالة فحسب على الانحطاط غير المسبوق للسياسات الرسمية العربية تجاه فلسطين، وهو انحطاط لم يكن لأي مواطن عربي تخيله حتى في مرحلة الهرولة التطبيعية الأولى في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي بعد توقيع اتفاقية أوسلو، ولكن أيضا على عمق نتائج هذه السياسات على الوعي العربي العام، لدى الجماهير ونخبها، وطبيعة انشغال النخب الثقافية والإعلامية لهذه الجماهير بخصوص القضية الفلسطينية، وقضايا التحرر واستكمال الاستقلال الوطني ومقاومة الهيمنة، وبما يفضح تلك المقولة التي تقلل من خطورة التطبيع بدعوى أنّ الرأي العام العربي يرفض التطبيع مقابل قدرات إيران التسللية الأكبر.

يستدلّ بعضهم باستطلاعات الرأي التي تشير إلى أكثرية عربية ترفض التطبيع، لكن الاكتفاء بهذا عملية تضليل واضحة، لأنّ التقليل من شأن خطابات التطبيع يعني تعزيز هذه الخطابات، وهذا بالإضافة إلى أثر السياسات الرسمية، والحملات الدعائية الصريحة التي ينخرط فيها أيضا أمثال هؤلاء بتناول الإبادة الجارية، أو قضية الصراع برمتها، من زاوية أخطاء الفلسطينيين حصرا، بدعوى أنّ العدوّ معلوم العداء لا يحتاج إلى من يذكر بعدائه، إذ هل يمكن للجماهير ألا تقع ضحية سياسات التطبيع الرسمية، والضخ المكثف في قنوات فضائية وصحف؛ إمّا أن تتبنى السردية الصهيونية ولو نسبيّا أو أنّ تكرّس نفسها للتقليل من شأن القضية الفلسطينية وشيطنة قوى المقاومة في فلسطين أو أن تجعل نضال الفلسطينيين محل جدل وتساؤل، وهذا سوى المحاولة المحمومة لاستثمار معاناة السوريين الطويلة في مشروع التطبيع، وخلق شرخ عميق بين المعاناة السورية والقضية الفلسطينية، لكن الدليل الأكبر على خطورة التطبيع، هو أمثال هؤلاء المثقفين المتسللين إلى فلسطين وقضيتها من زاوية التقليل من خطر التطبيع!

x.com/sariorabi