قضايا وآراء

خوارزميات جنيف والاختفاء القسري

"ليسوا أرقاما، بل قصصا معطلة، انتُزعت من الحياة، وأُلقي بها في سراديب الأجهزة الأمنية التي تتقن دفن الصوت قبل الجسد"- جيتي
"أنا ما زلت هنا".. ليست مجرد عبارة قالها أحد الناجين من الاختفاء القسري، بل صدى صرخة تتردد في ذاكرة كل من عايش غياب الأحباب، أو انتظر خبرا يطفئ جمر الشك.

قبل أيام، وضمن مشاركتي في فعالية حقوقية حول العدالة والاختفاء القسري، فوجئت بخوارزمية فيسبوك تقترح عليّ مشاهدة فيلم وثائقي جديد بعنوان "I'm Still Here". لم أكن أعلم أن هذا الفيلم، الذي انغمست فيه بصمت ودموع، سيفتح بوابة مؤلمة نحو ذاكرتنا الفلسطينية والسورية.

عن الفيلم: "أنا ما زلت هنا"

الفيلم مستوحى من القصة الحقيقية لريبنز بايفا، وهو سياسي برازيلي يساري وعضو في البرلمان "مجلس الشيوخ"، اختُطف عام 1971 من قِبل أجهزة النظام العسكري واختفى دون أثر.

لكن القصة الحقيقية ليست عنه فقط، بل عن زوجته يونييس، التي رفضت الصمت وواجهت المؤسسات العسكرية والذكورية بعزم لا يلين، إلى أن انتزعت بعد عقود اعترافا بأن زوجها قُتل تحت التعذيب.

إنها قصة امرأة تبحث عن الحقيقة في نظام يتقن طمسها، تماما كأمهات وأخوات المختفين في سوريا، أو زوجات المعتقلين الفلسطينيين الذين لم يعودوا، ولا حتى كجثة.

عندما تكشف الخوارزميات الحقيقة دون قصد

الغريب -أو ربما المؤلم- أن خوارزميات فيسبوك، المصمّمة لأغراض تجارية وتسويقية، كانت السبب في تعريفي بهذا الفيلم. هل كانت تعلم أنني أعمل على كلمة حول الاختفاء القسري؟ ربما. هل تعلم أني فلسطيني سوري يحمل على كتفيه ثقل الذاكرة؟ بالتأكيد.. حملت وسأحمل ما حييت هذا الملف حتى انقطاع النفس وتوقف نبض القلب.

لقد قدّمت لي خوارزمية غير إنسانية، فيلما إنسانيا بامتياز. هذا يعيدنا إلى سؤال مرير:

هل يمكن أن تساعد الخوارزميات -تلك المصممة لجني الأرباح- في كشف جرائم الإخفاء القسري؟

وهل يمكن تسخيرها ضمن ما نسمّيه مجازا "خوارزميات جنيف"، أي الأدوات الرقمية التي تدعم القانون الدولي الإنساني وتكشف الجريمة بدل إخفائها؟ مجرد تساؤل خطر لي وأنا صحفي ولست مهندسا تقنيا!

ربما لو كان المهندس العالم والخبير التقني الشهيد المعتقل باسل خرطبيل الصفدي بيننا اليوم لكانت لديه إجابة على مثل هذه التساؤلات!

الملف المنسي: الفلسطينيون المختفون قسرا في سوريا

يبدو ما حصل مع بايفا في السبعينيات مكرر -وربما أفظع- في سوريا اليوم. لقد وثقت مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا أكثر من 6000 معتقل ومفقود ومختفٍ قسرا في سجون النظام السوري، بينهم طلاب، وأطفال، ونساء. هؤلاء ليسوا أرقاما، بل قصصا معطلة، انتُزعت من الحياة، وأُلقي بها في سراديب الأجهزة الأمنية التي تتقن دفن الصوت قبل الجسد.

أحد الأمثلة المفجعة هي قضية "معتقلات المختنقين"، وهي سجون مثل فرع فلسطين وفروع كثيرة نعرف بعضها ولا نعرف الآخر، حيث مات الآلاف تحت التعذيب، أو خنقا، ودفنا جماعيا. عائلات كاملة من الفلسطينيين السوريين خُطفت من مخيم درعا جنوبا حتى مخيم حندرات شمالا في حلب، ولم يُعرف لهم أثر.
أحد الأمثلة المفجعة هي قضية "معتقلات المختنقين"، وهي سجون مثل فرع فلسطين وفروع كثيرة نعرف بعضها ولا نعرف الآخر، حيث مات الآلاف تحت التعذيب، أو خنقا، ودفنا جماعيا

ولكن هنا المفارقة:

بينما نطالب باتفاقيات جنيف للكشف عن مصيرهم، فإن كثيرا من المعلومات التي حصلنا عليها جاءت من صور رقمية، مثل صور "قيصر" الشهيرة، أو شهادات ناجين جمعتها منظمات عبر آليات مختلفة.

بين بايفا وبكراوي: الإنسان هو الهدف

ما الفرق بين ريبنز بايفا الذي اختفى عام 1971 في ريو دي جانيرو، وخالد بكراوي الذي اختُطف من مخيم اليرموك؟ الجواب بمحض إنسانية ووفق معاييرها: لا شيء.. كلاهما:

- اقتيد إلى زنزانة مجهولة.

- تلاشت أخبارهما في أروقة الأجهزة الأمنية.

- بقيت العائلات لسنوات تتجرع الغياب، وتعيش على الأمل.

التقنية في خدمة العدالة.. أو نقيضها

إذا كانت الخوارزميات قد قرّبتني من فيلم "I’m Still Here"، فما الذي يمنع أن تساعدنا هذه الأدوات نفسها على كشف مصير المختفين؟

- الأقمار الصناعية يمكنها رصد المقابر الجماعية.

- الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل تقارير الناجين و"تشبيك" الحوادث المتطابقة.

- أنظمة المقارنة البيومترية قد تُعيد هويات مجهولي المصير.

أيضا هذه جميعها تساؤلات صحفي باحث عن الحقيقة! لكن ما أعرفه يقينا للأسف، أن تقنيات أبسط منها تُستخدم كأدوات غالبا لعكس الغرض: رصد المعارضين، تزييف الروايات، إخفاء الأدلة.

ختاما: من "أنا ما زلت هنا" إلى "هم لا يزالون هناك"

الفيلم قالها بلسان الناجي: "أنا ما زلت هنا" عبر صور وأرشيف وذاكرة لم ولن تجف، لكنني أكتب هذا المقال لأقول: "هم لا يزالون هناك".. في الزنازين، في الذاكرة، في الأحلام، في جدران المخيمات التي تنتظر عودة الغائبين.

قد تُعيد الخوارزميات بعضهم إلى الضوء، وقد تفضح الصور السرية حقيقة المجرمين، لكن الحقيقة الأولى والأخيرة ستبقى في صوت الأم التي لم تكفّ عن القول: "ابني ما مات، هو بس مختفي..".