قضايا وآراء

في التحولات الكبرى المتسارعة.. والمطلوب

بلال اللقيس
"لم تعد الحروب تتميّز بسهولة عن السلام"- الأناضول
"لم تعد الحروب تتميّز بسهولة عن السلام"- الأناضول
شارك الخبر
ربّما يكون عام 2026 عام القرارات الصعب، فكأنّ المسارات اقتربت أن تلتقي فيه وتزدحم عنده. صار الحسم ملحا ولم يعد الترحيل وإدارة الأزمات يفي بالغرض، لقد تداخلت المسارات وتكثفت وتخرجت بأغلبها عن سيطرة مريدها.

كل شيء تغيّر، الانقسام العالمي لم يعد على قواعد يالطا ولا انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم يعد واقع العلاقات الدولية خطيا سببيا بل شبكي معقّد. اختلطت الدوافع، ولم تعد نظرية السلطة والقوّة تلك التي عرفناها ودرسناها، لقد هزّت أوتادها أركان "المشروعية" و"السياق" و"الانزياح شرقا". لم تعد الحروب تتميّز بسهولة عن "السلام"، ولا المدني عن العسكري، ولا الخطوط الأمامية عن الخلفية، ولا حدود الدولة -المؤسسة العقلانية- عن المجتمع، وانقلبت الدبلوماسية من لغة للحوار الى لغة خيانة الحوار والإكراه.

ولا يسهل التمييز بين الفوضى والنظام والحرية والعبودية، ولا التقّدم والتخّلف، فالتقانة التي هلّل البشر لها باعتبارها مصدر التّقدم تسبب الآن رعب أن تكون أداة فنائهم (كأن البشر أوجدوا كائنا ما لبث عن خرج عن سيطرتهم ويهّدد بإفنائهم = عدنا إلى نقاش الفلسفة الأوّل حول جدلية القدرة والحكمة والاستطاعة والأخلاق). لم تعد المفاهيم والمصطلحات قادرة أن تفّسر الواقع المستّجد، فزوجية "رابح خاسر" غير كافية لتقييم الحروب، كذلك تحديد ما نحن عليه أهي حروب باردة أم فوضى شاملة، استقرار نسبي أم لا استقرار، وتتذبذب القوى الكبرى في تعريف صراعها بمواجهة بعضها؛ هل هو "احتواء متبادل" أم صراع حضارات شامل، صراع مصالح أم صراع على المعايير، أم  صراع وجودي.

لم تعد المفاهيم والمصطلحات قادرة أن تفّسر الواقع المستّجد، فزوجية "رابح خاسر" غير كافية لتقييم الحروب، كذلك تحديد ما نحن عليه أهي حروب باردة أم فوضى شاملة، استقرار نسبي أم لا استقرار، وتتذبذب القوى الكبرى في تعريف صراعها بمواجهة بعضها؛ هل هو "احتواء متبادل" أم صراع حضارات شامل، صراع مصالح أم صراع على المعايير، أم صراع وجودي

نعيش "أشياء مختلطة" في أغلب أمورنا، كأننا في واقع برزخي يتردد، حتّى ذهب البعض أنّ كل شيء يتأرجح وأنّ الغموض واللا يقين سيّد المعرفة أي اللا معرفة، مسقطا مقولات الفيزياء الكمومية على المجتمع لتبرير رأيه، في حين رأى آخرون أنّ المشروعية ووحدة المعيار ضرورة إنسانية لا محيص عنها، وأننّا اليوم أكثر من أي وقت مضى نحتاج للمعيار وتحديد مرجعيته لا الإطاحة به باسم ما بعد النسبية (علاقة الملاحِظ بالملاحَظ وتغّير الموضوع ربطا بالملاحِظ).

صار تحديد الهدف فتحقيقه أمرا بالغ التعقيد إذا لم يُضبط الهدف بالأثر!! العالم لم يعد "عقلانيا" ولم تعد بنيته هيراركية محّددة ومنضبطةن بل مفتوحة على الـ"ما بعد"، فبينما تظّن أنّك تقترب تُفاجأ أنّك أصبحت أبعد عن المقصد، فكثيرا ما يكون النجاح هو الفشل بعينه. لو لم تنجح الليبرالية لما فشلت، نجاحها هو الذي أتى بوليدها الشعبوي غير الشرعي، ولو لم تنجح أمريكا عسكريا في احتلال الدول وإطاحة السيادة لما كانت أكثر دولة مكروهة في علاقاتها ولما كانت متشّظية في هويتها، وإنّ نجاح الحرية في تقوّية الفرد وإضعاف الدولة أدّى إلى تقوية الدولة و"تضخمها" وتطويق الفرد بطرائق أكثر خفاء ودهاء، فأتت الحرية بنقيض ما أرادت!! وإنّ نجاح الإطار القومي اصطدم بالمبادئ الكونية فوقع الشرخ بين مبدأ التضامن بالعدالة باعتبارها مبدأ كونيا.

إنّ ما نشهده من مفارقات وتأرجح هو ناتج اتجاهين متعاكسين؛ سقوط زمن "النهايات" التي أعلنها الغرب وبزوغ زمن "البدايات" التي تؤسس لها قوى التحّرر بحسب موقعها وبأدبياتها، وهناك أيضا اتجاه يعبر عن مخاوفه أن تعاود قوى الهيمنة الدولية تخليق رؤية لـ"بدايات جديدة"، ويفترض التقانة أنّها هي مفتاح استعادة الهيمنة بعدما أفل نجم عقلانية الحداثة!! فمشكلة الغرب الأولى اليوم صارت حول مَن نحن ومَن الآخر بعدما اقتحمت أزمة الهويات كل أنساق الحياة ودوائرها، وبعدما ترّنح العقد الاجتماعي الذي أراده صانعه عقلانيا، فوقع التوتر بين الديمقراطية والليبرالية ولم تفتأ الديمقراطية تتخبّط بين رؤى ما بعد الديمقراطية وطرح الديمقراطية الجديدة، ولم يُحسم المعيار الديمقراطي أهو للتسوية بين المواقف المتعارضة أم لبناء تصور مشترك للمجتمع، أم لتحديد معنى الصالح العام كسابق لأي ديمقراطية.

ورغم تراجع النظريات الكلية في السياسة إلا أنّ البحث عن المشروعية لم ينته بل يقوى باضطراد، لا سيّما أنّ أغلب الغرب ومجتمعاته لا تنظر بأنّ الشرعية المقبلة يمكن أن تؤمّنها التقانة وفلسفتها، فتأثير التقانة على السياسة أمر مقلق جدا، والأخطر تأثيرها على المجتمع والإنسان، ولذلك هناك توجّس من التقانة ومن يتولّى زمامها ويتمكّن من توظيفها في مخططّه. وما يعّقد الموضوع أنه تمت الإطاحة بالشرعية القانونية والشرعية العقلانية للدولة، مع رفض مشروعية الأخلاق والحقوق والعدالة كأساس لبناء عالم جديد، ولم يتم اجتراح شرعية موثوقة. ولا زالت حكومات الغرب تستغرق في شوفينية وتمحور حول الذات ووهم بقدرتها على استيلاد هيمنتها من جديد بإجراء تعديلات شكلية –رتوش- في الأدوات والوسائل، متغافلة أنّ يقظة عالمية كبرى شقّت طريقها وعالما مختلفا ولد وتجاوز رغباتها.

في هذا الواقع المركّب والمتوالج في أبعاده وأنساقه وطبقاته، شكّلت حروب العامين الأخيرين، لا سيما في فلسطين ولبنان، "المسرّع" لمختلف التحولات والنقاشات المنبثقة والثانويات. افتتحت هذه الحروب المستمرة عالما مفاهيميا جديدا؛ إسرائيل بدعم غربي مطلق -الأنظمة- وفرط استخدام القوة بالإبادة والقتل وأحدث ما توصّلت إليه تقنيات الحروب؛ لم تتمكن من إسقاط شعب على مساحة 360 كلم2 في غزّة، كما لم تتمكن من شلّ لبنان البلد الصغير ومقاومته، ومن قبلها حروب أمريكا في أفغانستان والعراق وليبيا والسودان وصولا إلى اليمن، وانتهاء بالحرب الشرس والأعقد على إيران، ولا تخرج حرب أوكرانيا عن هذا المعنى. فالقوّة رغم إطلاقها لم تصل إلى هدفها في مساحة جغرافية كغزة وبعض لبنان، وكشفت عن عجزها أمام دولة محاصرة منذ عقود كإيران، بينما تترشّح لمزيد من استخدامها في أوكرانيا.

وكان من نواتج هذين العامين أنّ كثيرا من الأنظمة فضلا عن الشعوب بدأت تتحّوط من الولايات المتحّدة ومن التماهي مع سياساتها الأمنية، بل والاقتصادية والمالية، وأكثر هذه الدول صارت تجتنب الاقتراب من إسرائيل كـ"دَنس" سياسي أخلاقي وخطر وظيفي، والأهّم أنّها قد اكتشفت حدود قدرة إسرائيل ومن خلفها أمريكا واستبانت لا موثوقية العلاقة بهما، وتيّقنت أنّ هناك أزمات فعلية وبنيوية تعانيان منها. بالأمس كانت أمريكا قادرة أن تقطر العالم خلفها نحو ما تريد، اليوم هي تعاني حتّى من حلفائها الأقربين الذين غالبا ما يظهرون تعاونا سالبا! فأمريكا لم تُثبت جدارتها في أداء العقدين الأخيرين إن بالسياسة أو بالحروب التي خاضتها بيدها أو بذيلها الإسرائيلي، ولم تثبت كفاءتها مؤخرا في التعاطي مع تحديي روسيا وإيران أو في تحدي الصين اقتصاديا، كأنّها بيدين حديديتين وقلب فارغ متردد ومنقسم، كأنّ شعبها لم يعد يحمل أعباء الإمبريالية بينما يستغرق السيستيم في إمبرياليته، والدستور أصعب من أن يعدّل كونه صيغ على عقارب ساعة نيوتن.

نظرية المقاومة كانت ولا زالت في مبانيها وأصولها ومنطلقاتها ثابتة لا تخضع للتغيّر، وتراها صارت أوثق من أي وقت مضى، لكن تطويرا في بعض الوسائل والأدوات والتبيين صار ملحّا

انطلاقا من كل ما نشهده من تحولات كبرى تصيب العالم أجمع، ندّعي أنّ الأمل أقوى للمستقبل رغم صعوبة ما نواجهه الآن، فرياح عالم الغد أكثر ملاءمة لليقظة العالمية منها لإرادة الهيمنة الأمريكي- الصهيوني. لكن لنعبر هذه المرحلة بأقّل الخسائر ونسّرع التحولات لصالحنا نحتاج إلى تطوير خوض المواجهة: فإلى جانب التأكيد على المشروعية المستندة لقيم الحق والعدالة وحرية الإنسان وكرامته؛ نحتاج لتبيان هوية المقاومة دون تشويه، أنّها هوية إنسانية لا هوية جزئية لجماعة أو مذهب أو فئة، وأنّها تراعي التعّدد في الثقافات والخصوصيات، وتطوير أدبيات سياسات المقاومة لتستوعب أوسع شرائح من المتضررين من ظلم قوى الاستكبار والتسلط، ونحتاج لتجديد في الآليات والطرائق وأحيانا في الاقترابات.

فنظرية المقاومة كانت ولا زالت في مبانيها وأصولها ومنطلقاتها ثابتة لا تخضع للتغيّر، وتراها صارت أوثق من أي وقت مضى، لكن تطويرا في بعض الوسائل والأدوات والتبيين صار ملحّا. نحتاج للتقارب ولو بحده الأدنى من بعضنا كشعوب ومجتمعات ونخب، وأن لا يطعن بعضنا بعضا في الظهر بينما نخوض صراعا يهدد وجودنا أجمع. فالنظرية كما التجربة المتأتية من صراعنا مع إسرائيل، كـ"أفضل مختبر عملي لنظرية التحّرر" لما تمّثله إسرائيل من امتداد عضوي لقوى الهيمنة الدولية ووليد مميّز للنظام الدولي السابق، تؤكد واقعية وإمكانية التحرر الكبيرة، فكيف بمحاولة تزخيم المواجهة باتجاهين: "النظام الدولي وإسرائيل"، باعتبارهما وجهين لعملة الهيمنة والتسّلط والاستعباد؟

من هنا وجب النظر للمقاومة كهوية العالم المقبل ومعيار الانقسام الفعلي والواقعي. فكلفة السنتين الأخيرتين حتّى لو كانت كبيرة لكنّها ليست أقل على أمريكا وإسرائيل في المدى الاستراتيجي والدائرة الأوسع، يكفي أن نداء المقاومة صار أبعد وبيانها أفصح وأوضح وأنصح، وأنّ كل إنجاز قتّال حققته إسرائيل لم يُسفر إلا قيدا عليها من زاوية أخرى.

أمّا جبهة المقاومة بالخصوص فهي بصدد ترتيب الصفوف وتجميع نقاط القوة وهي كثيرة، والاستمرار بالمواجهة وتعزيز الثقة بها. فهذه معركة بالنقاط وقد بلغت مرحلة متقدمة، وقد تحتاج لاجتراح "استراتيجية دفاع مرن"؛ لا تتنازل عن الثوابت وتستفيد من تناقضات العالم المتزايدة، وأن تتقدّم لتدير "تصعيدا محسوبا" بوجه عدّو يتحرّك اليوم بغريزة الوجود أكثر ممّا يحتّرك بالعقل، وفي هذا وجه فائدة.
التعليقات (0)