انتهينا في
المقال السابق إلى أن تحدي
النظام الدولي المقبل هو بين اتجاهين، الأول يقوم على صناعة
الفوضى وخلخلة معادلات "الوحدة" و"رعاية التوازن" و"الليبرالية"
التي شكلت ركائز النظام الدولي، حيث تستحيل الدول كيانات ضعيفة هشة مثقلة بالأزمات
وتعاني من غياب إطار مرجعي وفهم مشترك للمعايرة العمومية وتسير لتشظ مجتمعي بدل التقارب،
ولم تعد المؤسسات الدولية التي عكست توازنات معينة ذات فعالية، وكذلك الإقليمية فقدت
مسوغات وجودها وصارت رهن الإرادة الأمريكية ورغباتها (ترامب يهين الجمعية العامة بينما
هو على منبرها)، في حين بدأت تزحف مؤسسات جديدة فرضها عدم مراعاة الحد الأدنى من التوازن.
أما الليبرالية فصرنا أمام أكبر مفارقة أصابتها في تاريخها فالليبراليات العريقة صارت
تعيش قلق الديمقراطية، كأنها تريد الاولى وتخشى الثانية وتحاربها.
عالمنا الحالي
أمام سياسة أو بالأحرى أمام هوية أمريكا -بلا مكياج- التي تنعكس سلوكا في علاقاتها
الخارجية، هوية تريد بلوغ الهيمنة الشاملة من خلال إدارة الفوضى بدل استراتيجية إدارة
النظام التي اعتمدتها حتى نهاية الألفية الثانية، بينما تتمحور الرؤية المقابلة على
الحاجة لـ"النظام" وضرورته، وحجتها أنه بدل أن نذهب لنقض أصل موضوعة النظام
فالأجدى أن نعمد لتعديل النظام وتطويره وتحسينه، والأخذ بما صلح منه من معايير ومباني.
منطقتنا تبقى المعبر الجيوبوليتيكي الأهم إلى الصين والشرق، وهي ثقل جيو اقتصادي وثقافي كبير وتجتذب كل صاحب رؤية عالمية أو كونية. لذلك تفترض أمريكا حاجة ماسة وملحة لإرهاق المنطقة وتحويلها إلى كيانات رخوة يمكن إرغامها بالقوة والتهديد
صحيح أن هناك
ثلاث حواف يخلص من خلالها هذا الصراع ولو بأشكال متفاوتة (تايوان وأوكرانيا وفلسطين)،
لكن الساحة الأبرز لتصارع هذين الاتجاهين هي غرب آسيا، فـ"
الشرق الأوسط"
قد يكون البوابة الأفضل للمشروع الأمريكي لإدارة الفوضى العالمية باعتباره الطريق الوحيد
المتاح لها لاستعادة زخم الهيمنة. فمنطقتنا تبقى المعبر الجيوبوليتيكي الأهم إلى الصين
والشرق، وهي ثقل جيو اقتصادي وثقافي كبير وتجتذب كل صاحب رؤية عالمية أو كونية. لذلك
تفترض أمريكا حاجة ماسة وملحة لإرهاق المنطقة وتحويلها إلى كيانات رخوة يمكن إرغامها
بالقوة والتهديد. فالطريق الآخر -أي الديمقراطية- سرعان ما أتت بأعداء أمريكا إلى الحكم
في كل المنطقة، أضف إلى ذلك أن كل محاولات أمريكا لصناعة هندسة إقليمية أو "نظام"
يخضع لإرادتها وتواجه من خلاله إيران؛ فشلت واقعا. وتأكد أن هذه المنطقة هي من النوع
الذي لا يمكن إنجاز أي مقاربة فيها لخدمة أمريكا دون انخراط الأخيرة فيها بالمعنى الفيزيائي،
وليس فقط الإدارة عن بعد كما افترض أوباما (علما أن التجربة أثبتت أنه حتى مع الاحتلال
الأمريكي الفيزيائي لم تحقق الإرادة الأمريكية هدفها الفعلي في المنطقة).
فالشعوب العربية
المسلمة رغم كل ظروفها ومعاناتها وأزماتها لم تقبل الكيان الصهيوني، والأخير رغم كل
بطشه وتوحشه لم ينجح في أن يفرض نفسه كحضور معترف به، وجبهة المقاومة رغم كل ما قاسته
وعانته من خضات بقيت معضلة فعلية يتعذر تحييدها، بل امتلكت مشروعية تجديد نفسها وزخمها
عند كل تحد. ولا نغفل سياسات أمريكا نفسها، فسياساتها المرتبكة وتوترات إدراكاتها للعالم
ولّدت أزمة المصداقية والثقة وقدرتها على الالتزام مع حلفائها. ولأن شرط إدارة الفوضى
يحتاج إلى محرك، لذلك انتقلت الإدارة الأمريكية من سياسة حماية أمن إسرائيل إلى تأمين
توسع الكيان الصهيوني وتوسعته.
منطقتنا هي المؤشر الأول لاستشراف طبيعة النظام أو اللانظام الدولي المقبل. من هنا يتوقف مستقبل العالم وليس منطقتنا فقط على إدارة القوى الإقليمية الرئيسة لهذه اللحظة التاريخية التي نمر بها، وتفويت الفرصة على سياسة بث الفوضى التي تنتظرنا، والتآزر لمواجهة هذا التهديد والبحث عن المشتركات وتجميد الخلافات ولو إلى حين
إذا أمريكا
أمام حاجة توسع الكيان، وفي الآن ذاته تدرك أن الكيان عدم قدرة الكيان لبسط سلطته على
جغرافيا تتوسع؛ لأن الإفراط في التوسع سيؤدي إلى قطع شبكة الأوتار. لذلك تحتاج لبث
الفوضى خارج الكيان الصهيوني الجديد والحؤول دون تسلل مسوغات الفعل المقاوم مجددا.
من هنا فإن أمريكا مضطرة أن تضرب البيئة المحيطة بإسرائيل الجديدة بالفوضى والإرهاق
في المقابل
من ذلك، تشكّل جبهة المقاومة اليوم عامل التوازن الإقليمي والدولي الوحيد للحؤول دون
توسع الفوضى، وتعتبر إيران اليوم بيضة القبان وهي الدولة الضرورية التي تضمن عدم اختلال
التوازن الكلي لصالح الأمريكي الإسرائيلي (لا نقصد الاختلالات التكتيكية أو الظرفية
التي عادة ما يمكن تعويضها). ولنا أن نتخيل لو سقطت جبهة المقاومة وإيران؛ كيف سيكون
واقع الدول الإقليمية من تركيا إلى العراق إلى مصر إلى المملكة السعودية، فضلا عن مستقبل
المواجهة المغربية مع الصين وروسيا.
إنّ منطقتنا
هي المؤشر الأول لاستشراف طبيعة النظام أو اللانظام الدولي المقبل. من هنا يتوقف مستقبل
العالم وليس منطقتنا فقط على إدارة القوى الإقليمية الرئيسة لهذه اللحظة التاريخية
التي نمر بها، وتفويت الفرصة على سياسة بث الفوضى التي تنتظرنا، والتآزر لمواجهة هذا
التهديد والبحث عن المشتركات وتجميد الخلافات ولو إلى حين. مقتضى ذلك أن تهّم القوى
الرئيسة في الإقليم (ولا بأس أن تبادر إيران باعتبارها الدولة الأكثر تسييسا وتحديا
للإرادة الأمريكية) لتقديم تصورها للمنطقة على الصعيدين الأمني والسياسي فضلا عن الاقتصادي،
بحيث يتعاون الجميع على استعادة الدولة مضمونا وشكلا، ويقترحون نموذجا معقولا لتوازن
إقليمي يراعي هذه المرحلة الانتقالية، ويبادرون لتأسيس صيغة على قاعدة العدالة بدل
الليبرالية.
إن الالتقاء
-ولو السالب- ضرورة كبرى اليوم وحاسمة لتجنيب المنطقة بل والعالم الفوضى القاتلة، وفتح
الطريق أمام فرصة أفضل أمامنا والمسؤولية التاريخية علينا أولا نحن كمسلمين وعرب قبل
غيرنا من الأمم والشعوب. أما ما هي مكونات ومعايير هذا النظام المقترح للمنطقة؟ وهل
تَسلم أمريكا من تداعيات الفوضى إذا سلمت العالم لها؟ هذا ما سنتركه لمقالات أخرى.