قضايا وآراء

حول الصراع.. وفلسطين

بلال اللقيس
"النظرية التقليدية والواقعية لا تأخذ ولا تعطي اهتماما كبيرا للتحول الجاري في الرأي العام العالمي، وماذا يعني أن إسرائيل دولة إرهاب وقتل وإبادة"- إكس
"النظرية التقليدية والواقعية لا تأخذ ولا تعطي اهتماما كبيرا للتحول الجاري في الرأي العام العالمي، وماذا يعني أن إسرائيل دولة إرهاب وقتل وإبادة"- إكس
يؤكد التاريخ أنّ الصراع بين العدالة والطغيان واقع قائم لا مناص منه، وآن استمرار خط العدالة والتحرر فضلا عن قدرته على ترسيخ وتزخيم ذاته؛ فيه من الغرابة والعجب. فكلما بدا أنه يتجه ليخبو وينتهي لا تلبث تراه يفاجئ الجميع فيعود ويستعيد المبادرة ويتأجج؛ محدثا دفعا حضاريا نوعيا ضامنا للحياة الإنسانية ونوعيتها. امام هذه الحقيقة واهمية السير التأملي فيها يثور عدة اسئلة: كيف لتيار العدل والحرية للمعاودة وتشكيل قدرة الدفع هذه؟ وهل يمكن رصد وتفسير هذه "المفارقة"؟ وهل من منهج معرفي لإدراك واستشراف هذا التحول لكونه أكبر مفارقات الحياة الاجتماعية ومفاجآتها، وإذا كان للمنهج الديني مقولته التامة في الأمر فهل للمنهج الأكاديمي التجريبي والتأملي تفسيرا شافيا ووافيا؟

الغرابة في المشهد هي أنه كيف للجهة ذات الإمكانات المادية والقوة الأقل بما لا يقاس بإمكانات قوى الهيمنة والطغيان والاستبداد؛ أن لا تخبو وتنتهي ويتأبد بالتالي سلطان الظلم! وكيف لفائض القوة والعدة والعديد وعناصر القوة الأخرى، أن لا تحقق غايتها وتسيطر على كل مفاصل المشهد وتحيط به إحاطة شاملة فتعدم قيامته من جديد وإلى أبد الآبدين؟

إن المسار والعلم التجريبي يسوقنا إلى أن التراكم الكمي المتوافر لجهة الهيمنة والفارق الكبير لصالحها ستؤدي لحسم وجهة نظرها وإنفاذها وإخضاع كل شيء لها، لكن الغريب أن ذلك لا يتحقق!! بل ها هي أعتى القوى المتجبرة والمستبدة تنهار وتضمحل ولا تستمر، وها هو نداء العدل والحرية والمستضعف يعاود دوما ليعّرف الأحداث ويستولد المعنى في حركة التاريخ. هل يمكن تفسير هذه العملية الغريبة أكاديميا وهل يمكن الرصد والاستشراف والتوقع؟ وإذا أمكن ذلك، هل يمكن أن نطبقها على ما يحدث اليوم بين جبهة المقاومة وقلبها غزة مع جبهة التسلط والطغيان ونموذجها الأمريكي الإسرائيلي؟

في متابعة لنظريات السياسة في الغرب كنظريات كلاسيكية أو حداثية وما بعد حداثية، يلحظ المرء تحولات متسارعة ومحاولات لا تتوقف لاستصدار رؤى ونظريات وتقديم مقاربة نظرية في السياسة، ليس آخرها فلسفات التفسيرية أو التأويلية أو الواقعية والبنيوية وغيرها. بالنسبة لكثيرين في الغرب والعالم لم تعد المدرسة الواقعية قادرة على التفسير ولا الاستشراف، وصارت النظرية البنائية تتقدم على غيرها

الكتب السماوية تتوسع في هذا المضمار وتعتبره صميميا وتعطيه حيّزا كبيرا من رسالتها، وتؤكد بما لا يدع مكانا للشك على قدرة جبهة العدل والتحرر في التقدم رغم فارق القوة المادية، وتربط المسألة بنظرية الحق ومشروعيته وصراع الحق والباطل وفلسفته وخصائصه، كما وبأهل الحق ومدى التزامهم ووثاقته، وتعتبر ذلك عوامل كفيلة بإحداث التغيير، بل إحداث المفاجأة الكبرى وتأكيد ما نفترضه نحن مفارقة وهو في الحقيقة جوهر ميزة الحق وقدرته على الانسياب في أحشاء الزمان وبواطن التاريخ وحنين الإنسان إليه وحاجته للعودة والتمسك به! فهي تشير إلى أن صمود أهل الحق على حقهم وثباتهم مهما كانت الصعوبات سينشئ دفعا يؤدي إلى إنتاج وقائع جديدة، فالغالب بالشر مغلوب، ومن أبدى صفحته للحق هلك (ولولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد.. الخ من تقديم رؤية متماسكة ومتكاملة للدفع التاريخي ومسار الصراع).

أما المدة الزمنية المرتبطة بظهور الطغيان واستعادة خطاب الحق حضوره لإنتاج الواقع، فهذا رهن مدى التزام أهل الحق بحقهم واستقامتهم عليه والتزامهم به كمبدأ وأصل وميثاق (ولا يمانع الدين بمرونة لجهة التكتيك والعمل). إذ إن شرط الاستمرار الحضارة والجماعة القاصدة أو الحركة المريدة أو الأمة يكمن في عطف القوة والإمكانيات المادية إلى الحق، وما ينبلج عنه من قيم العدل والحرية ومكانتهما. فالعدالة والأخلاق الحقة والخير العمومي هي مصدر المشروعية وشرطها، والقوة والبحث عنها والجاهزية والإعداد والاستعداد هي متممات مطلوبة بحدود الدفاع عن المشروعية وتحصينها وحماية خطاب الحق والقدرة على بيانه دون فرض أو قسر أو أي نوع من الإكراهات.

ولا تبرر المدرسة الدينية الأصيلة القوة لإحداث تغييرات فكرية أو اعتقادية إنّما تسوغ القوة في معرض مواجهة الظلم والبغي والعدوان، وليس الاعتقاد والفكر والآخر المختلف مهما جنح الفكر ولو إلى الكفر، فلا قتال ولا استخدام قوة مادية بمواجهة آخر لمعتقد مخالف، إنما في مواجهة ظلم واقع (ولا فرق في ذلك بين مسلم أو غير مسلم يمارس الظلم). هكذا حدثتنا كتب السماء عن الأنبياء والشهداء وكيف واجهوا الطواغيت والظلَمة رغم فارق الإمكانات الهائل، وهكذا وضعها القرآن كآخر الكتب السماوية وأشملها تحت عنوان "سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا"، في إشارة إلى أن هذه المسألة هي سنة حاكمة وضعها الخالق في الوجود كضمانه لتقويمه واستمراره، بل تقدمه وترقيه. وهكذا رأينا على امتداد التاريخ وصولا لتاريخنا القريب وحياتنا المعيشة ما يفيض من النماذج التي تؤكد على هذه الحقيقة البينة.

في متابعة لنظريات السياسة في الغرب كنظريات كلاسيكية أو حداثية وما بعد حداثية، يلحظ المرء تحولات متسارعة ومحاولات لا تتوقف لاستصدار رؤى ونظريات وتقديم مقاربة نظرية في السياسة، ليس آخرها فلسفات التفسيرية أو التأويلية أو الواقعية والبنيوية وغيرها. بالنسبة لكثيرين في الغرب والعالم لم تعد المدرسة الواقعية قادرة على التفسير ولا الاستشراف، وصارت النظرية البنائية تتقدم على غيرها. فشلت الواقعية منذ أواخر القرن الماضي في تفسير لماذا انهار الاتحاد السوفييتي، ولماذا لم تنجح أمريكا في فيتنام والعراق وأفغانستان وليبيا والصومال، ولماذا لم تتنبأ بثورة إيران وعودة الدين، ولماذا لم تستطع إسرائيل سحق قوى المقاومة مع فارق الإمكانات، بل تقدمت الأخيرة في منطقة غرب آسيا مقارنة بالسبعينات والثمانينات أيما تقدم، ولماذا إلى اليوم لم تحسم إسرائيل حربها في غزة.. ولماذا.. فكان للبنيوية والبنيويين مقارباتهم التفسيرية لفهم العالم وفق مقاربة على "البنية"، ولا شك أنها أضاءت على جديد وفتحت أفقا لفهم مختلف للعالم ومساره وصراعاته وطبيعتها ومآلاتها.

والنظرية البنائية مالت لإدخال عوامل جديدة في التفسير، كان أبرزها الفكرة والخطاب والقيم والثقافة كمكونات أصيلة في التفسير والتوقع، وأدخلت الاجتماعي في تفسير السياسي كما عبر ألكسندر ويندت في عنوان كتابه "النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية"، أي أدخلت مكونات غير كميّة، واعتبرت أن السياسة تمر من خلال بناء الخطاب الاجتماعي والمعايير والمشروعية والفكرة والهويات وليس فقط أبعاد القوة المادية وموازين القوى وحسابات المصلحة التقليدية، دون أن نغفل الأمور العسكرية والمادية أو نتنكر لأهميتها، بل إن التثقيل ليس لها بقدر ما هو للمعايير والفكرة والخطاب والهوية، فاستطاعت أن تقدم تفسيرا أفضل لكثير من أحداث العقود الثلاثة الأخيرة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وصولا لصراع الحضارات الذي تمظهر في الحرب على الإرهاب (ضمنا على الإسلام..).

وحاليا هناك المزيد من التطوير والمحاولات التفسيرية والتنظيرية لمعرفة التعاطي مع سيل من المفارقات التي تواجه عالمنا الجديد وتحدياته؛ التي لم يظهر أن نظرية موازين القوة الكلاسيكية قادرة على تفسيرها رغم ما فيها من قدرة على التنبؤ. فالنظريات السياسية تتقدم خطوة إلى الأمام بحثا عن الواقع وتفسيره والتنبؤ بالمستقبل إن أمكن؛ على وقع سيولة التحديات وصعوبة الإمساك بمسند ومرتكز تحليلي ثابت، وتحاول رصد البناء الاجتماعي للعالم ومعايير ذلك كي لا نبقى في فوضى وإدارة ازمة.

الذي ينظر من منظور المدرسة الواقعية سيعتبر أن إسرائيل رابحة، بينما الذي ينظر من منظور البنيوية سيرى شيئا ثانيا، والناظر من المدرسة البنائية سيراها بعيدة جدا أن تربح بل تسير لتخسر، إذا ما هي النظارة الأنسب لنرى العالم ونبني موقفا سليما وواقعيا على أساسه؟ 

ماذا نقصد مما تقدم؟ نقصد أنه إذا أخذنا المدرسة الواقعية أو الواقعية الجديدة لن نعطي كثير اهتمام لمفهوم الحقانية والعدالة والمعيار ومعنى الحق والتحرر، ولا لمشروعية النضال ولا لهويات المجتمعات وقيمها؛ لا في فلسطين ولا لبنان ولا اليمن الذي يساند لسبب أخلاقي وليس لسبب سياسي أو جيوبوليتيكي، ولا لمجتمع العراق الذي يدعم للسبب نفسه أولا، ولا لموقف إيران وصمودها منذ أكثر من 45 عاما لسبب أخلاقي أولا؛ يرتبط بالعدالة ونظرية يقظة المستضعفين قبل أي شيء (لو أرادت مصلحة وفق الفهم الغربي كان الأفضل لها عقد تفاهم مع الأمريكيين على المنطقة وتوزيع المصالح، وستحظى بموقع متقدم وتأييد غربي لسلطانها في الإقليم)، وكيف لإيران الإسلامية أن تثبت طوال عقود في صراع لم يهدأ (ننوه أن الاتحاد السوفييتي انهار بعد أقل من 5 عقود في مواجهة منظومة الغرب رغم عظيم إمكاناته المادية والعسكرية وامتلاكه لأيديولوجيا ووفرات وثروات، بينما ترى إيران أكثر حيوية وتماسكا وثباتا رغم فارق إمكانياتها مقارنة بالغرب).

إن النظرية التقليدية والواقعية لا تأخذ ولا تعطي اهتماما كبيرا للتحول الجاري في الرأي العام العالمي، وماذا يعني أن إسرائيل دولة إرهاب وقتل وإبادة، وتأثير ذلك، أي لا تعير كثير اهتمام لمضمون الفكرة والمعيار، لأنها لا ترى الرأي العام العالمي ضمن موازين القوة الفعلية. ولا تنظر كثيرا إلى مفهوم ثقة المجتمع بمستقبله وكفاءته وهويته، ولا للمجتمع ومنظومته وكيف يبني ذاته اجتماعيا وكيف تقدم الدولة سرديتها وبيانها للمعركة. فالسردية الإسرائيلية اليوم في الحضيض، وانقلبت رأسا على عقب، والمجتمع في تشظٍ بعد أن غادر مربع الديمقراطية إلى الأوليغارشية، والصورة في الحضيض رغم كل محاولات تجميلها بالدعاية ليتبين أن المشكلة في الحاجة لتغيير المنهج وليس الدعاية أو مزيد منها، فالسياح الإسرائيليون باتوا منبوذين في العالم وفي أوروبا التي رعتهم لعقود.. وطلبة الجامعات والجيل "z" يتراجع تأييده بقوة للكيان، والصروح العلمية تقاطع إسرائيل، وغير ذلك من عوامل تعيد إنتاج مشروعية وفهم وفكرة ونظرية للصراع الجاري على أرضية غزة ومن خلالها.

في نهاية هذه المقالة نود القول إن الذي ينظر من منظور المدرسة الواقعية سيعتبر أن إسرائيل رابحة، بينما الذي ينظر من منظور البنيوية سيرى شيئا ثانيا، والناظر من المدرسة البنائية سيراها بعيدة جدا أن تربح بل تسير لتخسر، إذا ما هي النظارة الأنسب لنرى العالم ونبني موقفا سليما وواقعيا على أساسه؟ هذا هو التحدي وقبل أي شيء آخر.

رغم ما تقدم ورغم ما تُقدمه النظريات الوضعية من إجابات محتملة عن الأسئلة المتزايدة -وهو أمر جيد- لكن دعونا نعترف بأنها لا تزال قاصرة عن بلوغ مزيد من الفهم للواقع المتشابك، ولعل ما سوف تتقدم به البشرية من معارف وتنظيرات مستقبلا سيكون أرقى وأهم لجهة تفسير حالة المقاومة والتنبؤ بمستقبلها باعتبارها فكرة، والفكرة أصل كل شيء ومنتهاه، وباعتبارها خطاب حق ومشروعية ونداء عدالة ونظرة للخير العام والعمومي، وفكرة إبداعية تُسهم أكبر إسهام بأن تبقي للحياة معنى وللتحرر والندية مكانة وللتنوع أرضية.
التعليقات (0)

خبر عاجل