قضايا وآراء

قراءة في العدوان الإسرائيلي على دولة قطر.. وماذا بعد؟

بلال اللقيس
"قطر تصنّف كحليف خاص أي استراتيجي من خارج الأطلسي"- جيتي
"قطر تصنّف كحليف خاص أي استراتيجي من خارج الأطلسي"- جيتي
شكّل العدوان الإسرائيلي على قطر سابقة تاريخية لم تطاول قطر فقط بل منظومة دول مجلس التعاون، للمرة الأولى منذ 1990. لقد كان هذا العدوان بمثابة أوّل انتهاك فيزيائي مادي لأمن واستقرار وسلامة دولة تحظى بموقع شريك استراتيجي من خارج الناتو.

شجّعت الولايات المتّحدة الأمريكية ورعت تأسيس وانبثاق مجلس التعاون الخليجي ليكون ندا وصدا بوجه الثورة الإسلامية في إيران، جاءت المفارقة أنّ انتهاك هذه المنظومة جاء في الحالتين على يد أمريكا، الأولى حين أقدم العراق على غزو الكويت والثانية اليوم.. المفارقة المدّوية أنّ أيا من دول المجلس لم تُستهدف من إيران التي يدّعي الأمريكي وبعض أنظمة الخليج أنّها الخطر المحدق بهذه الدول وبأمنها، وأنّ مبّرر وجود أمريكا هو لحمايتها، إنّما الذي استهدفها هو "الحليف" وحليف الحليف (للتنويه: قطر تصنّف كحليف خاص أي استراتيجي من خارج الأطلسي). فـ"الحامي لأنظمة الخليج" ليس فقط يبتّزها ماليا بل أيضا يستهين بسيادتها.

وهل ستُكمل دول الخليج بمسار التطبيع "من أجل أمن المنطقة ومن أجل فلسطين" كما تسوّق الإمارات وغيرها؟! أم أنّ مستقبل مسار التطبيع هو إخضاعهم جميعا وتهديدها وابتزازها من الحليف وجعلها تحت السقف السياسات الإسرائيلية، وليس حليفا للأمريكي كما تقدم نفسها، وكيف بنا وأمريكا صارت اليوم مضطلعة بحماية تمّدد الكيان الصهيوني وليس بحماية أمنه كما في السابق؟

هل ستُكمل دول الخليج بمسار التطبيع "من أجل أمن المنطقة ومن أجل فلسطين" كما تسوّق الإمارات وغيرها؟! أم أنّ مستقبل مسار التطبيع هو إخضاعهم جميعا وتهديدها وابتزازها من الحليف وجعلها تحت السقف السياسات الإسرائيلية، وليس حليفا للأمريكي كما تقدم نفسها

- لمن يتبنّى الحياد، فاليوم نحن أمام اعتداء صريح على دولة اعتمدت هوية "الحياد الإيجابي" والنشط، وإذ بها تنتهك سيادتها وتهدّد هويتها ودورها الدبلوماسي.

- بالأمس أغرقت قطر ترامب بالهدايا والصفقات الكبيرة، ولكن سرعان ما طعنها، فكيف لبعض القوى والأحزاب أن ترهن نفسها إلى الأمريكي وتتطلع إلى ضمانته؟! إنّ أمريكا إمبراطورية هيمنة لا يمكن أن تؤمن في شيء.

- يبدو أنّ أمريكا لديها عداء مستحكم مع كل من عنده ولو لمسة أو ميل إسلامي (هذا ما يتأكّد من محاولة الغرب سابقا إسقاط الرئيس أردوغان رغم عضوية بلاده في الناتو ورغم علاقته القوية مع إسرائيل، وكذلك رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، واليوم قطر رغم ما هي عليه من علاقات ولو بمستوى غير سياسي مع إسرائيل).

- جديد عالم اليوم، عدم تحرّج أمريكا وحلفائها من ممارسة الإفك السياسي علنا، لم يعد هناك اعتدادا بقيمة ولا بعُرف. والأغرب هي حالة الصلف والتجبّر، أصبحوا يعلنون للملأ نواياهم، سيقتلون ويفعلون ويدمّرون ويغيّرون، وأصبحوا يهددون حتّى باستخدام القوة النووية.. الخ. إنّهم يقولون أنّهم انتقلوا من الصراع بقواعد إلى صراع بلا قواعد ولا حدود، لدرجة أنّه صار بالإمكان اعتماد خطاب نتنياهو وترامب وفريقهما كمصدر تحليل شبه نهائي.

- ومن شدّة الصلف، ربّما هي من المرات النادرة في تجارب الصراع الإسرائيلي التي نرى فيها حروبا عسكرية تقودها أمريكا وترعاها؛ دونما تصور سياسي مسبق للمخرج وتعريف واضح للنجاح. ربّما أنّهم راهنوا على أنّ القوة الفائقة ستغّير كل شيء وأنّ قوتهم لا محدودة النتائج ما سيؤدي سراعا إلى إنهاء القضية الفلسطينية في أشهر قليلة؛ فما لبثوا أن رأوا فلسطين تجوب عواصم العالم وجامعاته ونخبه، وينقلب المشهد.

- ومن جديد أمريكا تدير سياستها بالخداع فتفقد ثقة حتّى الأقربين، فبينما هي تفاوض تراها تقتل مفاوضها وبينما هي توّسط طرفا تختانه، ما يعني أنّها لا تؤمن بالمجال الدبلوماسي والسياسي وأنّها اتخذّت قرار إسقاطه إلى غير رجعة، وأنّها لا تؤمن بالحلول السياسية كمنهج؛ مع خصومها ناهيك عن أعدائها.

- يمكننا القول إنّ أمريكا أنهت النظام الدولي والأمم المتّحدة ومؤسساتها وكل مبادرات مراقبة مسائل الحقوق والقانون وأطلقت رصاصة الرحمة عليها، بل دفنتها. لم يعد مضمون النظام الدولي السابق مفيدا لها، تسير لتنشئ عالما آخر (ليس نظاما) بالاعتماد على القوة وفقط القوّة، دون أي حد أدنى من القيم والمعايير الأخلاقية واحترام الإنسان، والكارثة أنّها تفترض أنّ عالما بدون أخلاق يمكن إيجاده!!.. هذا هو العالم الجديد الذي يبشرنا به ترامب، عالم الموت والقتل لكل مخالف، بل متمايز بدون أي ضوابط ولا معايير، عالم ازدراء حتّى الحليف وقهره (بالأمس فعل شبها منه تجاه أوكرانيا).. وهذا هو نموذج المنطقة التي تريدها إسرائيل، مستباحة وليس هناك حساب إلا للمصلحة الصهيونية وفرط القوة والحق للقوة.

إنّ أمريكا صارت خطرا على الإنسانية كلّها، ومعركة عالم اليوم هي بين حضارتها الوحشية وبين الكرامة الإنسانية، والشعوب صارت على مفترق طرق؛ إمّا القبول بالرق والعبودية أو إنشاد الكرامة واحترام ذواتها، لذلك فإنّ أمريكا تدخل في أخطر مواجهة في التاريخ الإنساني: إنّها تواجه الغالبية الساحقة من البشرية بما نسمّيه مفارقة الديمقراطية، ومواجهة الحقوق العالمية أو الحقوق الطبيعية والمدنية والسياسية بما نسميه مفارقة الأخلاق ودعوة الليبرالية، ومواجهة الحق في التحّرر والكرامة والدين بمفارقة حادة مع نداء السماء الذي تدّعي أنّها لا تتنكّر له، وبمفارقة خطيرة مع حق الإنسان والفرد الذي تدّعيه "الحداثة" ومبادئ الثورة الأمريكية، لذلك هي تقترب من التهافت التام مع هويتها الليبرالية الديمقراطية الحداثوية المدّعاة.

وأمريكا اليوم مذعورة، فلا تبدو قادرة على أن تتحمّل رؤية عالم جديد يولد "غصبا" عنها ويستغل أخطاءها القاتلة وتهورها وفوقيتها، كيف وهي ترى عواقب أعمالها تسرّع من تكوّن العالم الجديد والتئامه وتلاقي حتى الخصوم فيه، كما عبّرت عنه بوضوح قمة شنغهاي. إنّ هذا الذعر سيدخلنا في مرحلة اللاعقل والجنون الأمريكي- الإسرائيلي، ويبدو الانتقال العالمي الذي بدأ بالمباشر منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر سيزداد استعارا، كأنّها ضريبة التغيير التي يجب دفعها لحفظ استمرار الانسانية، وهذا ما تفعل فعله دماء أطفال ونساء غزّة الأباة ولبنان.

وعليه، ورغم ما تدّعيه من إنجازات، لكن خسارات إسرائيل صارت من النوع الذي لا يمكن تصحيحه وقذاراتها صارت من النوع الذي لا يمكنها غسله ولا إعادة تبييضه، وأيضا أمريكا. لذلك لا يبدو أنّهما قادرتان على التراجع فأي تراجع الآن يعني انهيار لذلك سيكملان غير آبهين بشيء، إلاّ إذا نجح العالم في خلق الافتراق بين ترامب ونتنياهو، وهذا يحتاج إلى وحدة الكلمة والموقف عند الدول العربية والإسلامية بالحّد الأدنى.

الفرصة اليوم أقرب من أي وقت مضى لتقريب الصف الإسلامي خصوصا بين المقاومة وحركات الإسلام السياسي في سوريا والخليج والمغرب العربي، وهناك فرصة يجب أن تستغلها القوى لا سيما الإسلامية في كل قُطر لإعادة توجيه نظرة الشارع وتموقعه من الصراع وجذبه لدور أفعل، وقبل ذلك ربّما يحتاج الأمر إعادة إنتاج خطابها وفق أولويات واضحة وحاسمة تقوم على أولوية مواجهة المشروع الأمريكي في البيئة العربية، والخروج من نفق الإصطراعات الداخلية والصراعات مع الأنظمة، فشعوب منطقتنا لم تكن يوما أقرب إلى الدين منها اليوم، وحاجتنا اليوم إلى حسن تقديم الدين بأولويات واضحة تقوم على الكرامة والعدالة والتحّرر.

أمّا في ما يجب القيام به، فلا بدّ من تركيز الجهد على المبادرة بكل المستويات والدوائر: خليجيا فعربيا فإقليميا فإسلاميا فدوليا، عبر الأنظمة والبرلمانات الرسمية وعبر الفواعل غير الرسمية، وجعل هذه "الخطيئة" الإسرائيلية منعطفا لصناعة استراتيجية ضغط لحل أصل المشكلة أي وقف حرب غزة، وأيضا صناعة أرضية لخلق مساحات فهم جديد لقوى المنطقة وفواعلها بين بعضها البعض.

لا بدّ من تركيز الجهد على المبادرة بكل المستويات والدوائر: خليجيا فعربيا فإقليميا فإسلاميا فدوليا، عبر الأنظمة والبرلمانات الرسمية وعبر الفواعل غير الرسمية، وجعل هذه "الخطيئة" الإسرائيلية منعطفا لصناعة استراتيجية ضغط لحل أصل المشكلة أي وقف حرب غزة

وعليه نقترح تفعيل:

- استراتيجية هجوم دبلوماسي وسياسي وإعلامي وشعبي على النظام الأمريكي وإدارة ترامب.

- محاصرة المقرات والسفارات الأمريكية بالمظاهرات.

- التوّجه بخطاب متماسك إلى الشعب الأمريكي يظهر ما اقترفته إسرائيل بدعم من ترامب وإدارته، والضغط لجعل أمريكا تتنصل -ولو كذبا- من فعلة نتنياهو، بما يؤدي إلى إضعاف موقف الأخير داخليا وتحميله مسؤولية تدهور العلاقات الأمريكية العربية والمصالح المشتركة.

- الدعوة لبعض دول الإقليم -ضمنا السعودية- لإعادة النظر، والتفكير مليا والتمييز بين العدو والصديق والخصم والمنافس، والعودة إلى لغة التحاور بدل الصراع الصفري، وأيضا لتركيا. فسقوط غزّة وفلسطين يعني سقوط الهيكل كله في الإقليم، وانتقال الصراع إلى أنقرة ولاحقا إلى المملكة.. ودعوتهما لإعادة نظر في سياساتها في الإقليم من موقع الحرص والرغبة بالتلاقي.

- توّجه التيارات الإسلامية لتركيز خطابها على إخراج أمريكا من المنطقة وجعل هذه المسألة رأس الأولويات، وتجميد الخلافات البينية لصالح مواجهة التهديد الشامل الذي يضرب المنطقة.

- ضرورة أن يؤسس هذا الحدث لوضعية علاقاتية جديدة بين قوى منطقتنا ودولها العربية منها والإسلامية، وفتح كوّة في جدار الخصومة وإنتاج إمكانية لتواصلات كانت قد قُطعت بين القوى والدول في ظروف معيّنة، فهذا التهديد غير المسبوق بل هذا المسار والنمط والأسلوب الجديد من التهديد يجب أن يقربنا. فهل يمكننا أن نتقدّم بخطاب القراءة بعقلية المصالح بدل الانتقام والثأر؟ لا سيّما أنّه لم تعد هناك دولة عربية أو إسلامية بل حتّى مسيحية وهندوسية وبوذية وكونفوشوسية (فنزويلا، البرازيل، الهند، الصين، كوريا..) إلّا وهي في المهداف والتهديد الغربي الأمريكي، فما حصل في قطر كان قد سبقه شبيهه اليمن وفي إيران وفي لبنان.. وقد يحصل في تركيا أو في السعودية أو العراق أو مصر.. فالذي يسعّر الصراع ويسعى ليقتل مفاوضه وانتهاك سيادة الوسيط، ومن يحاول أن يقتل بهذه الطريقة ويستهدف بهذا النمط من الاستهداف؛ لن يتوّرع عن أن يستهدف أيا من رؤساء أو رموز دول عربية أو إسلامية أو غيرها، إذا ما وجد في ذلك ضرورة لتحقيق هدفه التوّسعي وماهيته الهيمنية الوحشية.
التعليقات (0)

خبر عاجل