الكتاب : اللامركزية لإنقاذ تونس وأوكرانيا
المؤلف : الدكتور محمد الصغير النوري
الناشر : دار ارابسك
سنة النشر :2023
عدد الصفحات: 178
يأتي هذا النص في إطار قراءة فكرية خاصة بـ
"عربي21"، ينجزها الباحث والإعلامي التونسي
عامر عياد، ضمن مشروع نقدي يهدف
إلى مساءلة التحولات العميقة التي تعيشها الدولة الوطنية في العالم العربي وخارجه،
في ظل أزمات الحوكمة، وتآكل النموذج المركزي، وتفاقم الفوارق الاجتماعية والجهوية.
ويمثّل هذا المقال الجزء الأول من قراءة موسّعة لكتاب "اللامركزية لإنقاذ
تونس وأوكرانيا"، للدكتور محمد الصغير النوري، الصادر عن دار أرابسك سنة 2023.
لا يتعامل هذا النص مع الكتاب بوصفه مجرّد
مساهمة تقنية في نقاش إداري حول توزيع الصلاحيات، بل يقرأه باعتباره أطروحة فكرية
وسياسية تسعى إلى إعادة طرح سؤال الدولة من جديد: أي دولة نريد؟ وبأي منطق تُدار؟
وهل ما تزال المركزية الشديدة قادرة على ضمان الوحدة والاستقرار والتنمية في
مجتمعات تتسم بالتعدد، وتعيش أزمات مركبة اقتصادية واجتماعية وأمنية؟
تنطلق هذه القراءة من فرضية أساسية مفادها
أن كتاب النوري يتجاوز السياق التونسي الضيق، ليقترح اللامركزية باعتبارها خيارًا
بنيويًا لإنقاذ الدولة الوطنية في حالات مختلفة، سواء في دول خارجة من الثورات،
كما في تونس، أو من الحروب والصراعات، كما في أوكرانيا. ومن هنا تأتي أهمية
المقارنة التي يقيمها المؤلف بين تجارب دولية متعددة، توظَّف لا كأمثلة جاهزة، بل
كمرآة نقدية لفهم الإخفاقات البنيوية لنموذج الدولة المركزية.
وتسعى هذه القراءة، في جزئها الأول، إلى
تفكيك الإطار النظري الذي يبني عليه النوري أطروحته، عبر تحليل نماذج اللامركزية
العالمية التي يستحضرها، ومساءلة مدى قابلية إسقاطها على الحالة التونسية، وربطها
بالسياق الدستوري والسياسي، خاصة بين دستور 2014 ودستور 2022. كما تهدف إلى تقييم
قوة الأطروحة من حيث انسجامها النظري، وحدودها من حيث استيعابها لتعقيدات الواقع
التونسي.
بهذا المعنى، لا تقدّم هذه الورقة تلخيصًا
للكتاب، بل قراءة نقدية تحليلية تحاول وضع اللامركزية في قلب النقاش الفكري حول
مستقبل الدولة، لا كخيار تقني معزول، بل كرهان سياسي واجتماعي يتصل مباشرة
بإشكاليات الديمقراطية، والتنمية، والوحدة الوطنية.
اللامركزية في إطارها التاريخي العالمي
يمثل كتاب "اللامركزية لإنقاذ تونس
وأوكرانيا" محاولة لفتح نقاش فكري عميق حول مستقبل الدولة الوطنية في زمن
تتعقد فيه مطالب الحوكمة وتتداخل فيه الأبعاد الاقتصادية بالسياسية، والاجتماعية
بالأمنية. فالكتاب يأتي في ظرف تونسي وإقليمي تتزايد فيه الأسئلة حول فعالية نموذج
الدولة المركزية، خصوصًا بعد السنوات التي تلت الثورة، والتي كشفت عن حدود هذا
النموذج في الاستجابة لمطالب التنمية والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية.
ومنذ الفصول الأولى، يحرص الدكتور محمد
الصغير النوري على وضع اللامركزية في إطارها التاريخي العالمي، باعتبارها ليست
مجرد تقنية إدارية، بل اختيارًا استراتيجيًا ارتبط في كثير من التجارب بنجاح
الدولة الحديثة في تحقيق التنمية المتوازنة واستيعاب التعددية والحدّ من النزاعات.
ومن هنا، يظهر بوضوح أن التمهيد النظري للكتاب يقوم على فرضية مفادها أن: "اللامركزية
ليست ترفًا إصلاحيًا، بل شرطًا بنيويًا لازدهار الدولة وضمان وحدتها".
وللدفع بهذه الفكرة، يعرض الكاتب نماذج
متعددة من التجارب الدولية التي حققت نجاحًا ملموسًا في تطبيق اللامركزية، ويقدّم
من خلالها دروسًا يرى أنها قابلة للتوظيف في الحالة التونسية، ولو مع ضرورة مراعاة
الخصوصيات المحلية. هذه التجارب لم تُعرض بمنطق السرد التاريخي فقط، بل تم تقديمها
كأمثلة على كيفية توظيف اللامركزية لإعادة بناء علاقة متوازنة بين السلطة والمجتمع.
1 ـ التجربة الألمانية.. اللامركزية كإطار
لوحدة الدولة بعد الانقسام
يُبرز النوري نجاح ألمانيا في بناء نموذج
تعددي حقيقي يقوم على توزيع السلطة بين الحكومة الفدرالية والولايات. ويشير إلى أن
ألمانيا، رغم قوتها المركزية الواضحة، تُدار محليًا عبر شبكة من المؤسسات القادرة
على صنع القرار في مستوى الولاية والبلدية، سواء في التعليم أو الصحة أو الاقتصاد.
النوري يرى أن المغرب استطاع، رغم هيمنة السلطة المركزية، إطلاق ديناميكية لامركزية تدريجية عبر توسيع صلاحيات الجهات وتوفير تمويلات. ورغم أن تونس تختلف سياسيًا، فإن هذه التجربة تبقى ذات قيمة لأنها تشير إلى إمكانية ربط اللامركزية بالمشاريع الكبرى والبنى التحتية.
ويستفيد الكاتب من هذه التجربة لتأكيد أن
اللامركزية لا تهدد وحدة الدولة، بل على العكس، كانت إحدى ركائز إعادة توحيد
ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وتحويلها إلى قوة اقتصادية عالمية. وهو ما
يقدّم درسًا لتونس مفاده: "مزيد من
التمكين المحلي قد يعني مزيدًا من الوحدة لا التفكك".
2 ـ التجربة السويسرية.. الهندسة اللامركزية
للتعددية
السويسرية من بين النماذج التي يعتمد عليها
الكاتب كمرجع للتعايش السياسي. فهي دولة متعددة اللغات، متعددة الثقافات، ومع ذلك
تعرف استقرارًا سياسيًا وديمقراطية متقدمة.
السبب الجوهري في رأي النوري: نظام
الكانتونات الذي يمنح الوحدات المحلية صلاحيات واسعة في كل ما يتعلق بإدارة شؤونها.
يستخلص النوري هنا درسًا مهمًا: حتى في الدول التي تعيش
تعددية لغوية وثقافية، يمكن للامركزية أن تتحول إلى آلية لاحتواء الاختلاف بدل
تكريسه. وهو تلميح واضح إلى الحالة
الأوكرانية، لكن أيضًا إلى التفاوتات الجهوية والتاريخية التونسية بين الساحل
والداخل.
3 ـ التجربة الإسبانية.. اللامركزية كحل
للنزاعات الهوياتية
يشير النوري إلى التجربة الإسبانية في
تعاملها مع مطالب مناطق مثل كتالونيا والباسك، حيث وفّرت الدولة نموذجًا متقدمًا
من الحكم الذاتي ضمن بنية الدولة الواحدة. ورغم التوترات التي شهدتها البلاد، إلا
أن هذا النموذج سمح باحتواء الكثير من النزاعات ومنح المناطق استقرارًا اقتصاديًا
واسعًا.
بالنسبة لتونس، يلمّح النوري إلى أن
اللامركزية قد تساعد على إعادة توزيع التنمية بما يحد من الشعور بالغبن في الداخل،
وهو شعور لا يقل عن كونه أحد جذور "الهوية الجهوية" غير المعلنة في بعض
حالات الاحتجاج.
4 ـ التجربة الإسكندنافية.. اللامركزية في
خدمة دولة الرفاه
في السويد والدنمارك والنرويج، تمثل
اللامركزية حجر الزاوية في إدارة الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية. ويستفيد
الكاتب من هذه النماذج ليؤكد أن: الجودة العالية للخدمات مرتبطة بقرب المؤسسات المسؤولة من المواطن.
الحكومات المحلية هي أفضل من يدير الضرائب
المحلية لأنها ترى أثرها في حياة السكان اليومية.
الشفافية تزيد كلما اقتربت السلطة من
المجتمع.
هذه التجارب تعطي الكتاب قوة إضافية لأنه
يربط اللامركزية ليس فقط بالفقر أو النزاعات، بل أيضًا بنجاح الدول الأكثر رفاهًا
على الإطلاق.
5 ـ تجربة رواندا.. اللامركزية كآلية لإعادة
بناء الدولة بعد الحرب
هنا يدخل الكاتب في نموذج قريب من التجربة
الأوكرانية: دولة خارجة من صراع دموي استطاعت بناء نموذج اقتصادي صاعد بالارتكاز
على نقل السلطة إلى الوحدات المحلية، وتمكينها من إدارة مشاريع التنمية، ومتابعة
حاجيات السكان، وتحويل الدولة إلى شريك محلي لا سلطة بعيدة.
بالنسبة للنوري، تمثل رواندا مثالًا مهمًا
على قدرة اللامركزية على بناء المصالحة الوطنية وتحفيز التنمية في سياق ما بعد
الصراع.
6 ـ التجربة المغربية.. لامركزية ناشئة في
سياق إصلاح تدريجي
يشير بشكل غير مباشر إلى التجربة المغربية
في "الجهوية المتقدمة"، باعتبارها نموذجًا قريبًا من السياق التونسي.
النوري يرى أن المغرب استطاع، رغم هيمنة
السلطة المركزية، إطلاق ديناميكية لامركزية تدريجية عبر توسيع صلاحيات الجهات
وتوفير تمويلات. ورغم أن تونس تختلف سياسيًا، فإن هذه
التجربة تبقى ذات قيمة لأنها تشير إلى إمكانية ربط اللامركزية بالمشاريع الكبرى
والبنى التحتية.
ومن خلال
عرض هذه التجارب، يسعى النوري
لإقناع القارئ بأن اللامركزية ليست مفهومًا نظريًا يُناقَش في الكتب، بل هي خيار
عالمي ناجح اتخذته دول متقدمة ودول خارجة من الصراع على حد سواء.
كما يضع حالة تونس ضمن هذا الإطار العالمي:
دولة صغيرة، موحدة جغرافيًا، ذات تعددية
اجتماعية وإقليمية، تحتاج إلى نظام جديد يسمح بتوزيع السلطة والموارد بشكل عادل.
يقدّم الكاتب اللامركزية بصفتها الخيار البنيوي الوحيد القادر على إحداث قطيعة مع هذا النموذج وإعادة تأسيس علاقة جديدة بين المواطن والدولة. غير أن هذا الطرح لا يمكن فهمه أو تقييمه بمعزل عن الإطار الدستوري التونسي، وخاصة دستور 2014 الذي يُعدّ النصّ الوحيد في التاريخ السياسي التونسي الذي منح اللامركزية مكانة مركزية وجعلها جزءًا من تصور الدولة لا مجرد آلية تقنية.
إن تعميق التمهيد بهذه الطريقة يجعل مراجعة
الكتاب أكثر تماسكًا من الناحية الأكاديمية، لأنه يربط الأطروحة بالسياق العالمي،
ويوضح الخلفية النظرية التي يستند إليها الباحث، ويُبرز أن اللامركزية ليست مجرد
"اختراع تونسي"، بل جزء من تراث عالمي ناجح في بناء الدولة الحديثة.
أولًا ـ تحليل أطروحة اللامركزية كخيار
لإنقاذ تونس
تقوم أطروحة الدكتور محمد الصغير النوري في
كتابه "اللامركزية لإنقاذ تونس وأوكرانيا" على فرضية مركزية مفادها أن
أزمة الدولة التونسية في عمقها أزمة مركزية مفرطة، وأن اختلالات التنمية وغياب
العدالة الاجتماعية واستمرار الانحباس السياسي إنما هي نتاج تراكم تاريخي لنموذج
حكم يقوم على تركيز السلطة والثروة والإدارة في العاصمة، بما عطّل القدرة على
إدماج الجهات وإشراك المواطنين في القرار العمومي.
يقدّم الكاتب اللامركزية بصفتها الخيار
البنيوي الوحيد القادر على إحداث قطيعة مع هذا النموذج وإعادة تأسيس علاقة جديدة
بين المواطن والدولة. غير أن هذا الطرح لا يمكن فهمه أو تقييمه بمعزل عن الإطار
الدستوري التونسي، وخاصة دستور 2014 الذي يُعدّ النصّ الوحيد في التاريخ السياسي
التونسي الذي منح اللامركزية مكانة مركزية وجعلها جزءًا من تصور الدولة لا مجرد
آلية تقنية.
يستدعي تحليل أطروحة النوري إذن أن نبدأ
بمساءلة تصور الكتاب للأزمة، ثم مقارنته بما جسده دستور 2014 من مبادئ، وتحديد أين
يلتقي الكتاب مع روح الدستور وأين يبتعد عنه.
1 ـ أزمة المركزية في تونس.. جذور تاريخية
وبنية مؤسسية مختلة
يعتمد الكاتب على تشخيص حاد لأزمة المركزية
التونسية، يربط فيه بين ثلاثة مستويات متداخلة:
أ ـ مركزية القرار السياسي
يرى النوري أن الدولة التونسية منذ
الاستقلال إلى اليوم لم تتخلّ عن بنية السلطة المركزية الفوقية التي تجعل القرار
العمومي محصورًا في حلقات ضيقة من البيروقراطية والإدارة المركزية والسلطة
التنفيذية.
هذا التركّز جعل السلطات المحلية ـ البلديات
والمجالس الجهوية ـ واجهة شكلية دون مضمون، وخلق حالة من الانفصال بين الدولة
والمواطنين خاصة في المناطق الداخلية.
ب ـ مركزية التنمية والاقتصاد
الكاتب دقيق في الربط بين مركزية الحكم
ومركزية الاقتصاد. فالمؤسسات الكبرى،
الاستثمارات، البنى التحتية الاستراتيجية، والقطاعات الحيوية (الصناعة، الخدمات،
السياحة، الجامعات، المستشفيات المتقدمة) بقيت مركّزة في الساحل والعاصمة.
والنتيجة هي: تعمّق الفوارق الجهوية، ارتفاع
البطالة في الجهات المحرومة، هجرة داخلية ضخمة نحو المدن الساحلية، تفكك القاعدة
الإنتاجية في مناطق مثل الشمال الغربي والوسط الغربي.
ج ـ مركزية الإدارة
البنية الإدارية التونسية ـ وفق تحليل
الكاتب ـ ما تزال تعمل بمنطق الدولة الشمولية، حيث تحتاج أصغر عملية إدارية إلى
إذن مركزي، مما يقتل المبادرة المحلية ويجعل البلديات والمجالس الجهوية عاجزة عن
تقديم الخدمات.
هذا التشخيص، وإن بدا عامًا، إلا أنه يضع
القارئ أمام سؤال منهجي أساسي: هل إنّ اللامركزية قادرة فعلا على كسر هذا الإرث البنيوي؟ أم أنّ الأمر
يتجاوز حدود توزيع الصلاحيات إلى شكل أعمق من إعادة بناء الدولة؟
2 ـ اللامركزية كخيار استراتيجي.. رؤية
الكاتب ومنطقها
ينطلق النوري من مقاربة تعتبر أن اللامركزية
ليست مجرد إصلاح إداري، بل مشروع مجتمعي وإعادة هندسة للدولة. وهي رؤية يتقاطع
فيها السياسي بالاقتصادي والاجتماعي.
أ ـ اللامركزية لإعادة توزيع السلطة
يقدّم الكاتب اللامركزية كآلية لنقل السلطة
من المركز إلى الجهات، بما يتيح بناء ديمقراطية قاعدية حقيقية قائمة على: قرب صاحب القرار من
المواطن، مساءلة مباشرة وغير بيروقراطية، مشاركة المجتمع المدني في الحوكمة، ابتكار
حلول محلية للمشاكل المحلية
وهذه نقطة قوة في أطروحة النوري، لأنها تضع
المشاركة بدل الهيمنة في قلب الإصلاح السياسي.
ب ـ اللامركزية لتنشيط الاقتصاد الجهوي
يعتبر الكاتب أن الجهات تمتلك طاقات غير
مستغلة بفعل القيود المركزية، مثل: الأراضي الزراعية الواسعة، الموارد الطبيعية، السياحة الإيكولوجية، الصناعات
الصغيرة، وبالتالي، فإن منح الجهات صلاحيات في الاستثمار والبنية التحتية والتخطيط
العمراني يسمح بتحويلها إلى مراكز إنتاج لا مجرد مناطق استهلاك.
ت ـ اللامركزية كعلاج للغبن الجهوي
يحمّل النوري المركزية مسؤولية الإحساس
بالظلم والاحتجاج الدائم في الجهات. ويرى أن اللامركزية يمكن أن تبني الثقة بين
الدولة والمجتمع.
3 ـ دستور 2014.. الإطار القانوني الذي لم يستثمره الكاتب بما
يكفي
على الرغم من أن الكتاب يقدّم رؤية جريئة،
إلا أنه ـ من الناحية الأكاديمية ـ لم يمنح دستور 2014 ما يستحقه من تحليل
باعتباره المرجع الأعلى للامركزية في تونس. فالدستور وضع لأول مرة في
تاريخ تونس تصورًا متكاملًا لـ "السلطة المحلية"، لا باعتبارها "بلديات"
وإنما كيانًا دستوريًا مستقلًا.
أ ـ الفصل 131 وما يليه.. ثورة دستورية
صامتة
ينص الدستور على أن: السلطة المحلية تُدار وفق
مبادئ اللامركزية، الجماعات المحلية تتمتع بالشخصية القانونية والاستقلال الإداري
والمالي، الدولة تتعهد بتوفير الموارد الكافية لتحقيق الاستقلالية، الرقابة على
الجماعات المحلية تكون لاحقة وليست سابقة، مجالس محلية منتخبة ديمقراطيًا، اعتماد
مبدأ التدرج: بلديات، معتمديات، جها.
هذه المبادئ تمثل من الناحية النظرية أكثر
أشكال اللامركزية تقدمًا في العالم العربي.
ب ـ باب كامل في الدستور هو اعتراف بأن
الدولة المركزية فشلت
يُعدّ تخصيص دستور 2014 لباب كامل للسلطة
المحلية اعترافًا ضمنيًا بأن نموذج الدولة المركزية الشديدة قد استنفد وظيفته. وقد
جاءت صياغة الفصل 131 وما بعده لتؤسس لـ: استقلالية القرار المحلي، منع
تغوّل السلطة التنفيذية، ربط التنمية بالجهات، تقليص التفاوت الجهوي، دمقرطة
الإدارة المحلية.
كان المنتظر إذًا من الكتاب أن يُبرز كيف أن
الدستور نفسه كان حليفًا طبيعيًا لأطروحة اللامركزية التي يدافع عنها، وأن يعود
إلى النقاشات التي سبقت صياغة هذا الباب في المجلس التأسيسي، لكنه لم يفعل.
ت ـ غياب الربط بين أطروحة الكتاب والعقبات
التي واجهت سلطة محلية دستورية
بين 2014 و2021 واجه تطبيق الباب السابع من
الدستور عقبات خطيرة: عدم توفير الدولة للموارد اللازمة، مقاومة البيروقراطية المركزية لنقل
الصلاحيات، ضعف القدرات الإدارية في البلديات، غياب الاستقرار السياسي، انخفاض
ميزانيات البلديات مقابل توسع صلاحياتها.
هذه المعطيات تُعدّ أساسية في تحليل مستقبل
اللامركزية، إلا أن الكتاب لم يتوسع فيها، مما يجعل أطروحته قوية من حيث المبادئ
لكنها ضعيفة في فهم ديناميات الواقع التونسي.
4 ـ التقاء أطروحة النوري مع روح دستور
2014: مكامن القوة
هناك تقاطع كبير بين الكتاب ودستور 2014 في
عدد من النقاط: الاعتراف بفشل المركزية، الدفاع
عن استقلالية الجماعات المحلية، اقتراح إعادة توزيع الموارد، تعزيز المشاركة
المواطنة، تحويل التنمية إلى مسار قاعدي.
هذه النقاط تجعل أطروحة الكتاب منسجمة مع
منطق دستور 2014، وإن لم يقتبس منه مباشرة.
5 ـ مكامن القصور في توظيف الإطار الدستوري
رغم التقاطع، يلاحظ غياب معالجة دقيقة لثلاث
مسائل أساسية:
أ ـ الإطار المالي للامركزية
الدستور نصّ على توفير الدولة الموارد، لكن
لم يحدد آلياتها، فيما تجاهل الكاتب هذا النقص الهيكلي. ةبدون تمويل محلي مستقل، تكون اللامركزية
مجرد شعار.
ب ـ طبيعة الرقابة بين المركز والجهات
الدستور يفرض رقابة لاحقة، والكاتب لم يناقش
آثار ذلك على الشفافية، مكافحة الفساد، أو مسؤولية المجالس المنتخبة.
6 ـ دستور 2022 انتكاسة خطيرة
يؤكد المؤلف في عدة مواضع من كتابه أنّ
دستور 2022 يُعدّ تراجعًا جذريًا عن المنجز الذي حققه دستور 2014 في مجال
اللامركزية. ويبرز هذا التراجع في ثلاثة مستويات رئيسية:
هناك تقاطع كبير بين الكتاب ودستور 2014 في عدد من النقاط: الاعتراف بفشل المركزية، الدفاع عن استقلالية الجماعات المحلية، اقتراح إعادة توزيع الموارد، تعزيز المشاركة المواطنة، تحويل التنمية إلى مسار قاعدي.
أ ـ غياب الباب الخاص بالسلطة المحلية
ألغى دستور 2022 البناء الهرمي للسلطة
المحلية (بلديات ـ جهات ـ أقاليم) الذي اعتمده دستور 2014. ولم يعد هناك ما يشير
إلى: التدبير الحر، استقلالية
الجماعات المحلية، الرقابة على السلطة التنفيذية من قبل المجالس المحلية، الديمقراطية
التشاركية، وهو ما يعني ـ وفقًا للنوري ـ عودة السلطة المركزية كمرجعية وحيدة لكل
مستويات القرار، الأمر الذي يقوّض فلسفة اللامركزية من أساسها.
ب ـ هيمنة السلطة التنفيذية
يشير الكاتب إلى أنّ دستور 2022 أعاد السلطة
التنفيذية إلى هيمنة واسعة على الجهاز المحلي من خلال: تعيين الولاة من قبل
الرئيس دون رقابة، توسيع صلاحيات السلطة المركزية على الموارد المحلية، غياب آليات
التنسيق بين الجماعات المحلية، ما يؤدي إلى عودة النمط العمودي للحكم الذي عانت
منه تونس طوال عقود.
ت ـ تعطيل الإصلاحات الكبرى التي بدأها
دستور 2014
يشدد النوري على أنّ ما تم تحقيقه بين 2015
و2021 في مجال اللامركزية ـ من انتخابات بلدية، وظهور مجتمع مدني محلي، وتجارب
تشاركية ـ أصبح معلقًا أو مجمدًا بعد دستور 2022. وبالتالي، فإن مشروع اللامركزية
فقد ديناميكيته، وفقدت الجماعات المحلية القدرة على: التخطيط المستدام، جلب الاستثمار، إدارة الشأن المحلي، توسيع قاعدة المشاركة الشعبية.
ويعتبر الكاتب أنّ هذا الجمود هو أحد
الأسباب المركزية لاستدامة الأزمة التونسية، لأنّ غياب اللامركزية يمنع: تنمية الجهات، استثمار
ميزاتها التفاضلية، خلق دورة اقتصادية مستقلة، تفعيل الآليات الديمقراطية المحلية.
4 ـ موقف الكاتب: اللامركزية ليست ترفًا بل
ضرورة وجودية
في ضوء المقارنة بين دستور 2014 ودستور
2022، يخلص النوري إلى أنّ تونس اليوم أمام خياريْن لا ثالث لهما: إما تكريس اللامركزية
كإستراتيجية إنقاذية، أو الانحدار نحو أزمة لا نهائية ناجمة عن استمرار النموذج
المركزي القديم.
ويؤكد أنّ استمرار المركزية لن يؤدي إلا إلى: تفاقم الفوارق الجهوية، احتقان
اجتماعي دائم، هجرة الكفاءات، ضعف اندماج الاقتصاد الوطني، فقدان الثقة في
المؤسسات.
أما اللامركزية، وفق رؤية الكتاب، فهي إعادة
صياغة الدولة من القاعدة إلى القمة، واستعادة الوظيفة الأصلية للمجال المحلي
باعتباره "فضاء الإنتاج السياسي والاجتماعي والاقتصادي في آن واحد".