قضايا وآراء

بين الحرب والسرد.. تحولات الشرق الأوسط في 2025

محمد الشبراوي
"إعادة إعمار غزة ليست مجرد عملية تقنية لبناء المباني، بل اختبار لهوية المجتمع الفلسطيني ولقدرة الناس على استعادة كينونتهم بعد الحرب"- جيتي
"إعادة إعمار غزة ليست مجرد عملية تقنية لبناء المباني، بل اختبار لهوية المجتمع الفلسطيني ولقدرة الناس على استعادة كينونتهم بعد الحرب"- جيتي
شارك الخبر
الشرق الأوسط في نهاية 2025، يعيش حالة توتر، ويبدو قابلا للانفجار في أي وقت، ويقوده صراع عميق بين القوة والسرد، وبين الحرب والبحث عن سلام.

من قطاع غزة المحطّم إلى الضفة الغربية المحتلة، ومن المقاومة الفلسطينية إلى تحركات الدول الكبرى، تتقاطع أسئلة الأمن والهوية والمصير في معادلة لم تزل مفتوحة على احتمالات متعددة.

السؤال الأهم من وجهة نظري، لا يقتصر على من يملك السلاح، بل على من يحدد السرد السياسي، ومن يمتلك أدوات التأثير في مستقبل المنطقة.

هذا المقال لا يكتفي بالأرقام أو الصور المؤلمة من الأرض، بل يبحث في الخلفيات السياسية والإنسانية لما يشهده النظام الإقليمي من تغيّرات عميقة، وكيف يمكن أن ترسم هذه اللحظة تاريخ المنطقة القادمة.

أرقام واقعية عن الدمار والقتل
التشابك في المشهد يعكس أن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط يعيد تموضعه ليس فقط على مستوى القوة العسكرية، بل على مستوى القدرة على التأثير في السرد السياسي والاقتصادي والدبلوماسي

الحرب التي شنّتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 تركت وراءها دمارا واسعا وخسائر بشرية هائلة. تشير تقديرات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، إلى أن 70 ألف فلسطيني قتلوا حتى أوائل كانون الأول/ ديسمبر 2025، غالبيتهم من المدنيين، بينهم آلاف الأطفال والنساء. كما تضرر نحو 90 في المئة من المباني بشكل كلي أو جزئي، مع تهجير أكثر من مليوني فلسطيني داخل القطاع.

الأزمة الإنسانية لا تُقاس بالأرقام وحدها، بل بالحياة المنقطعة. فهناك، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، نحو 1.9 مليون نازح بلا مأوى، وأطفال بلا مدارس أو رعاية صحية، وشباب بلا مستقبل، وهو ما يؤكد أن هذه ليست حربا على أرض فحسب، بل حرب على ذاكرة وهوية الشعب الفلسطيني الذي يقاوم محاولات محو وجوده.

هدنة أكتوبر 2025.. اتفاق هش تحت وابل الانتهاكات

في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2025، أُعلن عن وقف إطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة بقيادة حماس، بعد نحو عامين من الحرب الإسرائيلية التي دمرت قطاع غزة بشكل شبه كامل.

دخل هذا الاتفاق حيّز التنفيذ وسط ترحيب دولي وفلسطيني، على أمل أن يكون بداية تهدئة دائمة وتخفيفا لمعاناة المدنيين، لكن الواقع على الأرض كان مختلفا تماما عن الخطابات الرسمية؛ الهدنة بقيت هجينة وهشة، حيث استمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي في ممارسات عسكرية متعددة رغم التصريحات الرسمية بوقف القتال. وعلى جانب آخر، تواصلت الغارات الجوية، وإطلاق النار، واستهداف مواقع مدنية، إضافة إلى تواجد عسكري ممتد في أكثر من نصف مساحة القطاع رغم الاتفاق.

الانتهاكات الإسرائيلية لم تقتصر على إطلاق النار، بل شملت إعادة الاعتقالات، واستهداف المدنيين، وإغلاق المعابر، وتأخير دخول المساعدات الإنسانية بشكل متعمد، ما ترك ملايين الفلسطينيين في قطاع غزة في حالة من الجوع والألم والإحباط.

لذلك، فالهدنة في غزة ليست سلاما، بل تجميد جزئي للحرب؛ فالانتهاكات الإسرائيلية مستمرة، وهو ما يهدد استقرار أي اتفاق مستقبلي.

طبقات القوة وتوازن النفوذ

إذا كان التحليل التقليدي يربط النظام الإقليمي بدول مثل دولة الاحتلال الإسرائيلي، وإيران، والسعودية، وتركيا، ومصر، فإن الواقع يشير إلى تنامي أدوار أخرى، تؤثر في صياغة المشهد في المنطقة.

فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، مع لبنان واليمن والعراق، باتت لاعبين رئيسيين في صياغة مسارات الصراع والسياسة، ولها تأثير مباشر في المفاوضات والتوازنات الميدانية.

وهناك وسطاء إقليميون مثل قطر وعُمان يمارسون دورا دبلوماسيا هادئا لكنه فعّال في الحفاظ على خطوط اتصال مع الأطراف المختلفة، وغالبا يكونون الجسر الوحيد للتفاهمات في أوقات التوتر الشديد.

ومن ناحية أخرى، فإن قوى كبرى مثل روسيا والصين، رغم أنها لا تتصدر المشهد، لكنها تشارك في إعادة تلوين الخارطة الجيوسياسية عبر توسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي في المنطقة، مما يزيد من تعقيد التسويات المحتملة.

هذا التشابك في المشهد يعكس أن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط يعيد تموضعه ليس فقط على مستوى القوة العسكرية، بل على مستوى القدرة على التأثير في السرد السياسي والاقتصادي والدبلوماسي.

ثلاثة سيناريوهات لمستقبل الشرق الأوسط

من تحليل المعطيات الراهنة يستشرف كاتب هذا المقال ثلاثة مسارات محتملة لما يمكن أن يكون عليه الشرق الأوسط:

أولا: هيمنة بالقوة وشرق أوسط تحت وصاية إسرائيلية: في هذا السيناريو، تستمر دولة الاحتلال الإسرائيلي في توسيع نفوذها وسيطرتها على الأرض، بالتزامن مع تفكيك قدرات المقاومة في أطراف متعددة، وتحويل القضية الفلسطينية إلى ملف إنساني بحت، تُعالج آثاره دون معالجة جذوره السياسية. هذا النوع من "السلام بالقوة" غالبا ما يكون هشا وغير مستدام.

ثانيا: توازن ردع هشّ واستمرار التوتر (السيناريو الأقرب لما يحدث اليوم): لا طرف يملك القدرة على حسم الصراع بشكل كامل، والهدنة لا تزال غير مستقرة، والضفة الغربية تعيش تصعيدا متفاقما في الاعتقالات وسياسات التوسع الاستيطاني التي تمنع أفق حل سياسي واقعي، مما يخلق حالة من التوتر المزمن دون انفجار شامل في الوقت الراهن.

ثالثا: نظام متعدد الأقطاب وشرق أوسط بلا وصاية واحدة: السيناريو الأكثر طموحا من وجهة نظر الكاتب، يتطلب توازنا إقليميا فعالا بين قوى عربية وإسلامية، إضافة إلى مشاركة دبلوماسية دولية بنّاءة، مع إعطاء الفلسطينيين دورا مركزيا في عملية إعادة الإعمار وصياغة مستقبلهم، وحماية سياسة الإعلام المستقل لكتابة سرد جديد للمنطقة.

لماذا إعادة الإعمار أكثر من حجارة؟
هناك معركة ثانية شدة الخطورة وبالغة الأهمية، إنها معركة السرد. فإذا كانت الرصاصة لها أثر، فإن الكلمة والرواية والتاريخ لها بقاء أعمق

إعادة إعمار غزة ليست مجرد عملية تقنية لبناء المباني، بل اختبار لهوية المجتمع الفلسطيني ولقدرة الناس على استعادة كينونتهم بعد الحرب.

التقديرات تشير إلى أن تكلفة إعادة البناء تصل إلى عشرات مليارات الدولارات على مدى سنوات، لكن جوهر الأزمة أنه ما لم تُدَر هذه العملية بقيادة فلسطينية وأطر عربية داعمة، فلن تتجاوز مجرد تجميل لقطاع غزة المدمر بالكامل.

إن إعادة الإعمار الحقيقية يجب أن تشمل التعليم، والصحة، والثقافة، والوظائف، وصياغة علاقة جديدة بين المواطن وأرضه، ما يجعله مشروعا إنسانيا وسياسيا وثقافيا، لا اقتصاديا فحسب.

ماذا عن معركة السرد؟

هناك معركة ثانية شدة الخطورة وبالغة الأهمية، إنها معركة السرد. فإذا كانت الرصاصة لها أثر، فإن الكلمة والرواية والتاريخ لها بقاء أعمق.

من يحدد من هو الضحية ومن هو المعتدي؟ من يكتب الأحداث كحرب ضد الإرهاب، ومن يكتبها كاحتلال وقمع ومقاومة؟ في زمن الإعلام الرقمي والمنصات الاجتماعية، كل معركة تُروى وكل صورة تُنشر، تساهم في تشكيل الوعي الجماعي، ومن يسيطر على السرد يملك مفاتيح المستقبل.

في نهاية المطاف، من يملك الرصاصة يمكن أن يفرض السيطرة، لكن من يملك السرد السياسي هو من يكتب تاريخ الشرق الأوسط القادم.
التعليقات (0)

خبر عاجل