أثار الظهور الأخير للسيد أسامة عثمان، مؤسس فريق
قيصر
والمدير التنفيذي لمنظمة ملفات قيصر للعدالة، موجة واسعة من الجدل والنقاش في
الأوساط السورية، ولا سيما عقب حديثه عن فرض جهات حكومية على بعض المؤسسات
المشاركة في احتفالات "التحرير" بالإكراه، إضافة إلى جملة من الملاحظات
والانتقادات المرتبطة بمسار
العدالة الانتقالية وملفات المفقودين والمحاسبة.
ومع أن النقد حقٌّ مشروع، بل وضرورة في أي مرحلة
انتقالية، فإن اختزال حوار طويل ومعقّد في نقطة واحدة، أو تحويله إلى مادة للتجريح
الشخصي، يُعد ظلما للرجل وانتقاصا من جوهر القضايا التي طُرحت. وانطلاقا من قاعدة:
"الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها"، تأتي هذه القراءة لتقديم
مقاربة موضوعية تُنصف الطرح، وتفكك خلفياته، وتضع النقاط على الحروف، بما يخدم
الحقيقة والمصلحة العامة معا.
أولا: "أنا رجل حقوق ولست سياسيا".. مفتاح
لفهم الخطاب
قال السيد أسامة عثمان بوضوح: "أنا رجل حقوق ولست
سياسيا"، وهي عبارة يمكن اعتبارها المفتاح الرئيس لفهم مجمل خطابه. فالخطاب
الحقوقي يختلف جوهريا عن الخطاب السياسي؛ إذ يقوم على تحديد الحقوق الأساسية دون
مواربة، واعتبار تأخير العدالة شكلا من أشكال الظلم، ورؤية العفو عن مرتكبي
الجرائم الجسيمة خطيئة قانونية وأخلاقية لا تُبرَّر.
ومن هذا المنطلق يمكن فهم قوله: "أنا لست معارضا
للسلطة، ولا يعنيني من يكون في السلطة، ما يعنيني هو أن يكون هناك قانون يسري على
الجميع". إنه خطاب مبدئي يستند إلى معيار أخلاقي وقانوني صارم، لا إلى حسابات
التوازنات السياسية أو تعقيدات الواقع المرحلي.
ثانيا: بين "الفلول" و"الضحايا والمجرمين"..
تصنيف قانوني لا سياسي
في واحدة من أكثر النقاط إثارة للنقاش، رفض مؤسس فريق
قيصر تصنيف السوريين إلى "ثوار" و"فلول"، داعيا إلى استبداله
بتصنيف حقوقي يعتبر أن المجتمع ينقسم إلى "ضحايا ومجرمين".
هذه الرؤية تعكس مقاربة قانونية خالصة، تُركّز على الجريمة والمسؤولية الفردية، لا على الانتماء السياسي أو
الاصطفاف السابق. إلا أن هذا الطرح، رغم وجاهته القانونية، قد لا يتطابق كليا مع
الواقع الاجتماعي والسياسي المعقّد، الذي يحتاج -إضافة إلى العدالة- إلى محاسبة
مجتمعية قبل المصالحة، وترميم الثقة، ضمن مسار وطني شامل لا يُختزل في القضاء
وحده.
ثالثا: أسئلة مشروعة تستحق شفافية حكومية
طرح السيد أسامة عثمان جملة من الأسئلة الجوهرية التي
تمس وجدان السوريين ومستقبل دولتهم، وتستحق تعاطيا رسميا واضحا، ومن أبرزها:
1. مخاوف من إعادة تدوير رجال أعمال مرتبطين بالنظام
السابق: مع الحديث عن رفع عقوبات "قانون قيصر"، أشار إلى احتمال عودة
بعض رموز الفساد الاقتصادي إلى المشهد، مستفيدين من الانفتاح الجديد. وهو تحذير
مشروع يستوجب معالجة حكومية شفافة تضمن عدم تكرار منظومات الاستغلال السابقة.
2. التمييز بين "قانون قيصر" و"ملف قيصر":
فالقانون الأمريكي أداة سياسية قابلة للإلغاء أو التعديل، أما "ملف قيصر"
فهو ملف حقوقي موثق بآلاف الصور والأدلة التي تتعلق بجرائم تعذيب وجرائم ضد
الإنسانية لا تسقط بالتقادم، ولا تنتهي إلا بتحقيق العدالة.
ويعزز هذا التفريق ما أكده فريد المذهان (قيصر) في
تصريحاته الأخيرة، حين شدد على أن رفع العقوبات لا يعني نهاية المسار الحقوقي، وأن
جهوده اليوم تتركز على ملاحقة مجرمي النظام البائد أمام المحاكم الأوروبية
والدولية، بالتعاون مع محامين مستقلين وبدعم من أهالي الضحايا.
3. التأخر في الكشف عن أسماء الضحايا: وهو ملف إنساني
بالغ الحساسية، يمس آلاف العائلات التي ما زالت تعيش على أمل معرفة مصير أبنائها،
ويحتاج إلى جدول زمني واضح وخطوات عملية وشفافية كاملة.
4. أداء هيئة المفقودين وهيئة العدالة الانتقالية: فرغم
الترحيب بتأسيسهما، إلا أن غياب النتائج الملموسة حتى الآن يثير قلقا مشروعا،
ويستدعي توضيحا رسميا يشرح الصعوبات والمسارات المتوقعة.
رابعا: اتهامات بلا أدلة.. وحدود النقد الموضوعي
في المقابل، لا بد من الإشارة إلى أن بعض النقاط التي
طُرحت تفتقر إلى أدلة كافية أو تستند إلى حالات فردية لا يجوز تعميمها، ومن ذلك:
1. الحديث عن "فروع أمنية جديدة" و"اعتقالات
مستمرة": وجود أجهزة أمنية في أي دولة أمر طبيعي، والمقياس هو خضوعها
للقانون. وقد أكدت الجهات الرسمية أن أي تجاوزات فردية تتم محاسبة مرتكبيها وفق
الأصول القانونية.
2. اتهام السلطة بفرض المشاركة في احتفالات "التحرير":
الوقائع الميدانية والمشاهد المتداولة خلال العطل الرسمية أظهرت أن المشاركة كانت
واسعة وطوعية، ومن غير المنطقي افتراض الإكراه في مجتمع خرج لتوّه من قبضة القمع.
3. انتقاد التركيز على الإيجابيات بعد التحرير: حديث
الناس عن التحسن مقارنة بالماضي أمر طبيعي ومفهوم، ولا يتناقض مع حق النقد
والمطالبة بالإصلاح. فالإشادة بالتحسن ليست تبجيلا، بل قراءة مقارنة لواقعين
مختلفين.
خامسا: "قطار العدالة".. مسار وطني لا يُحتكر
تكرر في حديث السيد أسامة عثمان توصيف أن "المساعد
فريد" لم يعد جزءا من الفريق، وأن اختلافه مع رؤية المنظمة يعني "نزوله
من قطار العدالة". غير أن بيانات فريد المذهان الأخيرة تقدم قراءة أوسع وأكثر
هدوءا؛ إذ أكد استقلاله الكامل عن أي جهة أو منظمة، دون نزاع أو خصومة، مع احتفاظه
بتقدير واضح لدور أسامة عثمان ومسيرته في ملف قيصر.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل الاختلاف في الأسلوب أو
الأولويات يعني الخروج من مسار العدالة؟ أم أن العدالة، بطبيعتها، مشروع وطني واسع
يتسع لاجتهادات متعددة، ما دام الهدف واحدا: إنصاف الضحايا ومنع الإفلات من
العقاب؟