قضايا وآراء

صفقة بين قرنين: من مراسلات الحسين- مكماهون إلى صفقة القرن الجديدة

محمد خير أحمد الحوراني
"تعيد القوى الفاعلة في العالم والمنطقة رسم الشرق الأوسط بصفقة جديدة"- موقع الجامعة العربية
"تعيد القوى الفاعلة في العالم والمنطقة رسم الشرق الأوسط بصفقة جديدة"- موقع الجامعة العربية
شارك الخبر
تتكرر في تاريخنا الحديث مشاهد سياسية واضحة المعالم؛ وجوهها تتبدل، لكن جوهرها يبقى واحدا: رسم المنطقة من الخارج، وتمرير الخرائط عبر نخب محلية، ثم مواجهة شعوب غُيّبت إرادتها بين خطوط تُرسَم في غرف مغلقة. وما بين قرن مضى وقرن نعيشه، تقف منطقتنا أمام مشهدين يكادان يكونان صورتين متطابقتين.. الصفقة القديمة وصفقة القرن.

اتفاق ومراسلات الحسين- مكماهون

خلال الحرب العالمية الأولى، وتحديدا بين عامي 1915 و1916، تبادل شريف مكة الحسين بن علي عددا من الرسائل مع هنري مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر. كانت تلك المراسلات تتناول مستقبل الأراضي العربية في الشرق الأوسط، حيث فاوضت بريطانيا الشريف حسين لدفع العرب نحو الخروج على الدولة العثمانية والانضمام إلى جانبها في الحرب العالمية الأولى ضد تركيا مقابل إقامة دولة عربية مستقلة في آسيا العربية.

صفقة القرن الماضي: اتفاقية سايكس- بيكو

بالتزامن مع تلك المراسلات، وتحديدا عام 1916، جرى توقيع اتفاقية سايكس- بيكو التي ما زال العالم العربي يعيش تحت ظلالها، بل ويدافع كثيرون عن حدودها التي فُرضت عليه رغم أنف التاريخ والجغرافيا.

كانت الاتفاقية تفاهما سريا بين فرنسا وبريطانيا، بموافقة من الإمبراطورية الروسية، لتقسيم منطقة الهلال الخصيب إلى مناطق نفوذ بعد انهيار الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على المنطقة. ورغم أن موضوع الاتفاقية كان "غرب آسيا"، فإن تأثيرها امتد إلى تركيا وجميع الدول العربية الآسيوية والأفريقية.

تشكلت الاتفاقية عبر مفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1915 وأيار/ مايو 1916. ونتج عنها أن حصلت فرنسا على سوريا ولبنان ومنطقة الموصل، بينما امتدت مناطق سيطرة بريطانيا من جنوب بلاد الشام شرقا لتضم بقية العراق. وتم الاتفاق على وضع فلسطين تحت إدارة دولية تقرر بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا "قبل الثورة البلشفية".

مارك سايكس و"وعد بلفور"

لم يكن لذكر عبارة "وطن قومي" في وعد بلفور تأثير بسيط، بل كان بمثابة نقطة تحول كبرى. فقد أطلقت الشرارة الأولى لتشكّل الدول القومية الحديثة في تركيا، ثم في العالم العربي الآسيوي والأفريقي الذي كان حتى ذلك الحين يعيش ضمن جسم حضاري واحد عمره أكثر من ألف عام، يضم قوميات متعددة تحت راية الإسلام.

كان الإسلام -كما عاشه الناس حينها- دينا يدير شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد، ويشجع العلم والاجتهاد، ولم تكن فكرة "فصل الدين عن الدولة" إلا نتاج فئة قليلة من المثقفين المتغربين.

وعد بلفور

جاء الوعد بدعم قوي من مارك سايكس، عبر الرسالة في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 التي وجهها آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد، معلنا دعم بريطانيا لإقامة "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، رغم أن اليهود حينها كانوا أقلية لا تتجاوز 3-5 في المئة من السكان.

ونص الوعد -بمصطلح "national home" الغامض المقصود- كان أول اعتراف سياسي دولي بالصهيونية، ولم يحدد حدود فلسطين، كما ظل الجدل قائما حول تعارض الوعد مع الوعود البريطانية للشريف حسين.

اتفاقية فيصل- وايزمان والدور الغامض

وقِّعت اتفاقية فيصل- وايزمان عام 1919 بين فيصل بن الحسين وحاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية. وقدمت الاتفاقية تسهيلات واسعة لليهود في فلسطين واعترافا بوعد بلفور.

وعبر نفس الأسلوب تم ترسيخ واقع التقسيم والتجزئة للوطن العربي تزامنا مع فصل الدين عن السياسة والتنكر للثقافة الإسلامية، لصالح تقليد واستيراد الفكر والمصطلحات الغربية واعتمادها في جميع مفاصل الحياة الرسمية والخاصة.

صفقة القرن الحالي: تكرار للتاريخ ذاته

كشف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ملامح "صفقة القرن" التي أعدتها إدارة ترامب في ولايته الأولى، وتتضمن إقامة دولة فلسطينية عاصمتها أبو ديس. وعبَّر عن رفضه الشديد للمقترح، الذي لقي الدعم والترويج من عدة دول إقليمية بارزة.

ولأول مرة منذ زمن اتفقت السلطة الفلسطينية مع حركة المقاومة الإسلامية حماس على موقف واحد، حيث وصف قائد الحركة إسماعيل هنية عام 2017م العرض الأمريكي بأنه "مسخ" يهدف لإنهاء القضية الفلسطينية.

الطوفان كاد يعرقل التنفيذ ويعيد التوازن

ومنذ ذلك الحين، أخذ تنفيذ المخطط يسير بخطوات متدرجة؛ بدءا من تحييد القضية الفلسطينية عن مركزيتها، وصولا إلى نشر ثقافة التطبيع وتحويلها إلى أمر اعتيادي في الوعي العام. ومع اقتراب لحظة التحرك الإسرائيلي الواسع بهدف القضاء على المقاومة في غزة وتهجير الفلسطينيين، جاءت "طوفان الأقصى" ليقلب الحسابات كلها، ويقدّم ضربة استباقية مُربكة أحبطت كثيرا من ترتيبات الصفقة المرسومة. غير أن ما كان ينقص هذا التحرك هو أن يقوم العرب والمسلمون بواجبهم الديني والوطني؛ الواجب الذي تأخروا عنه، فساهم هذا التقاعس في تفويت فرصة تاريخية على الأمة لاستعادة شيء من حقوقها وكرامتها ومكانتها بين الأمم.

هل ينجح المخطط أم تستيقظ الأمة؟

قبل قرن من الزمان رسم سايكس وبيكو وبلفور خرائط جديدة للمنطقة، فكرههم الناس واحترموا الحدود التي صنعوها حتى اليوم. والآن تعيد القوى الفاعلة في العالم والمنطقة رسم الشرق الأوسط بصفقة جديدة تمهد لبناء الهيكل ورسم حدود وخطوط جديدة تسمح للاحتلال بتجاوز لعنة العقد الثامن التي يتخوف منها ويترقب أن تصيبه خلال السنوات القليلة القادمة، فهل يُكتب لهذه الصفقة النجاح أم تقع "اللعنة" وتصبح واقعا؟ بين مُنتظر يترقب وفاعل يتحرك؛ الإجابة على هذا السؤال قادمة قبل 2028م موعد نهاية العقد الثامن.
التعليقات (0)

خبر عاجل