في أحد الأزقة الضيقة بمدينة سلا
المغربية، تستيقظ أحلام، ذات 25 ربيعا، أمّ لطفلين ومطلّقة، قبل بزوغ الفجر. ترتّب أدواتها، وتبدأ في غسل السمك وتنظيفه بمهارة لا تملكها إلا من اعتادت الصبر والعمل الشاق. لم تكن تتخيّل يوما أن تصبح بائعة سمك، لكن الحاجة دفعتها لأن تتحمّل مسؤولية بيت كامل بمفردها.
في المهنة التي يُقال إنّ: "الرجال أنفسهم قلّما ينجحون فيها"، كانت أحلام تُعاند الإحباط، بشكل يومي. لكن نقطة التحوّل جاءت حين قرّرت، أن تنطلق في حسابها على موقع التواصل الاجتماعي "إنستغرام".
رفعت أحلام عدد من مقاطع الفيديو وهي تتفاعل مع أسئلة تتراود بخصوصها، رافضة ما يطالها من "تنمّر رقمي"، فيما قالت لـ"عربي21": "لا أود إطعام أطفالي إلا الحلال، فيما رفضتني عدد من المهن، وسدّت في وجهي الكثير من الأبواب، وجدت في بيع السمك ملاذا لي".
وفي كل فيديو، تؤكد أحلام: "لجئت لكم إخوتي المغاربة عبر حسابي على انستغرام، لفرصة جديدة، عامرة بالأمل في غد أفضل، أساسه الحلال فقط".
خلال أيام قليلة، بدأ حساب أحلام بالتفاعل، حيث جاء في عدد من التعليقات إنّها: "صادقة"، وتبحث عمّن يمدّ لها بيد كريمة للرّزق، فزادت بفعل حسابها على "انستغرام" الطلبات الخاصة للأسماك، من نساء عاملات لا وقت لديهن للتسوق، وأسر تبحث عن منتوج نظيف وجاهز. تحوّل حسابها إلى ما يُشبه سوق سمك صغير، ومعه باتت حياتها وحياة طفليها أفضل.
اظهار أخبار متعلقة
في هذا التقرير، رصدت "عربي21" قصص نساء باتت تشير إلى تحوّل اجتماعي واقتصادي يتمّ في صمت، حيث أنّ: نساء مُهمّشات يصنعن اقتصادا رقميا موازيا، لا يحتاج إلى رأس مال كبير، ولا ينتظر مبادرات رسمية قد لا تصل إليهن أصلا.
مشاريع نسائية
في مدن كبرى وقرى متعدّدة في قلب المغرب، تبرز قصص لسيدات يخضن معاركهن في صمت، إذ أنّه على غرار أحلام، نساء مغربيات أخريات تُواجه
الفقر والطلاق وغياب الدعم، ليحوّلن مهارات قد تبدو بسيطة إلى مصدر رزق عبر مواقع التواصل الاجتماعي. بعضهن يصنع الخبز والفطائر، أخريات يبعن الزيوت الطبيعية، وأخريات ينسجن الإكسسوارات أو يعرضن منتجات فلاحية عبر مجموعات "واتساب" و"فيسبوك".
غير بعيد عن سلا، في مدينة تمارة، كانت شيماء من قلب مطبخها، تعدّ تشكيلة متنوّعة من الحلويات والمخبوزات المنزلية؛ تصنعها في اللّيل، وتبيعها نهارا على عربة بسيطة، في أحد الأحياء.
منشور واحد على موقع التواصل الاجتماعي "إنستغرام"، تلتُه رسائل كثيرة، ثمّ زبائن شبه ثابتون، قبل أن تصبح عربة شيماء محطّة يومية بالنّسبة إلى نساء ورجال يبحثون عن مذاق يذكّر الطفولة، وبالمخبوزات المنزلية التي تُصنع بكل اهتمام وحب.
وفي صنف المخبوزات كذلك، تحرص أسماء، وهي شابّة تعاني من إعاقة في رجلها، على تسويق عربتها التي تبيع عليها الخبز المنزلي الطازج، على حسابها بـ"انستغرام"؛ ما بين المنشورات التي تتحدّث فيها عن امتهانها لبيع الخبز، وبين مشاطرة ما تصلها من طلبات خاصة لشراء الخبز عبر حسابها، وبين الصدقات التي يحرص عدد من الأشخاص على إخراجها عن طريقها، تُنوّع أسماء في منشوراتها، لتصل إلى تفاعل بات ركيزة لها، للمعيشة اليومية.
وفي نواحي مدينة أكادير، سيدة أخرى باتت معروفة على "إنستغرام" و"تيك توك" ببيع الخضر المنقّاة، خصوصًا "الخرشف" و"القوق" المعروفين بصعوبة تنظيفهما. مقاطع فيديو يومية تُظهر يديها تجريان على الثمرات بحرفية، مرفقة بجملة ترددها دائمًا: "الحياة صعيبة.. وكلشي خاصّو يتسهّل".
الزبونات الأساسيات للسيدة التي عُرفت باسم "خالتو حفيظة" هنّ: الموظفات، والنساء اللواتي لا معين لهن في الأعمال المنزلية.
إلى ذلك، هذه المشاهد لم تعد تعتبر استثناء، إذ أنّها باتت جزء ممّا يُمكن وصفه بـ"حركة نسائية صامتة" تعيد رسم ملامح الاقتصاد المنزلي في المغرب، خارج الإطار المألوف المتعارف عليه، وبوسائل بسيطة: هاتف، إنترنت، وإرادة صلبة، من أجل لقمة عيش بكرامة، وهذه كانت النقطة التي اشتركت فيها تصريحات النساء اللّواتي تحدّثت معهنّ "عربي21".
اقتصاد في صمت
الخبير في إدارة وتطوير المشاريع، صلاح الدين البدوي، يرى أنّ: "أغلبية هاته النساء ليس لهن أي إطار قانوني يحمي مشروعهن وأفكارهنّ؛ إذ ينطلقن في مجالهنّ غالبا عن طريق التّجربة، انطلاقا من معارفهنّ ومواردهنّ المحدودة، بالاستناد إلى حساباتهن على مواقع التواصل الاجتماعي".
اظهار أخبار متعلقة
وتابع البدوي، في حديثه لـ"عربي21" أنّ: "ما يجعل مثل هذه المشاريع النسائية ناجحة، هو هامش الرّبح الذي يمكن أن يكون كبيرا، لأن هناك عدد من المصاريف تُختزل في مواقع التواصل الاجتماعي، من قبيل، مقرّ العمل خاصة وأنّ السومة الكرائية قد باتت مرتفعة في مجمل المدن، والإشهار".
وأكد "كما يعرف هذا المجال تواجد نساء مجتهدات وناجحات تشتغلن بضمير، هناك كذلك الكثير من النصب والاحتيال، إذ البعض بتفكيره في النجاح السريع قد يكذب؛ أو قد تغيّر حساباتها ومنتوجاتها مع أول فشل تقع فيه" مضيفا "لكن من الصعب أن نلقي بالمسؤولية على الدولة، ونحثّها على المراقبة الحثيثة للحسابات البنكية، لكن نحث النساء ممّن وجدت عملها يمضي في مسار جيد، أن تحمي عملها بإطار قانوني".
أما فيما يخص مشاكل النصب الإلكتروني، عدم وجود عقود، غياب التغطية الصحية، أو مسؤولية الدولة في تنظيم هذا القطاع الجديد، أضاف الخبير في إدارة وتطوير المشاريع، بالقول إنّ: "الاقتصاء غير المهيكل في المغرب، بالتّزامن مع كونه يحقّق رواجا ويبني اقتصادا كبيرا، ويحمي الكثير من الناس من البطالة، بقدر ما يصعب على الجهات المسؤولة التعامل معه، لتأطيره، لكي لا يظل نقطة سوداء، لأنه للأسف عدد من العاملين فيه ليس لهم تغطية صحية، ولا حماية قانونية لمشروعه وأفكاره".
اقتصاد بلا حماية
رغم قصص النجاح التي تلاحق مجمل السيّدات التي تحدّثت إليهن "عربي21" إلاّ أنّ هذا العالم الرقمي النسائي يميط اللّثام عن جملة من الإشكالات، تكشف عن الهشاشة القانونية والاجتماعية، انطلاقا من: انعدام الحماية الاجتماعية، حيث: لا تغطية صحية، لا تعويضات عائلية، ولا ضمانات في حال المرض أو توقّف النشاط.
أيضا، من الأمور التي رصدتها "عربي21" كون هذه المشاريع تتمّ دون إطار قانوني واضح، ما يجعل آلاف النساء تعمل دون سجل تجاري، ودون توجيه حول الضرائب أو التدابير الضرورية لهيكلة المشروع. ناهيك عمّ قد يواجهنه من: مخاطر النصب والابتزاز، انطلاقا من إلغاء الزبائن للطّلب في آخر لحظة، أو رسائل مسيئة، وحسابات تُخترق، أو وسطاء يستغلّون حاجتهن.
وفي سياق متصل، تواجه النساء عبر الاقتصاد الرّقمي ما يمكن وصفه بـ"هشاشة الموارد"، بدءا من ارتفاع أسعار المواد الأولية، وانقطاع الإنترنت؛ ورغم كل ذلك، يستمررن، لأن البديل بالنسبة لهن هو العودة إلى الهشاشة، أو انتظار وظيفة قد لا تأتي.
وفي حديثها لـ"عربي21" ترى الباحثة في القانون الدستوري والعلوم السياسية والمهتمة بقضايا المرأة، مريم بليل، أنْ: "النساء تُمارس نشاطا اقتصاديا حقيقيا، غير أنّ القانون المغربي لا يحميه بعد. لا توجد تغطية كافية ضد النصب الإلكتروني أو اختراق الحسابات أو استغلال الزبائن"، مبرزة: "ما لم يُنظَّم هذا المجال، سيظلّ النجاح محفوفا بالخطر".
وتابعت الباحثة في العلوم السياسية، أنّ: "هذه المشاريع تُنتج دخلاً مهمًا، لكنها خارج الضريبة وخارج حماية الدولة. تساهم في إنعاش الاقتصاد، لكنها غير محسوبة في الناتج العام بسبب طابعها غير المهيكل".
وفي تحليلها لواقع جل النساء المتحدّث عنهن، أوضحت بليل، أنّ: "القانون المغربي لم يغطي بعد كافة أشكال العنف الرقمي والتحرش الذي تتعرض له رائدات الأعمال، سواء عبر الرسائل المسيئة أو سرقة الصور والمحتوى، أو انتحال هوية الحسابات".
اظهار أخبار متعلقة
وأضافت بأنّ: "غياب منظومة تنظيمية للإشهار الرقمي، يجعل النساء عرضة للمساءلة القانونية في أي لحظة، أو للحرمان من أي دعم رسمي"، مردفة في حديثها لـ"عربي21" أنّ: "هناك حاجة ملحة لإطار تشريعي شامل يحمي النساء في القطاع الرقمي ويعترف بمشروعاتهن كجزء من الاقتصاد الوطني، لا كأنشطة هامشية".
"تشير تقديرات خبراء إلى أن آلاف النساء
المغربيات يمارسن ريادة الأعمال المنزلية ضمن القطاع غير المهيكل، الذي يمثل أكثر من 30 في المئة من الاقتصاد الوطني. الجديد هو أن هذا القطاع أصبح رقميا ومرئيا، وله جمهور واسع، لكنه خارج حسابات الدولة، خارج البرامج التنموية، وبدون أي حماية قانونية أو مالية" بحسب الباحثة نفسها.
إلى ذلك، بين هاتف يُدرّ دخلاً، وقانون لا يرى، تقف آلاف النساء المغربيات على خط رفيع بين الكرامة والهشاشة. اقتصاد يزدهر في الظل، يخفّف عبء الفقر عن الدولة، لكنه يترك النساء وحدهنّ في مواجهة المخاطر. والسؤال الذي يفرض نفسه: إلى متى؟