قضايا وآراء

لبنان: معادلة ضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب

محمد موسى
"تتمايز السناريوهات المتاحة أمام لبنان"- الأناضول
"تتمايز السناريوهات المتاحة أمام لبنان"- الأناضول
شارك الخبر
على وقع استمرار العربدة الإسرائيلية في الاجواء اللبنانية بعد زيارة قداسة البابا، جاء تكليف السفير السابق سيمون كرم بترؤس الوفد اللبناني إلى اجتماعات "الميكانيزم" في لحظة سياسية شديدة الحساسية، تتقاطع فيها زيارة البابا المؤثرة إلى لبنان مع تبدّل واضح في المقاربة الأمريكية للوضع الإقليمي، فيما يقف الداخل اللبناني أمام مفترق يختبر فيه قدرته على حماية مصالحه وسط الضغوط المتزايدة. فالخطوة ليست بروتوكولية، بل تحمل دلالات سياسية ودبلوماسية عميقة تعكس محاولة لإعادة ضبط موقع لبنان بين ضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب، والزيارة البابوية بما لفّها من رمزية روحية وإنسانية أعادت تسليط الضوء على القيمة الأخلاقية والوجودية للبنان كأرض ورسالة.

وفي مقابل هذه الرمزية، بدا تكليف كرم كتعبير عن رغبة الدولة في إظهار حدّ أدنى من انتظام مؤسساتها، وكأنها تريد أن توجّه إلى الداخل والخارج رسالة تقول إنها قادرة على مخاطبة المجتمع الدولي من موقع مسؤول، لا من موقع العجز أو الارتباك الذي حكم مراحل سابقة.
بات واضحا أن واشنطن تنظر إلى الجنوب اللبناني باعتباره نقطة مفصلية في توازنات المنطقة، وتسعى إلى منع أي انفجار واسع لا يخدم مصالحها في لحظة إقليمية دقيقة
وجاء ذلك في ظل إدراك لبناني بأن الزيارة البابوية خلقت مناخا يشجع على مقاربة أكثر رصانة لملف الجنوب، بعيدا عن التشنجات والانقسامات.

أما في ما يتعلق بالنظرة الأمريكية، فقد بات واضحا أن واشنطن تنظر إلى الجنوب اللبناني باعتباره نقطة مفصلية في توازنات المنطقة، وتسعى إلى منع أي انفجار واسع لا يخدم مصالحها في لحظة إقليمية دقيقة. وقد رأت في تكليف شخصية مثل سيمون كرم قدرة على التواصل وتدوير الزوايا، بما يجعل الخطوة تتجاوز حدود التمثيل الإداري لتدخل في إطار حسابات سياسية على درجة من التعقيد. وهذا ما دفع إلى طرح سؤال جوهري حول اتجاه التموضع اللبناني: هل يقترب من مساحة أكثر انسجاما مع المقاربة الأمريكية؟ أم أنه يحاول التوازن بين الضغوط والهوامش دون تقديم تنازلات تتجاوز قدرته الداخلية؟ وأين حزب الله من ذلك؟ وإلى متى سيبقى الصمت الإيجابي مع العهد؟ وهل نحن في زمن ضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب المفتوحة؟!

ضمن هذا السياق تتمايز السناريوهات المتاحة أمام لبنان. السيناريو الأول، وهو الأكثر ترجيحا، يقوم على التهدئة المُدارة، حيث يشكل "الميكانيزم" مساحة احتواء للتوتر وضبط إيقاع الاشتباك، بما يمنع انفجار الحرب دون الوصول إلى حل نهائي. السيناريو الثاني يقوم على استثمار الخطوة لتكريس إعادة تموضع سياسي ودبلوماسي، مستفيدا من الغطاء الأخلاقي للزيارة البابوية والانفتاح الأمريكي الحذر لتثبيت موقع الدولة في التوازنات الدولية. أما السيناريو الثالث فهو احتمال التصعيد المحسوب إذا فشلت كل محاولات التهدئة، مما يعيد الجنوب إلى دوامة توتّر خطير،
محاولة للتكيّف مع تعقيدات مرحلة تتداخل فيها السياسة بالحرب، والديبلوماسية بالأمن، والرمزية الروحية بحسابات القوى الكبرى
لكنه غير مرجح في المدى القريب. وإلى جانب هذه الاحتمالات يبرز السيناريو الذي يتبلور تدريجيا، وهو التدويل الهادئ للملف اللبناني، بحيث تتقدم الأمم المتحدة والجهات الدولية للعب دور أكبر في إدارة الحدود وتثبيت الأمن، من دون المسّ رسميا بالسيادة اللبنانية.

إلا أن السؤال الأكبر يبقى: هل يدخل لبنان مرحلة جديدة من الخضوع غير المباشر لضرورات الأنظمة الإقليمية والدولية؟ أم أنه يحاول، مهما ضاقت هوامشه، أن يصوغ لنفسه موقعا يحفظ خيارات شعبه ويحمي حدّه الأدنى من قراره الوطني؟ الواقع يشير إلى أن الخطوة ليست إعلان استقلال ولا انحنائه كاملا، بل محاولة للتكيّف مع تعقيدات مرحلة تتداخل فيها السياسة بالحرب، والديبلوماسية بالأمن، والرمزية الروحية بحسابات القوى الكبرى.

وفي نهاية المطاف يجب أن لا يغيب عن أحد -أي أحد- أن المعيار الأساسي لأي مسار تفاوضي أو سياسي أو دولي هو صون دماء الشهداء وصون التضحيات التي قدّمها اللبنانيون في الدفاع عن أرضهم، وحماية السيادة التي يتهددها الضغط والإنهاك. فإعادة الإعمار، مهما كانت كلفتها، لا يمكن أن تُبنى على التفريط بالحقوق ولا على الإفراط الذي يجرّ البلاد إلى مواجهة غير محسوبة. المطلوب مقاربة متوازنة تُعيد الاعتبار للدولة من دون التنازل عن الأرض، وتمنح اللبنانيين أملا بمرحلة تُبنى فيها المؤسسات من جديد على قاعدة "لا إفراط ولا تفريط"، بما يحفظ كرامة الوطن ويثبّت حقه في الحياة والاستقرار.
التعليقات (0)