قضايا وآراء

أوروبا على أعتاب مرحلة ما قبل الحرب

سمير الخالدي
لم يعد الخطر الأساس هو قرار سياسي معلن ببدء الحرب، بل هو الانزلاق غير المقصود نحوها.. الأناضول
لم يعد الخطر الأساس هو قرار سياسي معلن ببدء الحرب، بل هو الانزلاق غير المقصود نحوها.. الأناضول
شارك الخبر
لم تعد الحرب في أوروبا احتمالا نظريا يُتداول في مراكز الدراسات فقط، بل سيناريو حاضرا في خطابات القادة وخطط الجيوش على حدّ سواء. فبينما تعلن العواصم الأوروبية أنها تستعد للردع لا للمواجهة، يخرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليؤكد أن بلاده "لا تريد الحرب"، لكنها "مستعدة لها بالكامل" إذا فُرضت عليها. هذا التوازي بين نفي النية وتعظيم الجاهزية يلخص بدقة اللحظة الأوروبية الراهنة: لحظة يقف فيها الجميع على حافة الهاوية وهم يرددون أنهم لا يريدون القفز.

منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، لم تعد القارة تتصرف باعتبار الصدام العسكري مستحيلا، بل باعتباره احتمالا واقعيا يجب الاستعداد له. وهكذا انتقلت أوروبا تدريجيا من منطق ما بعد الحرب الباردة إلى منطق ما قبل الحرب الكبرى: إعادة بناء الجيوش، تحديث البنى التحتية، عسكرة بعض مفاصل الاقتصاد، وإعادة وصل المجتمع بالمؤسسة العسكرية. لم يعد السؤال: هل يمكن أن تقع الحرب؟ بل إلى أي حد باتت القارة مستعدة لها نفسيا وسياسيا ولوجستيا؟

في هذا السياق، تتقاطع يقظة ألمانيا العسكرية، وتعبئة فرنسا البشرية، وقلق الشرق الأوروبي، مع خطاب روسي يلوّح بالجاهزية القصوى وبضيق هامش التفاوض. وبين هذه الأضلاع، تتشكل معالم أوروبا جديدة، تتحرك في منطقة رمادية بين الردع والانزلاق، وبين الاستعداد للحرب والرهان على منعها في اللحظة الأخيرة.

ألمانيا.. من قوة اقتصادية إلى محور لوجستي عسكري

في قلب هذا التحول تقف ألمانيا، التي انتقلت خلال وقت قصير من تحفظ تاريخي عميق تجاه القوة العسكرية إلى إعادة تعريف دورها الأمني في أوروبا. فقد كشفت تقارير صحفية ألمانية، بينها تحقيق لصحيفة "دير شبيغل"، عن ملامح "الخطة التشغيلية الألمانية" في حال اندلاع نزاع واسع شرق القارة. وثيقة ضخمة تتجاوز 1200 صفحة، تفترض عبور ما يصل إلى 800 ألف جندي من قوات حلف الأطلسي عبر الأراضي الألمانية باتجاه الجبهة الشرقية.

منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، لم تعد القارة تتصرف باعتبار الصدام العسكري مستحيلا، بل باعتباره احتمالا واقعيا يجب الاستعداد له. وهكذا انتقلت أوروبا تدريجيا من منطق ما بعد الحرب الباردة إلى منطق ما قبل الحرب الكبرى:
وتشمل الخطة إعادة تنظيم الموانئ، والأنهار، وخطوط السكك الحديدية، بحيث تتحول البلاد إلى محور لوجستي واسع يمكن تشغيله في غضون أيام. هنا لا يعود الحديث عن مناورات أو إجراءات مؤقتة، بل عن إعادة توظيف كامل للجغرافيا الألمانية في خدمة سيناريو حرب كبرى.

يقول خبير الدفاع الألماني كارلو ماسالا إن الأهم من الأرقام هو "التحول العميق في الوعي السياسي الألماني. برلين لم تعد تتصرف كقوة اقتصادية فقط، بل كقوة جيوسياسية تعتبر أن أمن أوروبا قد يُختبر فعلا". ولهذا تتجه الحكومة إلى دمج التخطيط المدني والعسكري، وإلى مراجعة عاجلة للبنى التحتية التي أهملت لعقود. فالجسور، والأنفاق، ومحطات القطارات قد تصبح في لحظة ما عناصر حاسمة في نقل القوات وحماية خطوط الإمداد.

غير أن هذا التحول لا يجري في فراغ اجتماعي. ففي الداخل الألماني، يثير تسريع عسكرة البنى التحتية نقاشا واسعا حول الأولويات: هل تُصرف المليارات على الجسور من أجل الحرب المحتملة، أم من أجل تحسين حياة المواطنين اليومية؟ السؤال يعكس قلقا مكتوما لدى قطاعات من المجتمع تخشى أن يُعاد تشكيل الفضاء المدني تحت ضغط الهاجس الأمني.

فرنسا.. عسكرة ناعمة عبر بوابة الخدمة الوطنية

فرنسا بدورها تسير في الاتجاه نفسه ولكن بأسلوب مختلف. فقد أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن برنامج جديد للخدمة الوطنية يبدأ تطبيقه عام 2026، يمتد لعشرة أشهر، ويجمع بين تدريب عسكري أولي وفترة اندماج داخل وحدات الجيش. البرنامج سيبقى تطوعيا في الظروف العادية، لكنه قابل للتحول إلى صيغة شبه إلزامية إذا تعرضت البلاد لتهديد استثنائي.

يحصل المشاركون على بدل شهري يقارب 800 يورو مع السكن والغذاء. وتستهدف الخطة 10 آلاف مشارك سنويا بحلول 2030، ثم 50 ألفا بحلول 2035. ويقول الباحث الفرنسي في الأمن والدفاع إليو بريغو إن "الرهان ليس بناء جيش شبابي جديد، بل تكوين احتياط بشري منضبط يمكن تعبئته بسرعة، وإعادة ترميم الرابط بين المجتمع والدولة في زمن تتساقط فيه أوهام الاستقرار".

لكن داخل المجتمع الفرنسي، تثار تساؤلات واسعة: هل يتحول هذا البرنامج إلى خيار اضطراري للشباب المنحدرين من الطبقات الهشة الباحثين عن دخل وسكن، أكثر مما هو التزام وطني طوعي؟ وهل تعود الخدمة العسكرية من بوابة "الاندماج الاجتماعي" قبل أن تعود من بوابة الدفاع؟

تعكس هذه العودة الفرنسية إلى ثقافة الخدمة العسكرية، بعد إلغائها قبل نحو ربع قرن، شعورا متناميا بأن أوروبا لم تعد محمية كما في السابق، وبأن المظلة الأميركية لم تعد يقينية كما كانت منذ 1949. فمع تصاعد الحديث في واشنطن عن "أولوية آسيا" وإمكانية تقليص الالتزامات في أوروبا، باتت باريس ـ مثل برلين ـ تعتبر بناء قدرات ذاتية مسألة وجودية.

ما يبدو مؤكدا أن القارة العجوز خرجت نهائيا من زمن "السلام المريح". بين يقظة ألمانيا، وتعبئة فرنسا، وقلق الشرق الأوروبي، يقابلها خطاب روسي يلوّح بالجاهزية المطلقة وبتلاشي فرص التفاوض. هكذا تتشكل ملامح أوروبا جديدة: أوروبا تعيد تعريف أمنها على وقع التهديد، وتعيد رسم هويتها بين وهم الردع وخطر الانفجار.
أما شرق أوروبا وشمالها، فالمشهد أكثر توترا وقلقا. رئيس أركان الجيش البولندي تحدث صراحة عن دخول بلاده "مرحلة ما قبل المواجهة"، محذرا من تصاعد التخريب والهجمات السيبرانية ومحاولات التأثير على الرأي العام. وقد وقع فعلا تخريب لخط سكة حديدية يُستخدم لنقل مساعدات إلى أوكرانيا، فيما سجلت دول البلطيق وإسكندنافيا حوادث متكررة لطائرات روسية تحلق دون إشارات تعريف قرب منشآت حساسة.

تقول ماري دومولين، الخبيرة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن ما يجري هو شكل من "الحرب الرمادية" التي تجمع بين الضغط النفسي والاستفزاز العسكري والهجمات السيبرانية، بهدف اختبار قدرة أوروبا على الرد من دون جرّها إلى صدام مباشر. ولهذا تعزز بولندا وجودها على الحدود مع بيلاروسيا، وتكثف مناوراتها العسكرية القريبة من "ممر سوالكي"، الذي يُعد أضعف نقطة في منظومة دفاع الناتو.

الشرق الأوروبي.. العيش على خط التماس

في المقابل، تنظر موسكو إلى هذه التحركات الأوروبية باعتبارها دليلا على أن حلف الأطلسي يستخدم الحرب الأوكرانية ذريعة لتطويق روسيا استراتيجيا. الخطاب الروسي الرسمي يتحدث عن "عسكرة أوروبا" وعودة إلى منطق المواجهة الصفرية، ويُحمّل الغرب مسؤولية دفع القارة نحو سباق تسلح جديد.

وعلى ضوء هذا التصعيد المتبادل في الخطاب والاستعدادات، يبدو أن أوروبا وروسيا تدخلان مرحلة شديدة الحساسية: مرحلة ينفي فيها الطرفان رغبتهما في الحرب، بينما يتصرف كل منهما كما لو أن المواجهة باتت احتمالا قريبا. تصريح بوتين الأخير، بقدر ما يحمل من نبرة ردعية، فهو يعكس أيضا إدراكا بأن قواعد اللعبة القديمة تتآكل، وأن هامش الخطأ يضيق بسرعة.

لم يعد الخطر الأساس هو قرار سياسي معلن ببدء الحرب، بل هو الانزلاق غير المقصود نحوها: حادث عسكري محدود، أو خطأ في التقدير، أو تصعيد سيبراني يخرج عن السيطرة، أو سوء قراءة لنية الطرف الآخر. في هذا الفضاء المشحون، يصبح "الاستعداد للحرب" بحد ذاته عاملا من عوامل اقترابها.

ما يبدو مؤكدا أن القارة العجوز خرجت نهائيا من زمن "السلام المريح". بين يقظة ألمانيا، وتعبئة فرنسا، وقلق الشرق الأوروبي، يقابلها خطاب روسي يلوّح بالجاهزية المطلقة وبتلاشي فرص التفاوض. هكذا تتشكل ملامح أوروبا جديدة: أوروبا تعيد تعريف أمنها على وقع التهديد، وتعيد رسم هويتها بين وهم الردع وخطر الانفجار.

في هذا المشهد المتشابك، لم يعد السؤال: هل ستقوم الحرب؟ بل متى وكيف، وبأي خطأ صغير قد تبدأ.
التعليقات (0)