ملفات وتقارير

معادلة الحدود.. كيف تقرأ "إسرائيل" مصادر التهديد وتنتقي خصومها؟

مئات الآلاف من صواريخ حزب الله تُعد التهديد الوجودي الأبرز للشمال- جيتي
مئات الآلاف من صواريخ حزب الله تُعد التهديد الوجودي الأبرز للشمال- جيتي
شارك الخبر
منذ تأسيس وترسيخ المشروع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، بدأت دولة الاحتلال الإسرائيلي بتشييد قوة ردع استراتيجية تستهدف لمنع جيرانها العرب الأربعة المتاخمين لحدودها المصطنعة من المطالبة بأي جزء من الحقوق الفلسطينية المسلوبة، ورافقت هذه المرحلة المبكرة موجة دعم غربي واسع، شملت المال والسلاح والتقنيات العسكرية، لضمان تفوق إسرائيل العسكري ومن ثم السياسي في الإقليم.

وتواصل إسرائيل، خلال العقود التالية، تعزيز هذه القوة عبر حروب شكلت محطات مفصلية في تشكيل عقيدتها الأمنية، بدءاً من حرب النكبة، مرورا بالعدوان الثلاثي على مصر، ثم حرب النكسة، وحرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر، وصولا إلى الاجتياحات المتكررة للبنان، وتشكّل هذه الجولات الحربية سلسلة متصلة رسمت حدود الردع الإسرائيلية، وفرضت معادلات جديدة على جيرانها العرب.

وتسير هذه الحروب جنباً إلى جنب مع مسار طويل من التهدئات الممتدة التي تحولت لاحقا إلى تفاهمات سياسية وعلاقات اقتصادية، خصوصاً في ملفات الطاقة كما هو الحال مع مصر، إضافة إلى موجة التطبيع التي توجت بأطروحة “اتفاقيات أبراهام”.

اظهار أخبار متعلقة



وخلال كل تلك الحقب، عملت دولة الاحتلال على إعادة ترتيب أولوياتها العدوانية، عبر تصنيف الخصوم وفق مستوى التهديد، وانتقاء “الأعداء العاجلين” الذين يجب مواجهتهم أو تحجيم قوتهم، مقابل اختيار “حلفاء ظرفيين” توظفهم لخدمة استراتيجيتها الإقليمية، سواء في احتواء جبهات معينة أو فتح قنوات تعاون تضمن استمرار تفوقها العسكري والسياسي.

من الشمال.. حزب الله أبرز الخصوم
في هذا السياق، يبرز حزب الله الذراع الإيراني كالخصم الأبرز في معادلة الحدود الشمالية، حيث يصنف كتهديد وجودي مباشر بسبب ترسانته الصاروخية البالغة مئات الآلاف من الصواريخ الدقيقة القادرة على إغراق الأراضي المحتلة بضربات يومية، وفق تقديرات سابقة لجيش الاحتلال الإسرائيلي.

من جانبه، قال اللواء غادي أيزنكوت، رئيس القيادة الشمالية السابق، في تصريحات نقلتها شبكة "بي بي سي": "حزب الله يمثل قاعدة عسكرية مدنية، وإيذاء السكان المدنيين هو الوسيلة الوحيدة لكبح جماحه"، مشيرا إلى عقيدة "القوة غير المتناسبة" ضد البنى المدنية المرتبطة بالحزب.

وكثّف جيش الاحتلال، منذ أواخر عام 2024، عملياته ضد حزب الله رغم وجود اتفاقية الهدنة، فشنّ غارات جوية على مصانع السلاح في البقاع وضواحي بيروت، ونفّذ عمليات برية محددة في جنوب لبنان.

ويتمثل الهدف المعلن لهذه العمليات في منع الحزب من إعادة تأهيل قدراته وفرض ترتيب أمني جديد في لبنان يشمل نزع سلاحه عبر اتفاق دولي، وأخيرا، عرض جيش الاحتلال الإسرائيلي خطة هجومية واسعة ضد مواقع حزب الله في بيروت استعدادا لاحتمال التصعيد، وفق ما نقلته صحيفة "يديعوت أحرونوت".

الجنوب.. حدود مصرية آمنة وعلاقة مستقرة
ترى دولة الاحتلال حدودها مع مصر الأكثر استقرارا في المنطقة بفضل معاهدة السلام الموقعة عام 1979، والتي صمدت رغم التغيرات السياسية وتحشد الجيش المصري بين الحين والآخر وتهريب الأسلحة بالطائرات المسيرة خلال أوقات متفاوتة، ويضمن الاتفاق آلية اتصال مستمرة بين الجانبين، ما يجعل احتمالات التصعيد العسكري شبه معدومة.

التعاون الأمني
ويشكّل التنسيق الأمني في سيناء عاملا حاسما في طمأنة إسرائيل، إذ يتعاون الطرفان في ملاحقة الجماعات الجهادية وضبط الحدود ومنع تهريب السلاح، وعزز هذا التعاون المنهجي الثقة بين الطرفين وخلق مصالح أمنية مشتركة يصعب التفريط بها.

غياب التهديد المباشر
ومنذ اتفاق السلام، غير الجيش المصري عقيدته القتالية ولم يعد يعتبر إسرائيل خصما مباشرا، ما قلل التوتر على الحدود الجنوبية، وعلى عكس حزب الله، لا تمتلك مصر خطابا عدائيا أو نشاطا عسكريا موجها ضد إسرائيل.

غياب النفوذ الإيراني
تعتبر إسرائيل أن مصر دولة مستقلة في قرارها السياسي، على النقيض مما يحدث في لبنان وسابقا في سوريا قبل سقوط نظام المخلوع بشار، وتعتبر مصر بعيدة عن المحاور الإقليمية التي تناصب إسرائيل العداء، وتتعامل إسرائيل مع القاهرة كطرف دولي يمكن التفاهم معه عبر الدبلوماسية والقنوات الرسمية.

المصالح الاقتصادية
ويعزز التعاون الاقتصادي شعور إسرائيل بالأمان تجاه مصر، إذ تربط الجانبين اتفاقات تجارية ومشاريع غاز كبرى عبر منتدى غاز شرق المتوسط، وتخلق هذه الشراكات مصالح متبادلة تجعل الاستقرار الحدودي ضرورة للحفاظ على تدفّق الطاقة والاستثمارات.

اظهار أخبار متعلقة



سوريا اليوم.. ماذا تعني لإسرائيل؟

في المقابل، تتعامل دولة الاحتلال مع الرئيس السوري أحمد الشرع بتجاهل حذر، معتبرة حكومته تهديدا تكتيكيا محدودا لا يستدعي مواجهة شاملة أو تصعيدا كبيرا.

ويفتقر الجهاديون في سوريا، بما فيهم أولئك ذوي الماضي الجهادي مثل الشرع نفسه الذي أسس جبهة النصرة، إلى الترسانة الصاروخية بعيدة المدى والدعم الإقليمي المنظم كالذي يمتلكه حزب الله، مما يجعلهم "مشروعا محليا مضبوطا" داخل الجغرافيا السورية، منشغلين بالصراع الداخلي مع بقايا النظام والفصائل الأخرى.

التحول الذي يعطي إشارة طمئنة لإسرائيل
وقاد الشرع تحولا جذريا من زعيم تنظيم جهادي توسعي عابر للحدود إلى سلطة سياسية محلية منفتحة على العالم، حيث أعلن في كانون الأول/ديسمبر 2024 حل هيئة تحرير الشام ودمجها في هيكل دولة انتقالية، معتبرا أن "إدارة الدولة بعقلية الفصائل لا تخدم الاستقرار"، كما  جاء في مقابلة صحفية حينها.

وبرز الشرع في واحداة من أبرز تحولاته حين انضم إلى التحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة"، متخليا عن خطابه الجهادي العابر للحدود، ومتجها نحو حكومة إنتقالية ليخوض فيها المحافل الدولية.

وترافق هذا التحول مع تركيز متزايد على المصالحة الوطنية وحماية الأقليات، وهي رسائل برزت بوضوح خلال مشاركته في "مؤتمر النصر" بدمشق، بما يعكس انتقاله من قيادة تنظيم مقاتل إلى لعب دور سياسي داخل المشهد السوري، إلى جانب توقيعه اتفاقا "ورقيا" مع قوات سوريا الديمقراطية لدمج مؤسساتها داخل الدولة.

رغم ذلك، يلتزم الشرع بطلب الهدنة والاتفاقات الإقليمية، حتى مع إسرائيل، رغم شنها آلاف الغارات على سوريا منذ 2024 "أكثر من 1000 غارة"، تركزت على مدن الجنوب السورية بذريعة حماية الدروز.

اظهار أخبار متعلقة



هذا الالتزام يوضح انسلاخه من الأفكار الجهادية التوسعية السابقة، حيث أعرب عن نيته تسهيل عودة اللاجئين وصياغة دستور جامع، وتلقى تهاني من قادة عرب مثل ملوك السعودية وقطر والأردن والإمارات ومصر، مما يجعله "رئيسا انتقاليا" مقبولاً إقليميا.

وفي مقابلة سابقا مع "سي بي إس نيوز"، أكد الشرع أن "سوريا اليوم دولة حلت فيها كل الفصائل، ولا مكان لعقلية الجهاد العابر للحدود".

كما يفسر محللون في "الغارديان" هذا التجاهل بأن إسرائيل ترى في الشرع "مشروعا انتقاليا مفيدا للاستقرار السوري المحدود، يحجز الإيرانيين دون تكلفة عسكرية إسرائيلية إضافية".

الشرق.. حاجز أردني والتزام بالاتفاقيات
يعتبر الأردن جارا استراتيجيا أساسيا لإسرائيل ضمن معادلة الحدود، حيث تجمعهما معاهدة وادي عربة التي ساهمت في تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين، رغم وجود توتر شعبي واسع في الأردن ضد التطبيع.

تُشكّل الحدود الأردنية الإسرائيلية المصطنعة أطول حدود إسرائيل الشرقية (307 كم)، وتُعتبر خط دفاع جغرافي استراتيجي ضد أي تهديدات من العراق أو سوريا، كما أكد الملك عبدالله الثاني التزام الأردن بالاتفاقيات، معتبرا إياها ضمانة للأمن الوطني.

ويعمل الأردن بشكل مشترك معها على مكافحة التهديدات، خاصة منع تسلل الجهاديين من سوريا إلى الداخل الإسرائيلي، وقد أوقفت قواته آلاف محاولات التهريب بحسب تقارير إعلامية .

وخلال حرب الـ 12 يوما بين إيران ودولة الاحتلال، اعترض الأردن بنجاح مجموعة من الصواريخ الإيرانية الموجهة إلى الأراضي المحتلة، ما شكل أول تدخل أردني مباشر في مواجهة تهديد إيراني مباشر على جاره الغربي، وقد ورد في تقرير لوكالة رويترز أن الاعتراض الأردني جاء في سياق تنسيق استخباراتي وأمني مع تل أبيب، معززا دور الأردن كحارس أمني هام للحدود وحامي الاستقرار الإقليمي.

ويبين هذا الانتقاء عقيدة الردع الإسرائيلية التي تتضمن استنزاف الخصم الاستراتيجي المباشر "حزب الله" مع احتواء التهديدات التكتيكية "الجهاديون المنتقلون إلى الإدارة السياسية مثل الشرع"، مستفيدة من تحولاته نحو البراغماتية والانفتاح الإقليمي، رغم ماضيه الجهادي، للحفاظ على توازن حدودها الشمالية دون حروب متعددة الجبهات.
التعليقات (0)

خبر عاجل