ملفات وتقارير

هل تهدد الهجرة العكسية مستقبل دولة الاحتلال؟.. الأرقام تجيب

نزيف الكفاءات يضرب قلب مشروع دولة الاحتلال الإسرائيلي- جيتي
نزيف الكفاءات يضرب قلب مشروع دولة الاحتلال الإسرائيلي- جيتي
قدمت إسرائيل نفسها في بادئ الأمر، على إنها أرض الميعاد والأرض القادرة على توفير الأمان لليهود، وبعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بدا وكأن المستوطنون ينتظرون عصا موسى لتشق لهم البحر هروبا من دولة الاحتلال، وتلى ذلك عمليات حزب الله من لبنان ثم الهجمات الصاروخية الإيرانية واليمنية.

وفي ظل هذه المعطيات وتزايد قلق مؤسسات الاحتلال الإسرائيلية من استمرار اتساع موجة الهجرة العكسية، ومع تراجع حجم الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، ونقل عدد من الشركات نشاطها إلى خارج البلاد كما أشار تقرير هيئة الابتكار لعام 2202، أطلقت حكومة الاحتلال مرارا خطط لاحتواء الأزمة والحد من هذه الظاهرة التي تنعكس بطريقة سلبية على هيكل دولة الاحتلال.

اظهار أخبار متعلقة



وتعكس التحركات الحكومية على خلفية اتساع المخاوف الداخلية ومحاولات استقطاب مهاجرين جددا سؤالا جوهريا: هل تصبح الهجرة العكسية خطرا يعيد تعريف مستقبل إسرائيل، ويهدد وجودها.

مبادرة “المليون الـ11”
توضح صحيفة "إسرائيل هيوم" أن حكومة الاحتلال الإسرائيلية تدفع بخطة جديدة تحمل اسم "المليون الـ11"، وتسعى من خلالها لجلب مليون يهودي إضافي خلال السنوات العشر المقبلة لرفع عدد اليهود إلى 11 مليونا، وتعمل الحكومة على تحويل المبادرة إلى "مشروع قومي" يستقطب أصحاب الخبرات في التكنولوجيا والطب والتعليم وريادة الأعمال، إضافة إلى العائلات الشابة.

ويطرح المشروع للنقاش في مؤتمر يعقد في نيويورك بمشاركة رئيس الكونغرس اليهودي العالمي رون لاودر، ورجل الأعمال سيلفان آدامز، والمستثمر مايكل أيزنبرغ، إضافة إلى عدد من الشخصيات السياسية والاقتصادية اليهودية.

ويتناول المؤتمر كذلك مستقبل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، والانعكاسات الاقتصادية لما بعد الحرب، إلى جانب التحديات الجيوسياسية المتصاعدة التي تواجه "إسرائيل".

انقلاب في اتجاه الهجرة
يشهد المجتمع الإسرائيلي، وفق الصحفي نداف إيال في “يديعوت أحرونوت”، هجرة جماعية للعقول الشابة، ما أثار قلق خبراء الاقتصاد والديموغرافيا.

وتظهر بيانات مركز الأبحاث في الكنيست اتجاهاً تصاعدياً واضحاً في معدلات مغادرة الإسرائيليين، إذ غادر نحو 59,400 شخص عام 2022 بزيادة بلغت 44 بالمئة مقارنة بالعام السابق، ثم ارتفع العدد إلى 82,800 مغادر في عام 2023 بزيادة وصلت إلى 39 بالمئة، مع تسجيل ذروة ملحوظة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، واستمرار الاتجاه نفسه خلال عام 2024. وفي المقابل، تراجع عدد العائدين من 29,600 في عام 2022 إلى 24,200 في عام 2023، ما يعكس فجوة متسعة بين المغادرين والعائدين.

وتشير معطيات صحيفة “معاريف” إلى أن المتوسط السنوي للمغادرين بين عامي 2009 و2021 استقر عند نحو 36 ألف شخص، غير أن الأرقام سجلت قفزة حادة بعد عام 2022، إذ ارتفع عدد المغادرين إلى 55 ألفا بزيادة بلغت 46 بالمئة، ثم واصل الارتفاع في عام 2023 ليصل إلى 82,700 مغادر، بزيادة تقارب 50 بالمئة، ما يعكس تحولا لافتا في معدلات الهجرة إلى خارج "إسرائيل".

اظهار أخبار متعلقة



وتصنف لجنة الشباب في الكنيست هذه الظاهرة كنتيجة لشعور متزايد بانعدام الأمن بعد الإبادة في غزة، وغلاء المعيشة، وتوترات سياسية واقتصادية دفعت شرائح واسعة للتفكير بالهجرة.

تحذيرات ديموغرافية متصاعدة
وفي مقابلة مع صحيفة "معاريف" بتاريخ 18 أيلول/سبتمبر الماضي، عقب نشر دائرة الإحصاء المركزية بياناتها حول ارتفاع معدلات الهجرة من إسرائيل، أكد البروفيسور سيرجيو ديلا فرغولا، الخبير في قضايا الديموغرافيا، أن ما يحدث يمثل "المرة الرابعة خلال المئة عام الماضية التي تُسجَّل فيها هجرة سلبية في إسرائيل"، موضحا أن معطيات الدائرة تشير إلى مغادرة نحو 79 ألف شخص خلال العام الأخير.

وبالتوازي، أظهر تقرير إسرائيلي صادر عن مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست (M.M.M) نهاية أكتوبر الحالي، ارتفاعا حادا في أعداد المستوطنين الإسرائيليين المغادرين مقابل تراجع واضح في أعداد المستجلبين.

ويشير التقرير إلى تحول لافت في المزاج العام داخل المجتمع الإسرائيلي، مع تصاعد مشاعر الإحباط من الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتراجع الإحساس بالاستقرار، إضافة إلى نزيف في الكفاءات الشابة، وهي عوامل يرى الباحثون أنها ستنعكس مباشرة على مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي.

انهيار الثقة وصدمة الحرب
قدّم الخبير في الشؤون الإسرائيلية علاء اغباريه، خلال إفادة صحفية في ذروة حرب الـ12 مع إيران بتاريخ 21 حزيران/يونيو 2025، تقييما يؤكد أن دولة الاحتلال شهدت تحولا غير مسبوق في علاقتها مع مواطنيها، موضحاً أن موجات الهجرة العكسية التي برزت في تلك الفترة عكست أزمة ثقة عميقة بين المجتمع الإسرائيلي والدولة.

وأوضح اغباريه أن ما جرى داخل إسرائيل آنذاك "لم تعهده الدولة منذ تأسيسها"، حيث امتد شعور انعدام الأمان من الفئات الشعبية إلى النخب الاقتصادية التي بدأت فعلياً دراسة نقل أعمالها إلى الخارج.

وأضاف أن الفترة نفسها شهدت خروج عشرات الآلاف من الإسرائيليين عبر المعابر البحرية والبرية، في مشاهد وصفها بأنها غير مألوفة في تاريخ إسرائيل التي اعتادت استقبال المهاجرين بدلاً من رؤيتهم يغادرون.

وبين أن تلك الصور مثلت "صدمة سياسية" للقيادة، خصوصا للحكومة التي بدت عاجزة عن وقف الانهيار في ثقة الجمهور، مؤكدا على أن إسرائيل تواجه أزمة داخلية مركّبة على المستويات الأمنية والاقتصادية والنفسية، معتبراً أن الهجرة العكسية كانت المؤشر الأبرز على اهتزاز ثقة المجتمع بالدولة، ومحذرا من أن استمرارها سيترك آثاراً طويلة المدى على الواقع الإسرائيلي ومستقبله السياسي.

اظهار أخبار متعلقة



من جانبه، قال الخبير المالي والاقتصادي ومدير المنتدى العربي الاقتصادي عمر فندي في تصريح صحفي إن الأرقام المتداولة حول الهجرة العكسية من إسرائيل لا تعكس الواقع الحقيقي، مؤكدا أن المعطيات الفعلية أكبر بكثير من الإحصاءات الرسمية.

وأوضح أن موجة الهجرة لم تبدأ مع الحرب الأخيرة، بل شرعت قبلها بالتزامن مع أزمة الإصلاح القضائي ومحاولات حكومة نتنياهو تغيير معايير الشفافية والأخلاق العامة، على حد وصفه.

وأشار إلى أن هذه الهجرة طالت النخب الأكثر إنتاجية، موضحا أن أكثر من 700 شركة في قطاع التكنولوجيا الفائقة "الهاي تك" نقلت مقارّها إلى الخارج، مصطحبة معها كوادرها واستثماراتها. ووصف هذا النزيف بأنه “ضربة كبيرة جداً” لاقتصاد يعتمد بشكل رئيسي على التكنولوجيا المتقدمة.

ولفت الخبير إلى أن الكنيست ومعاهد بحثية إسرائيلية توثق حالياً الآثار الديموغرافية لهذه الهجرة الكبيرة، خصوصا مع حقيقة أن عدد السكان العرب بين البحر والنهر بات أكبر من عدد اليهود، الأمر الذي يزيد من حدة القلق داخل الدوائر السياسية والأمنية.

شواهد تزيد عمق الأزمة
تشير وثائق الكنيست ومعاهد الأبحاث إلى تراجع واضح في حجم الاستثمار الأجنبي خلال العقدين الماضيين، بالتزامن مع انتقال عدد من الشركات الدولية لنقل مكاتبها إلى الخارج وفق تقرير هيئة الابتكار لعام 2022، ما يعكس اتساع مشاعر الإحباط من الأوضاع الأمنية والسياسية وتغيرات جوهرية في المزاج العام داخل المجتمع الإسرائيلي.

وتُظهر بيانات إضافية أن الخطاب داخل الدوائر الرسمية بات أكثر صراحة حول “خطر فقدان الاستقرار الداخلي” و”تآكل العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين”، في دلالة على تصاعد القلق من مستقبل البنية الداخلية للدولة.

وتعود محاولات حكومة الاحتلال لجذب مهاجرين جدد إلى سعي واضح لتعويض موجات هجرة متسارعة وغير مسبوقة، فيما تبقى حرب غزة وما أظهرته من هشاشة أمنية واجتماعية العامل الأشد تأثيرًا في تشكيل هذا المسار، الذي يبدو أنه سيستمر لسنوات وينعكس على هوية الدولة ومستقبلها.
التعليقات (0)

خبر عاجل