وضعت
الانتخابات العراقية أوزارها رغم ما كان يحيط بها من توتر إقليمي وترقب داخلي، وفتحت أبواب الأسئلة الآن لشكل الحكومة المقبلة التي أفرزتها صناديق الاقتراع.
وكانت نتائج الانتخابات قريبة من التوقعات سوى ببعض الجوانب مثل خسارة الأحزاب التي يطلق عليها بالمدنية والتي يمثل جزءا منها احتجاجات تشرين 2019، فضلا عن نيل تيارات سياسية تتبع لفصائل مسلحة ضعف مقاعدها في البرلمان خلال الدورة السابقة مثل كتلة "الصادقون" التابعة لعصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، وكتلة حقوق التابعة لفصيل كتائب "حزب الله".
ويتركز المارثون السياسي القادم للوصول إلى "الكتلة الأكبر" تلك التي يحق لها تشكيل الحكومة، والتي درجت العادة وفق المحاصصة الطائفية أن تكون للمكون الشيعي فيما يتوافق السنة على رئاسة البرلمان والأكراد على رئاسة الجمهورية فضلا عن تقاسم الوزارات على ذات المسطرة.
ويبدو المرشح الأوفر حظا للوصول إلى رئاسة الحكومة نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون، مع استبعاد الكثيرين إمكانية التجديد لمحمد شياع السوداني الذي حقق ائتلافه فوزا كبيرا خلال الانتخابات.
اظهار أخبار متعلقة
وضمن التحركات السياسية المتسارعة في البلاد، أعلن تحالف الإطار التنسيقي، المكون من أحزاب شيعية، مطلع الأسبوع الماضي، أنه أصبح الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان العراقي عقب صدور النتائج النهائية للانتخابات التشريعية، مؤكدا بدءه خطوات اختيار رئيس الحكومة المقبلة وفق السياقات الدستورية.
كما أظهرت بيانات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات احتفاظ قوى الإطار بوزنها البرلماني داخل مجلس النواب البالغ 329 مقعدا، فيما أوضح التحالف أنه شكل لجنتين قياديتين: الأولى لبحث الاستحقاقات الوطنية وصياغة رؤية موحدة لإدارة الدولة، والثانية لمقابلة المرشحين لمنصب رئيس الوزراء.
وبالمقابل، أعلنت خمسة أحزاب سنية في العراق، الأحد، تشكيل "المجلس السياسي الوطني" بهدف توحيد الجهود وتعزيز التمثيل السني وضمان الحقوق الدستورية، بحسب وكالة الأنباء العراقية.
وجاء الإعلان بعد اجتماع موسع في
بغداد ضم أحزاب تقدم وعزم والسيادة وحسم الوطني والجماهير بدعوة من خميس الخنجر، واتفقت الأحزاب على أن يكون المجلس مظلة موحدة تنسق المواقف وتوحد الرؤى خلال الدورة النيابية السادسة، مع تأكيد انفتاحه على الشركاء الوطنيين وتمسكه بثوابت وحدة العراق واستقراره.
ومن الجدير بالذكر، أن مفوضية الانتخابات في العراق، أعلنت الخميس، ارتفاع عدد الطعون المقدمة بشأن نتائج الانتخابات البرلمانية إلى 400 طعنا، وفق بيان للمتحدثة باسم المفوضية جمانة الغلاي، التي أوضحت أن 71 شكوى ردت لعدم كفاية الأدلة، بينما تملك المفوضية نحو أسبوعين للفصل في الطعون قبل إحالة النتائج إلى المحكمة الاتحادية العليا للتصديق على أسماء الفائزين.
ويرى محللون أن الإطار التنسيقي ما يزال الأقرب لتشكيل الكتلة الأكبر، متوقعين أن تكون عملية تشكيل الحكومة أسرع من الدورات السابقة، مع انخفاض الاعتراضات وقدرة البرلمان على انتخاب الرئاسات خلال بضعة أشهر فقط.
بينما يرى آخرون أن الحكومة المقبلة ستتشكل بالتوازن التقليدي نفسه بين الشيعة والسنة والكرد، لكن بوجوه جديدة من الجيل الثاني، في وقت يعاني فيه البيت السني من هشاشة داخلية، ويبدو البيت الكردي الأضعف بسبب انقساماته الداخلية، ما قد ينعكس على شكل مشاركته في الحكومة المقبلة.
خرائط ثابتة وإطار متقدم
أوضح أستاذ العلوم السياسية في جامعة الموصل محمود العزو، في تصريح لـ"عربي21"، أن التكتلات التي ظهرت بعد الانتخابات بقيت بشكلها العام ذاته مقارنة بالدورات السابقة، مع اختلاف في التسميات.
وبين أن الإطار التنسيقي ما زال متماسكا، كما يُنتظر أن تلتئم القوى الكردية والقوى السنية لتوقيع اتفاق ثلاثي يضمن توزيع المناصب الأساسية.
وأشار إلى أن الإطار التنسيقي يبدو الأقرب لإعلان نفسه الكتلة الأكبر، موضحا أن الضغوط السياسية عليه كانت حاضرة منذ اليوم الثاني للانتخابات، وأضاف أن اختيار رئيس الوزراء لا يرتبط دائما بالكتلة الأكبر، مستشهدا بحالة تكليف محمد شياع السوداني في الدورة الماضية رغم امتلاكه مقعدين فقط بعد دعم الإطار التنسيقي.
وأكد العزو أن التأثير الإقليمي في العملية السياسية موجود لكنه يأخذ طابع الإرشاد لا الضغط، في ظل توازنات إقليمية تشمل الخليج وتركيا وإيران.
وأوضح محمود العزو أن السيناريو الأكثر ترجيحا هو أن تكون عملية تشكيل الحكومة أسرع من المراحل السابقة، مبينا أن مستوى الضجيج والاعتراضات على نتائج الانتخابات لم يصل إلى ما حدث في عام 2021، حين امتدت الأزمة حتى نهاية 2022، أي ما يقارب سنة كاملة.
وبين أن الاعتراضات الحالية أقل بعد المصادقة على النتائج، ليتمكن مجلس النواب من الالتئام واختيار رئيس البرلمان، ثم انتخاب رئيس الجمهورية بعد قرابة شهر، يعقبه بشهر آخر تكليف الكتلة الأكبر بتسمية رئيس الوزراء، مؤكدا أن مدة تشكيل الحكومة المقبلة لن تتجاوز على الأرجح أربعة إلى خمسة أشهر.
وأكد أن هوية رئيس الحكومة المقبلة غير محسومة، ضمن شروط اعتراف سني وكردي بأن الإطار التنسيقي هو الجهة المكلفة بهذه المهمة، مقابل اعتراف من الإطار بدور القوى السنية والكردية في اختيار شاغلي منصبي رئاسة البرلمان والجمهورية.
جيل سياسي جديد ومخاوف إقليمية
من جانبه، قدم الكاتب والصحفي الاستقصائي صلاح حسن بابان، في تصريح لـ"عربي21"، قراءة واسعة للمشهد السياسي، لافتا إلى أن شكل الحكومة المقبلة لن يختلف من حيث التكوين العام، إذ ستضم القوى الشيعية والسنيّة والكردية، باستثناء التيار الوطني الشيعي الذي قاطع الانتخابات، وشبه غياب لقوى تشرين.
اظهار أخبار متعلقة
ويشير إلى أن الفارق الأساسي هو تصدر الجيل الثاني من قادة الكتل السياسية للمشهد، وأن المناصب الثلاثة العليا ستذهب لشخصيات جديدة من خارج “الصقور القديمة” على حد تعبيره، مع عدم عودة عبد اللطيف جمال رشيد، أو محمد شياع السوداني، أو محمود المشهداني، أو محمد الحلبوسي إلى مناصبهم السابقة.
البيت الشيعي.. جولات سياسة رغم الخلافات الداخلية
وقال بابان إن البيت الشيعي بدا أكثر تماسكا عبر توحيد مكوناته تحت مسمى "الكتلة الأكبر"، وانطلق في جولات سياسية بين أربيل والقيادات السنية لتثبيت موقعه رغم خلافاته الداخلية، خاصة بعد خروج السوداني بقائمة مستقلة.
كما رأى أن القوى الشيعية تسعى إلى الإسراع في تشكيل الحكومة تحسبا لأي تطورات مرتبطة بالمفاوضات الأميركية الإيرانية أو احتمال اندلاع مواجهة جديدة بين إسرائيل وإيران، مرجحا السيناريو الثاني كخطر أكثر واقعية، ما يدفع الأطراف الشيعية إلى تقديم تنازلات مرحلية مقابل ضمان رئاسة الحكومة.
القوى السنية.. هشاشة سياسية وتأثير خارجي
اعتبر بابان أن التأثيرين التركي والخليجي يشكلان محور توجيه موقف القوى السنية، التي اضطرت إلى الدخول بتحالف واحد لضمان حصتها السياسية.
لكنه يؤكد أن البيت السني يعاني من هشاشة داخلية وافتقار إلى قيادة موحدة، ما يجعله سريع التأثر بالتحولات الإقليمية، خصوصا ما يتعلق بالصراع السوري الكردي أو التوتر الإيراني الأمريكي الإسرائيلي.
التكتلات الكردية.. أضعف المكونات وانقسام داخلي
يرى بابان أن البيت الكردي هو الأضعف في المرحلة الحالية، نتيجة انقسام داخلي حاد بين الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة بافل طالباني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وفشل تشكيل حكومة كردستان رغم مرور عام على انتخابات برلمانها.
اظهار أخبار متعلقة
ويعتبر أن منصب رئيس الجمهورية سيبقى من حصة الاتحاد الوطني، الذي سيدفع بشخصية شابة من الجيل الثاني لتعزيز حضوره في بغداد.
كما أوضح أن الديمقراطي الكردستاني قد يواجه صعوبات بسبب علاقته المتوترة مع المالكي، الذي قد يستخدم ورقة الضغط إذا طالب الديمقراطي بحصص أكبر، ويؤكد بابان أن أطرافا كردية أخرى قد تدخل الحكومة حتى لو بقي الحزب الديمقراطي خارجها.
وتشير التفاهمات الحالية ثبات القوى التقليدية للتحالفات العراقية، مقابل صعود جيل سياسي جديد يسعى إلى تثبيت حضوره في المناصب العليا، وبينما تتجه القوى الشيعية نحو الإسراع في تشكيل الحكومة تحت ضغط المتغيرات الإقليمية، يبقى البيت السني خاضعا لتأثيرات خارجية، والبيت الكردي منشغلا بأزمته الداخلية.
وفي ظل هذه المعادلة، يفتح الطريق أمام مفاوضات معقدة قد تنتج حكومة خلال أشهر قليلة، فيما تبقى هوية رئيس الوزراء المقبل مرتبطة بميزان دبلوماسي بين الإطار التنسيقي وحلفائه السنة والكرد.