قضايا وآراء

الانتخابات المصرية: انتخب وأنت حر يا بن ذبيبة!

مصطفى خضري
"هذه ليست دعوة انتخابية، بل مسرحية نطلب منك أن تؤدّي دور المواطن الحر فيها"- إعلام حكومي
"هذه ليست دعوة انتخابية، بل مسرحية نطلب منك أن تؤدّي دور المواطن الحر فيها"- إعلام حكومي
في جاهليّة العرب، كان العبد لا يُنظر إليه إلا كظلٍّ بلا صوت، لا رأي يُسمع، ولا كرامة تُذكر، ولا ذمة تُحفظ، ولا عرض يُستر، لكن في لحظات الخطر، حين يهدّد الأعداء قبيلة الأسياد، يُنادون على أشجع عبيدهم، فيُقال له: "كرْ وأنت حر!"، فيثور كالليث، يُقاتل بصدر عارٍ، دفاعا عن قومٍ لم يعُدُّوه إنسانا إلا حين احتاجوه، فإذا انتهى الخطر، عادوا يُنادونه: "عبدا"!

وقد خلّدت معلقة عنترة العبسي تلك الحالة، حيث كان سادات يمنعونه من الجلوس مع الأحرار، وينادونه باسم أمه "ذبيبة"، ولا يُعيرونه اهتماما إلا حين يهدّد الأعداء حياتهم ومكتسباتهم؛ في تلك اللحظة، ينقلب الموقف: فيُقال له: "كرْ وأنت حر"؛ فيُلبّى عنترة نداء النخوة، وكأن الحرية هبةٌ مشروطة بالخدمة، وليست حقا إنسانيا أصيلا، حتى ضج منهم فأنشد يقول:

حَكِّم سُيوفَكَ في رِقابِ العُذَّلِ   وَإِذا نَـزَلـتَ بِـدارِ ذُلٍّ فَـاِرحَـــلِ
وَإِذا بُليتَ بِظالِــمٍ كُـن ظـالِمــا   وَإِذا لَقيتَ ذَوي الجَهالَةِ فَاِجهَلي
من يطنطن منهم عن "الشرعية الانتخابية" فإنه يتحدث عن انتخاباتٍ معيبة بشهادة رأس النظام نفسه، تُقام بعد سجن كل من يُمكن أن يُهدّد النتيجة. البرلمان ليس ممثلا للشعب، بل محلّلا للنظام أمام العالم

وفي مصر اليوم، حيث لا داحس ولا الغبراء، فلا حاجة إلى عنترة ليحارب. فالعدو -منذ اتفاقية كامب ديفيد والتطبيع مع الكيان الصهيوني- لم يعد خارجيا، بل داخليا، والنظامٌ في سبيل ذلك يطلب من شعبه أن "يشارك"، لا أن يُحارب؛ أن "يختار"، لا أن يثور. يُطلب من المواطن أن يصوّت -في انتخاباتٍ محسومة سلفا- كأنه يمارس حرية، بينما يُهمس في أذنه: "انتخب وأنت حر يا بن ذبيبة!".

هذه ليست دعوة انتخابية، بل مسرحية: نطلب منك أن تؤدّي دور المواطن الحر فيها، بينما نعرف -وأنت تعرف أننا نعرف- أن صوتك لا يُغيّر شيئا، وأن "الحرية" هنا مجرد مسرحية تُقام لتبرير بقاءٍ لا شرعيّة له سوى القمع.

ولقد أعادت هذه الانتخابات إلى الذهن صورة عنترة، لا كشخصية أسطورية، بل كرمزٍ حيّ. لا نرى عنترة الآن، لكننا نرى الملايين من المصريين الذين يُعامَلون كما عُومل عنترة: يُذلّون، ويُفقرون، ويُسجَنون، ثم يُطلب منهم أن "يحبّوا" من يذلّهم، ويُضحّوا من أجل من يسرقهم، ويُصدّقوا من يكذب عليهم.

اليوم، يطلب النظام من الشعب أن "يختار"، لا أن يُقاتل، لكن الاختيار الحقيقي لا يكون حين يُقال لك: "انتخب.. وأنت حر يا بن ذبيبة".

صراع النظام بين الوهم والواقع

هذا التناقض -بين طلب المشاركة وفرض الإذلال- ليس وليد اللحظة، بل هو تجلٍّ لأزمة أعمق يعيشها النظام: أزمة هويةٍ وجودية، تتأرجح بين وهم القوة المطلقة وانهيار الشرعية الواقعية، حيث يعيش النظام الحاكم في مصر اليوم حالة نفسية وسياسية معقدة، تتأرجح بين وهم قوة غير حقيقية؛ جعلته يدعو لتلك الانتخابات المسرحية، وانعدام توازن داخلي جعله يصرّح بأن تلك الانتخابات معيبة ويجب إصلاحها.

فالنظام الآن في مواجهة حقيقية بين ما يتصوره عن نفسه (القوة، الشرعية، الحكمة) وبين ما تُظهره الوقائع (الفساد، الانهيار، الغضب الشعبي). وقد أدى هذا الصراع الداخلي للنظام إلى هذه الفضيحة التي صاحبت انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، والتي أُجريت في جوٍّ خليط بين القوة المتوهمة والخوف من رد الفعل. فنظام القوائم المطلقة، الذي فُرض بمنطق "القائمة أو لا شيء"، لم يكن سوى أداة لتصفية الخصوم. أما المرشحون، فبعضهم كان سخيفا لدرجة أن المؤيدين أنفسهم لم يستطيعوا الدفاع عنه. وفوق ذلك؛ تواترت الأنباء عن رشاوى بملايين الجنيهات لشراء الأسماء، وتحولت انتخابات "الفردي" إلى مسرحية هزلية يغرقها التزوير والترهيب.

وفي لحظة نادرة كشفت عن حالة التنافر المعرفي الذي يسيطر على النظام، خرج السيسي ببيانٍ مفاجئ على فيسبوك قال فيه: "أطلب من الهيئة الوطنية للانتخابات.. ألا تتردد في إلغاء المرحلة إن لم تُعبّر عن إرادة الناخبين الحقيقية".

البيان، رغم محاولته إظهار الحياد، كان صرخة هلع. فالمخابرات قدّمت تقارير عن غضب شعبي متزايد، وذكّرت القيادة بمصير مبارك بعد انتخابات 2010. وهنا، حاول السيسي الهروب من مسؤوليته، ملقيا الكرة في ملعب "الهيئة"، وكأنه لم يكن هو من صمّم هذا النظام الانتخابي المعيب منذ البداية!

التبرّؤ الجماعي من اللقيط الأجرب

لكن المفاجأة الأكبر لم تأتِ من الشارع، بل من داخل مؤسسات الدولة نفسها. ففي ردٍّ على بيان السيسي، أصدر نادي قضاة مصر بيانا لغسل يده، أكد فيه أنه عملا بأحكام الدستور، لم يتولَّ القضاة وأعضاء النيابة العامة الإشراف على الانتخابات البرلمانية لعام 2025، مشيرا إلى أن ذلك يأتي التزاما بما نص عليه الدستور من عدم مشاركة القضاة في الإشراف على الاستحقاقات الانتخابية إلا في حدود ما يقرره القانون.

وقد رد على بيان نادي القضاة بيان منسوب للنادي البحري للنيابة الإدارية -التي يشارك أعضائها في الإشراف على الانتخابات- نشرته وسائل الإعلام، يقول فيه: إن الهيئة الوطنية للانتخابات هي "المسئول الأول" عن أزمات العملية الانتخابية في بعض اللجان، مشيرا إلى أنها كلفت رؤساء اللجان الفرعية بقرارات أدت -بحسب ما جاء في النص- إلى عدم تسليم وكلاء المرشحين نموذج نتيجة الفرز.

وعلى هذا، يبدو أن هذه الانتخابات قد أصبحت مثل "اللقيط الأجرب" الذي يتجنبه الجميع، حتى صانعوها والمشرفون عليها.

بين الخطاب الرسمي والواقع المُعاش

وسط هذا التفكك الداخلي، يبرز خطاب دفاعي من أزلام النظام، يبررون للنظام أفعاله، ويجمّلون ما اقترفه، ويسوّغون ترهاته، ويدبجون الخطابات الرنانة التي يحاولون أن يقنعوا بها الناخب أنه حر. لكن خطابهم يأتي بالعكس، لأن ذلك الخطاب يكشف تناقضاته الجوهرية بين ثناياه: فمن يتكلم منهم عن "السيادة والمواقف الثابتة" يجد أن الواقع يخبر عن تنازلات استراتيجية تحت شعارات براقة. السيادة هنا شعار استهلاكي، لا واقع ممارس.

ومن يتحدث منهم عن "الاستقرار والأمن" يعبر عن واقع استقرار هش مبني على سجن أكثر من 60 ألف مواطن، وتحويل السجون إلى مقابر للأحياء. وبحسب مؤشر "نومبيو" للرعاية الصحية (2025)، تحتل مصر المرتبة ما قبل الأخيرة عربيا بـ47.5 نقطة، فهل هذا "استقرار"؟

هذا النظام يسير على حافة الهاوية، فهو من جهة يرى نفسه كيانا منفصلا عن الشعب، قادرا على تحويل الأوهام إلى واقع. ومن جهة أخرى، يُجبره الواقع على مواجهة التنافر المعرفي كلما تصدعت صورته. هذا التناقض لا يمكن أن يستمر إلى الأبد

ومن يشدو منهم بالـ"الإنجازات التنموية" لا يجد ما يتكلم عنه إلا مشاريع استعراضية تُموَّل بديون قياسية. الجنيه ينهار، والتضخم يلتهم الدخول، بينما يُقدّر المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام "تكامل مصر" أن عدد خريجي الجامعات العاطلين عن العمل يقترب من 6 ملايين شاب (2025).

ومن يطنطن منهم عن "الشرعية الانتخابية" فإنه يتحدث عن انتخاباتٍ معيبة بشهادة رأس النظام نفسه، تُقام بعد سجن كل من يُمكن أن يُهدّد النتيجة. البرلمان ليس ممثلا للشعب، بل محلّلا للنظام أمام العالم.

ومن يتبجح منهم بالـ "المرونة الدبلوماسية" يصطدم بواقع أن مصر في زمن هذا النظام لم تعد القائد، بل تابعٌ ينفّذ أجندات لدويلات في حجم شارع من شوارع القاهرة. وبيع المواقف السياسية مقابل المساعدات المالية ليس "مرونة"، بل تفريطا في الاستقلال.

المستقبل للأحرار برغم غطرسة النظام

إن هذا النظام يسير على حافة الهاوية، فهو من جهة يرى نفسه كيانا منفصلا عن الشعب، قادرا على تحويل الأوهام إلى واقع. ومن جهة أخرى، يُجبره الواقع على مواجهة التنافر المعرفي كلما تصدعت صورته. هذا التناقض لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. فالأنظمة التي تبني شرعيتها على القمع والوهم لا تصمد طويلا أمام تراكم الغضب، وانهيار الاقتصاد، وانعدام الثقة.

السؤال اليوم ليس: هل سيسقط النظام؟ بل: متى؟ لأنه، في النهاية، لا يمكن لأي نظام أن يعيش ممزّقا بين أوهام العظمة ومخاوف السقوط، دون أن ينهار تحت وطأة تناقضاته.

ولقد خلد التاريخ أنه عندما تحالفت القبائل لقتال عبس؛ هرب ملك عبس، لكن بقي عنترة وقاتل حتى النهاية. لقد اندثرت أخبار هذا الملك، وبقيت أخبار عنترة وشجاعته، وبقي شعره، وبقي صوته في كل من قال: "لستُ عبدا لأحد".

في النهاية، ستحيا مصر.. ولكن بأحرارها، الذين يرددون قول عنترة:

لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ    بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
التعليقات (0)

خبر عاجل