قضايا وآراء

هندسةُ الغياب والتغييب.. حين تُدار العقول بالضجيج

محمد خير موسى
"هذه السياسة تفرز مجتمعا ينتصر في معارك الوهم وينهزم في معركة الفكر والوعي"- CC0
"هذه السياسة تفرز مجتمعا ينتصر في معارك الوهم وينهزم في معركة الفكر والوعي"- CC0
"حافظوا على تحويل انتباه الرّأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعيّة الحقيقيّة وألهُوهُ بمسائل تافهة لا أهميّة لها.. أبقُوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا، دون أن يكون لديه أيّ وقتٍ للتّفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى" (نعوم تشومسكي، استراتيجيات التحكّم في البشر والسيطرة على الجمهور).

في هذا الاقتباس تتكثّف فلسفة السّيطرة الحديثة كلّها، إذ تُحكم القبضة على الإنسان عبر توجيه انتباهه وتفكيك وعيه وصناعة انشغاله المستمرّ بتفاصيلَ لا تُطعم فكرا ولا تفتح أفقا؛ فالمسألة لم تعد في قمع العقل وإنّما في إغراقه بما يشبه التفكير دون أن يفكّر، وإشغاله بما يُشبه الوعي دون أن يعي.

ويتّضح في هذا المسار أنّ السيطرة لم تعد تبحث عن إخضاع الجسد، ولكنّها تحاول إعادة تشكيل الداخل الإنسانيّ من خلال إدارة تدفّق المعلومات، وتحديد ما يراه العقل أو يسمعه أو ينشغل به.

المسألة لم تعد في قمع العقل وإنّما في إغراقه بما يشبه التفكير دون أن يفكّر، وإشغاله بما يُشبه الوعي دون أن يعي

يتعرّض الفرد لسيلٍ متلاحقٍ من الأحداث الجزئية التي تملأ يومه من أوّله إلى آخره، فيتحرّر النظام المُهيمن من عبء الرقابة التقليدية عبر خلق فوضى محسوبة تدفع العقل نحو انشغالٍ دائمٍ يشبه السير في متاهةٍ مضاءةٍ بألف لوحة، دون أن يدرك الزائر الجدار الذي يوجّه خطواته.

وتتحوّل التفاصيل الصغيرة إلى حاجزٍ يحجب الأسئلة الكبرى، فتغدو الأفكار أشبه بفقاعاتٍ تتصاعد ثم تتلاشى قبل أن تكتمل، ويغدو الإنسان مشدودا إلى عالمٍ من الانطباعات المتلاحقة التي تُنتج حركة ذهنية سريعة دون أن تمنح العقل فرصةَ بناء معنى.

إنّ أخطر ما ابتكرته منظومات الهيمنة هو تحويل الوعي إلى طاقةٍ مهدورة تُستهلك في اللغو الإعلاميّ والمنافسات التافهة والمهرجانات الصّاخبة والثرثرة الإلكترونية التي تُشبه الأفيون الجديد للشعوب؛ هكذا تتشكّل "سجون المعنى"، حيث يعيش الناس داخل قفصٍ من الأخبار المتتابعة والتحليلات المتناقضة فيظنّون أنفسهم أحرارا لمجرّد أنّهم يتحدّثون، بينما يُعاد تشكيل ذائقتهم وقناعاتهم ضمن حدودٍ مرسومةٍ بعناية.

يُراد للإنسان أن يبقى مشغولا بإجاباتٍ لا أسئلة لها، وبمعاركَ تُدار في الفراغ، وبقضايا جزئيةٍ تستنزف طاقته عن التفكير في جوهر وجوده الاجتماعيّ والسياسيّ والروحيّ؛ وكلّ ذلك يتمّ تحت شعار الحرّية والانفتاح، في حين يُقاد الرأي العام كما يُقاد القطيع ولكن ليس بالعصا، وإنّما بإشارةٍ تسوقُ الوعي إلى حيث يراد له أن يصل.

ويتولّد عن هذا النمط من الإلهاء عقلٌ مُتخمٌ بالضجيج يُلاحق ما يُعرض عليه ولا يلتفت إلى ما يُخفى عنه، فيتحرّك وفق ما يُلقى في طريقه من عناوين وشعارات تمتلئ بالوميض وتخلو من المعنى.

ومع استمرار هذا الإيقاع تتآكل قدرة الإنسان على إدراك البنية العميقة لمشكلاته، فتراه يركض خلف كلّ حدثٍ عابر ويشتبك في كلّ نقاشٍ مستعجل ويُستنزف في دائرةٍ من ردود الفعل التي تُغلق عليه مساحات التفكير الحرّ.

يتحوّل الوعي الجمعيّ مع الزمن إلى ساحةٍ للمؤثّرات السريعة، فتُزرع فيها الانفعالات كما تُزرع الحشائش البرّية التي تتراكم فوق التربة العميقة للأسئلة الكبرى وتمنعها من التنفّس؛ وهكذا يُصنع جيلٌ يتفاعل أكثر ممّا يتفكّر، ويُحسن الجدل أكثر ممّا يُحسن التأمّل والنّظر، وينشغل بالسطح حتى يفقد الطريق إلى الجذور.

إنّ هذه السياسة تفرز مجتمعا ينتصر في معارك الوهم وينهزم في معركة الفكر والوعي، ويغرق في تفاصيل تُشبه الزينة التي تُغطّي جدارا يتصدّع في صمت، فيما تتراجع قدرته على صياغة رؤيةٍ شاملةٍ لواقعه وتحديد أولوياته؛ بهذا الأسلوب يتشكّل جمهورٌ يُدار من الخارج ويُعاد تشكيل وجدانه عبر تدفّقٍ محسوبٍ من القضايا الصغيرة التي تحجب عنه الأسئلة المصيرية التي تُبنى عليها الحضارات أو تسقط.

من هنا تنبع أهمية البناء الفكريّ للشباب بوصفه ضرورة حضارية لحماية الإنسان من الذوبان في الجموع المبرمجة؛ فالعقل الذي لم يتدرّب على رؤية البنية خلف الحدث والمبدأ خلف الخبر والاتجاه خلف الضجيج؛ فإنّه يظلّ رهين اللحظة التي تُقدَّم له، والشباب الذين لا يمتلكون أدوات التفكير النقديّ ولا يتقنون قراءة الخطاب من وراء ستاره يغدون فريسة سهلة لمسرحٍ سياسيٍّ وإعلاميٍّ يوجّههم كما تُوجَّه موجةُ الضوء في العدسة.

البناء الفكريّ للشباب هو الفعل المقاوم الأعمق؛ فهو لا يواجه الطغيان في صورته الظاهرة فقط، ولكنّه يهدم جذوره في الذهن الجمعيّ؛ هو المشروع الذي يُعيد للإنسان قدرته على اختبار واقعه بمعاييرَ مستقلةٍ عن الإعلام والسلطة، وعلى اختيار قضاياه وفق أولوياته لا وفق أجندةٍ تُفرض عليه

إنّ البناء الفكريّ للشباب هو الفعل المقاوم الأعمق؛ فهو لا يواجه الطغيان في صورته الظاهرة فقط، ولكنّه يهدم جذوره في الذهن الجمعيّ؛ هو المشروع الذي يُعيد للإنسان قدرته على اختبار واقعه بمعاييرَ مستقلةٍ عن الإعلام والسلطة، وعلى اختيار قضاياه وفق أولوياته لا وفق أجندةٍ تُفرض عليه.

وحين ينهض الشاب بمعرفةٍ راسخة وقدرةٍ على التفكيك والتحليل؛ فإنّه يمتلك البوصلة التي تعصمه من التيه وسط ضجيج الأحداث؛ فالعقل المُمَكَّن لا يُقاد بالضّجيج الطارئ ولا تُسيّره العناوين السريعة، إذ يرى ما وراء الصورة ويقرأ ما بين السطور ويفرق بين ما يطال جسد المجتمع وما يستهدف وعيه.

في مثل هذه اللحظة يتبدّل المشهد كلّه؛ فالإنسان الذي يملك فكرا مُحكما يخرج من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل، ومن دائرة الانفعال إلى دائرة الفعل وتتغيّر طبيعة السؤال؛ من سؤالٍ يُطرَح عليه إلى سؤالٍ يُنتجه هو، ومن قضيةٍ يُدفَع إليها إلى قضيةٍ يُحدّدها وفق منظومته ومقاصده ومعرفته بمصادر قوّته وضعفه.

بهذا المعنى يغدو البناء الفكريّ مشروعا للتحرير يُعتق الإنسان من هيمنة الضجيج، ويمنحه القدرة على صوغ واقعه بيده وعلى السير في الطريق الذي يُشبه روحه لا الطريق الذي رُسِم له في غرف مغلقة.

وفي زمنٍ تُدار فيه المعارك بالأخبار لا بالمدافع وتُحدَّد مصائر الأمم عبر إدارة الانتباه؛ فإنّ التفكير يصبح فعلَ تحرّرٍ ويصبح بناء الإنسان الواعي الخطّ الدفاعيّ الأخير عن إنسانيته؛ فالمجتمع الذي يربّي أبناءه على التمييز بين الحقيقة والضوضاء هو المجتمع الذي يملك زمام مستقبله.

وهكذا تبقى معركة الفكر هي معركة الوعي ضدّ التشويش ومعركة الإنسان ضدّ تهميشه ومعركة الروح ضدّ الانشغال الدائم الذي يُشبه الغياب؛ ففي نهاية المطاف فإنّ الذي يتحكّم بانتباهك يتحكّم بوجودك، والذي يبني فكرَه يبني حريته، ومن يملك البوصلة الفكرية لا يتيه في تفاصيل العالم مهما كثرت طرقه وتشابهت علاماته.

x.com/muhammadkhm
التعليقات (0)

خبر عاجل