قضايا وآراء

في حضرة الصبر.. رسالة خجلٍ إلى امرأةٍ من غزّة تُعيد تعريف الإنسان

محمد خير موسى
"شهادة حية على سقوط القيم التي تغنّت بها الحضارة الحديثة"- الأناضول
"شهادة حية على سقوط القيم التي تغنّت بها الحضارة الحديثة"- الأناضول
في هذا العالم الذي أُغلقَت فيه نوافذ المعنى، وتكاثرت فيه الشعارات حتى فقدت الكلمات قيمتها، تقف امرأةٌ من غزّة على تخوم الجحيم، وقد مرّت عليها سنتان من الحصار والموت والقصف والنزوح، عشرون مرّة اقتُلِعَ فيها بيتها من جذوره، واستشهد الزوج تحت الركام، وغاب الابن في رماد الحرب، وبقيت هي شاهدة على انهيار العالم من حولها، وهي تتشبّث بما تبقّى من شرف الوجود؛ واقفة في طابورٍ طويل أمام التكايا، تنتظر صحنا من برغلٍ أو رزٍّ كأنه آخر ما يمنحه هذا الكون لمن لم يتخلّ عن إنسانيته. إنّها لا تُثير فينا الشفقة ولكنّها تُثير الخجل العميق من أنفسنا، لأنّها تكشف لنا -دون أن تنطق بحرف واحد- مدى الزيف الذي استقرّ في وعينا، ومدى الانحدار الذي بلغناه حين تحوّلنا من شهودٍ إلى متفرّجين، ومن إخوةٍ في الإنسانية إلى مجرّد مُستهلكين للأخبار.

الصبر.. ذلك الفعل الوجوديّ الذي يتجاوز الأخلاق

في التجربة الغزّية -التي تجسّدها هذه المرأة- لا يعود الصبر مجرّد فضيلةٍ أخلاقيةٍ تُمدَح، ولا صفة نفسية تُكتسب، لكنّه يتحوّل إلى فعلٍ وجوديٍّ يُعيد تعريف الإنسان؛ فحين يفقد المرء البيت والوطن والأسرة والأمن ويبقى متمسكا بكرامته؛ فإنّه لا يمارس الصبر بوصفه خضوعا وامتثالا وإنّما بوصفه مقاومة للعدم، ورفضا للمحو في دوّامة العنف. إنّها تُقدّم للعالم درسا في أنّ الإنسان لا يُقاس بما يملك وإنّما بما لا يسمح بانتزاعه منه: بالمعنى، وبالإيمان، وبالكرامة. وما نسميه "صبرا" في قواميسنا هو في حقيقته ممارسةٌ وجوديّة للثبات على الذات في وجه عُهر هذا العالم.

المرأة باعتبارها كاشفا للضّمير الإنسانيّ
تغدو هذه المرأة بمأساتها المرآة التي يُرى فيها كلّ واحدٍ منّا على حقيقته؛ فهي لا تسأل شيئا لكنها تُجبِرنا على مواجهة سؤالٍ لم نجرؤ على طرحه: ما معنى أن تكون إنسانا في عالمٍ تواطأ على قتل المظلوم؟

تغدو هذه المرأة بمأساتها المرآة التي يُرى فيها كلّ واحدٍ منّا على حقيقته؛ فهي لا تسأل شيئا لكنها تُجبِرنا على مواجهة سؤالٍ لم نجرؤ على طرحه: ما معنى أن تكون إنسانا في عالمٍ تواطأ على قتل المظلوم؟

إنّها لا تحمل في يدها سلاحا، ولا تملك سلطة أو منبرا، لكنّها تملك ما هو أعمق؛ شهادة حية على سقوط القيم التي تغنّت بها الحضارة الحديثة؛ إنّها البرهان على أن الأخلاق لا تُقاس بالخطابات ولكنّها تُقاس بالثمن الذي يُدفع من أجلها، وأنّ الإنسانية لا تصلح أن تكون ادّعاء في المؤتمرات المبثوثة على الهواء مباشرة ولكنّها اختبارٌ في لحظة الجوع والنزوح والدم.

حين تنظر هذه المرأة إلى صفّ الخبز الممتدّ أمامها، فهي لا ترى فيه مجرّد طوابير محتاجين؛ إنّها ترى فيه طوابير خذلانٍ عالميٍّ طويل، ابتدأ من المؤسسات الحقوقية، ولم ينتهِ عند حدود العواصم التي صمتت خوفا أو طمعا أو توطؤا.

الخذلانُ فضيحةُ الوعي

كلّ يومٍ تقف فيه هذه المرأة في طابورٍ بحثا عن لقمة، هو يومٌ تُفضَح فيه الإنسانية؛ فنحن الذين نكتب عنها اليوم، لم نحمل عنها حملها، ولم نقتسم معها رغيفها، لكننا نُدرك في أعماقنا أننا نعيش على هامش مأساتها، وأنّ كلماتنا لا تداوي، بقدر ما تُعرّي عجزنا.

لقد تحوّل الخذلان إلى ثقافةٍ تُدار باسم السياسة، وإلى صمتٍ يُبرَّر باسم التعقّل، وإلى خوفٍ يُسمَّى حكمة، لكنّها هي وحدها -بدموعها وصبرها- تُظهر أن السكوت على الجريمة جريمةٌ أخرى، وأنّ الإنسانية التي لا تنحاز إلى المظلوم إنما تُعلن إفلاسها القيميّ.

وهكذا فإنّ صورتها لا تُذكّرنا بالمأساة فقط، ولكنّها تديننا نحن أيضا وتُحاكمنا أمام مرايا عجزنا.

تحوّل الخذلان إلى ثقافةٍ تُدار باسم السياسة، وإلى صمتٍ يُبرَّر باسم التعقّل، وإلى خوفٍ يُسمَّى حكمة، لكنّها هي وحدها -بدموعها وصبرها- تُظهر أن السكوت على الجريمة جريمةٌ أخرى، وأنّ الإنسانية التي لا تنحاز إلى المظلوم إنما تُعلن إفلاسها القيميّ

رسالة الخجل إلى جيلٍ مترفٍ

نكتب إليها من زمنٍ غارقٍ في الترف، يتحدّث عن الإنسان كما يتحدّث عن موضةٍ موسمية، يتغنّى بالرحمة في الخطب، ويغلق أبواب قلبه حين يراها تنتظر في طابور الخبز.

نكتب إليها من عالمٍ يرفع شعارات العدالة على الجدران ويقايضها في الأسواق، ويملأ نشراته عن حقوق الإنسان ويقصفها بالصمت كلّما اشتعلت النار في غزة.

نكتب إليها من ثقافةٍ أفرغت الكلمات من معناها حتى صار "الضمير" مصطلحا أدبيا لا أثر له في الميدان، ومن وعيٍ تعلّم التبرير.

نكتب إليها ونحن نجرّ خلفنا أذيال العار؛ نعلم أنّ أقلامنا التي تغمس مدادها في الحبر العاجز لا تقدر أن تمسح أثر رصاصة، وأنّ حروفنا التي تصطفّ على الورق لا تملك أن تقيَ طفلا من البرد، وأنّ كلماتنا مهما ازدانت بالبلاغة لا تُقيم بيتا هُدِم، ولا تعيد ابنا غاب.

ومع ذلك نكتب، لأنّ الخجل حين يبلغ حدّ الوعي يتحوّل إلى اعترافٍ، والاعتراف حين يُنطق بصدقٍ يصير توبة تُطهّرنا من غبار اللامبالاة، فنكتب لنضع المرآة أمام وجوهنا، ونرى كم انكمش فينا الإنسان، وكم تجمّدت الرحمة في عروقنا، وكم باعدت الرفاهية بيننا وبين جوهر وجودنا.

نكتب إليها لنستعيد القدرة على الألم بعد أن تعوّدنا على رؤية الخراب دون أن تضطرب ملامحنا، ولنستفزّ الضمير الذي سكنه الركود حتى صار السكون طبيعته، ولنستحضر السؤال الذي هربنا منه طويلا: أيّ معنى تبقّى لإنسانٍ يشاهد النار تأكل بيتا ويقول: لا شأن لي؟ وأيّة قيمة لوعيٍ يحفظ قصائد في الكرامة وينسى وجوه الجائعين؟ وأيّة روحٍ تلك التي تنام في حضن الأمان بينما عيونها تعلم أنّ هناك أمّا تبحث عن لقمةٍ لطفلها بين الركام؟

هذا الجيل الذي اختار الراحة طريقا والمشاهدة موقفا يقف اليوم أمام وجهها ليرى فضيحة ذاته، يدرك أنّ الصور التي عبرت الشاشات لم تكن نشرة أخبار، ولكنّها كانت وما تزال شهادة إدانة على جيلٍ امتلأت يده بالخيارات وامتلأ قلبه بالفراغ، جيلٍ عرف الحقّ وتأنّى في نصرته، ورأى المأساة فصاغها في تغريدة، وتحدّث عن البطولة وهو يلتقط لنفسه صورة في أمانه المترف.

نكتب لعلّ الكتابة تعيد إلينا بعض ما سُلب من صدقنا، ولعلّها توقظ فينا الخوف من الله تعالى قبل الخوف من التاريخ، وتعيد إلينا الإحساس بأنّ الشاهد الصامت شريكٌ في الجريمة، وأنّ السكوت عن المقتول انحيازٌ للقاتل، وأنّ من لم يُمسك يد الجائع فقد شارك في تجويعه، ومن لم يرفع صوته مع المقهورين فقد أضاف حجرا في جدار القهر.

يا امرأة من غزّة: نكتب إليك لأنّنا نعلم أنّك لم تُهزمي، وأنّ الهزيمة تسكن وجوهنا التي تعلّمت تبرير العجز بعبارات التحليل والواقعية، وجباهنا التي اعتادت الانحناء تحت سقف الخوف، وضمائرنا التي حفظت صمتها حتى صار الصمت لغتها الأمّ.

نكتب لنُقرّ بأنّنا خُنّا المعنى حين آثرنا الأمان على الموقف، وأنّنا أصبحنا عالة على دمكِ الذي يُطهّر وجه التاريخ من كذبة الإنسان المتحضر.

يا امرأة من غزّة: لقد صار وجودكِ نصّا مفتوحا على التاريخ، وكلُّ من يراكِ يُدرك أنّكِ تكتبين بدمكِ فصلا جديدا من الفلسفة؛ فلسفة لا تُدرّس في الجامعات ولكنّها تُكتب على جدران البيوت المهدّمة.

سلامٌ عليكِ يا امرأة صنعت من الجوع كرامة، ومن الفقد معنى، ومن الألم نورا، وسلامٌ علينا إن تعلّمنا من حضوركِ كيف نُعيد للإنسان صورته التي أضاعها.

x.com/muhammadkhm
0
التعليقات (0)

خبر عاجل