قضايا وآراء

حين يمتطي الثّائر صهوة الحُكم.. عن جموحِ الثّورة وقلقِ اغتيال الحريّة

محمد خير موسى
"الثورات الناجحة هي التي تحمل مشروعا قيميا مكتملا؛ فهي التي تحمل تصورا عن الحرية، وحدودها، ومسؤولياتها، ومفهوما للعدالة، ومكانة الفرد في الجماعة"- عربي21
"الثورات الناجحة هي التي تحمل مشروعا قيميا مكتملا؛ فهي التي تحمل تصورا عن الحرية، وحدودها، ومسؤولياتها، ومفهوما للعدالة، ومكانة الفرد في الجماعة"- عربي21
كل ثورة، في لحظة ميلادها، أشبه بفجر جديد يبزغ على مدينة أثخنتها ليالي القهر الطويلة؛ وعد يتفتّح في قلوب المنهكين بأن الظّلام ليس أبدا قدَرا، وأن الكرامة لا تموت مهما أُهينت، وأنّ الحقّ مهما توارى تحت الركام سيقوم ذات يوم شاهرا سيفه في وجه الظلم.

وفي تلك اللحظة، يولد الثّائر في ضمير الأمة بملامح الفجر؛ موعودا بالنور، مكلّلا بالأمل، محمولا على أكتاف الشهداء واليتامى والدّموع.

ولكن ما أقسى أن ترى هذا الفجر ينقلب إلى ليل حالك، وأن ترى ذلك الثائر الذي ألهب الأرواح بالنداء للحرية، يرتقي سلّم الحكم ليُعيد ذات السياط على ظهور شعبه، تحت شعار جديد وبثوب "وطني"، وهنا يقع خذلان الذّات للذّات، حين تُقتل الحرية باسمها، ويُغتال الحلم على يد من أيقظه.

حربٌ على أوثان النّفس
ما أقسى أن ترى هذا الفجر ينقلب إلى ليل حالك، وأن ترى ذلك الثائر الذي ألهب الأرواح بالنداء للحرية، يرتقي سلّم الحكم ليُعيد ذات السياط على ظهور شعبه، تحت شعار جديد وبثوب "وطني"، وهنا يقع خذلان الذّات للذّات، حين تُقتل الحرية باسمها، ويُغتال الحلم على يد من أيقظه

الثورة الحقّة ليست زفّة صاخبة إلى قصر الحاكم، ولا حشودا تتراقص في الميادين على وقع الشعارات؛ إنّها، في جوهرها، مواجهة مع أخطر خصم يسكن أعماقنا؛ أنفسنا!

إنّها، قبل أن تكون صراعا مع حاكم جائر أو نظام فاسد، صراع مع هوى متربّص في الصدور، وغرور متضخّم يتزيّا أحيانا بزيّ المبدأ.

إنها تحطيمٌ لأوثان النّفس قبل أوثان السّلطة، وكسرٌ لأغلال الشّهوات قبل كسر قيود السّجون، ومجابهةٌ لأعتى أصنام القلوب المتمثّلة في عبادة الذّات، وعبادة الزعيم، وعبودية الغضب.

ذلك أن الطّغيان لا يُصنع في القصور أولا، بل يُصنع في القلوب؛ وذلك حين يعلو في القلب صوت "أنا" على صوت "نحن"، وحين يتوهّم الإنسان أن العدل ما وافق هواه، وأن الحقّ مرهون بمصلحته، وحين يتحوّل الثأر إلى غاية تتنكّر لكل قيمة كانت تستدعيه في البداية.

كم من ثائر هدم صنم الطّاغية الذي جثم على رقاب شعبه، ليقيم في أعماقه صنما أشدّ هولا؛ نفسَه!

كم من ثائر حسب أنّه وحده ميزان الحق، وأنّ الثّورة قد منحته تفويضا أبديّا ليتصرّف في أعناق الناس وأحلامهم كما يشاء، وهنا تنكشف المأساة؛ حين يتلبّس الثّائر -من حيث لا يشعر ربّما- بذاتيّة الطّاغية في ثوب جديد، ويعيد إنتاج الظلم بمعايير مبتكرة وألفاظ براقة، ظنّا منه أن الدماء التي سُفكت في طريقه كفيلة بأن تبرّر كل جموحه، وأن الجماهير التي صفّقت له في الساحات ستظل صامتة أمام جبروته الجديد.

إن الثائر إذ يمتطي صهوة السلطة وهو يظن نفسه الحقّ المطلق، ينسى أن الثورة -في أصل معناها- تطهير، وتواضع، وخضوع دائم للمبدأ أمام اختبارات الهوى والسّلطان.

وكل ثائر لا يظلّ على الدوام مشفقا من نفسه، خائفا من سطوة كرسيه، محاسبا لها كل صباح، سرعان ما يصبح هو نفسه "الوثن" الذي كانت الثورة قد خرجت لتحطيمه.

مرآة النفوس العارية

في الثورة، يتجمّل الجميع بشعارات العدل والمساواة، وفي الثّورة تصير الأنانيّة خفيّة وسط هدير الجماهير، وتُمسح العيوب بشعارات الوطنيّة، ولكن ما إن يجلس الثائر على عرش الحكم، حتى تتعرّى النفوس، وتنكشف المعادن.

كم من ثائرٍ امتحنته الزّنازين فنجح، فلما امتحنه الكرسيّ سقط، وكم من ثائرٍ حمل السّيف ضدّ الطّغيان فأبدع وأجاد، فلما حمل أمانة المنصب جعل الحق خادما له، والسّيف مصلتا على رقاب شعبه.

الحكمُ امتحانٌ قلّ من ينجو منه؛ لأنه يختبر المرء لا في مواجهة الموت، بل في مواجهة نفسه، وفي مواجهة تحولاته العارية أمام الشّاشات.

الحرية التي تُشنق باسمها

الطّغيان الصّريح أهون على النّفوس من الطّغيان المموّه، لأنّ الأخير يحبط الأرواح، ويفسد الضّمائر، ويغتال اليقين بالقيم، وحين يتحوّل الثّائر المُعلَن إلى جلادٍ خفيّ، فإنّه لا يقتل الجسد فقط، بل يزرع في الأمة أنّ الثّورة وهْم، وأن الحريّة عبث، وأن العدل مستحيل.

أعظم خذلانٍ يرتكبه الثائر الجموح حين يستوي على عرش السلطة والمنصب أن يشنق الحريّة بحبالها، وأن يغتال الشّعب بشعارات الثّورة نفسها

إن أعظم خذلانٍ يرتكبه الثائر الجموح حين يستوي على عرش السلطة والمنصب أن يشنق الحريّة بحبالها، وأن يغتال الشّعب بشعارات الثّورة نفسها؛ ذلك أن الطّغيان حين يتلفّع بشعارات الثّائر، يجعل الناس يلعنون مبادئهم، ويحنّون إلى طغيان قديم كان صادقا وواضحا في طغيانه وفجوره.

الثائر الذي يخذلُ أمّته بعد أن صدّقته؛ لا يقتل حلمها فقط، بل يقتل يقينها بذاتها، ذلك أن النّاس حين ثاروا، إنّما ثاروا لأن في أعماقهم إيمانا بأنهم يستحقّون حياة أكرم، فإذا ما خذلهم ثائرُ الأمس حاكمُ اليوم، انهار ذلك الإيمان، واستكانوا لليأس، أو رضوا بعبودية جديدة، أو حنّوا إلى الطغيان الذي سبق، وهذا الجرح ليس كأيّ جرح؛ إنه جرح في الرّوح، وروحُ الشّعبِ إن انكسرت انكسر المستقبل كله.

لماذا يتحوّل الثائر إلى طاغية؟ تشريح مأساة الفكر والنفس

إنّ ظاهرة الثّائر الذي ينتهي به المآلُ طاغية ليست استثناء في ثورات الشّعوب، بل هي قاعدة تكرّرت في كثير من الثّورات الكبرى، وهذه الظاهرة ليست محض خذلانٍ أخلاقيّ؛ بل هي نتيجة لبنية نفسيّة وفكرية هشّة لم تتطهّر من عاهاتها قبل خوض معركة التحرير، إذ ما لم يبدأ التحرير من الداخل، فلن تثمر الثّورات الخارجيّة إلا استبدال سلاسل بأخرى، وصنم بصنم.

1- الثأر لا يصنع عدلا

الثائر الذي تتحرّك دوافعه من رغبة ثأرية محضة ضد عدوّه، سرعان ما يتحوّل هو ذاته إلى صورة من عدوه؛ لأنه لم يُربِّ نفسه على مبدأ مطلق، بل على خصومة شخصية.

فالعدل ليس انتصارا على خصم، بل انحيازٌ دائم للقيمة، حتى لو كان ضد نفسه أو جماعته، وحين يُختزل الصراع إلى "عدوّي ظالم وأنا على حق"، فإن المعادلة نفسها تعيد إنتاج نفسها في الاتجاه المعاكس بمجرد أن يتبدّل ميزان القوة.

2- غياب مشروع القيم

الثورات الناجحة هي التي تحمل مشروعا قيميا مكتملا؛ فهي التي تحمل تصورا عن الحرية، وحدودها، ومسؤولياتها، ومفهوما للعدالة، ومكانة الفرد في الجماعة.

أما الثورات التي تكتفي بالشّعارات الفضفاضة، فإنها تصبح قابلة لأن يملأها أيّ حاكم جديد بتأويلاته وهواه، فتتحول الحرية إلى وقاحة، والعدل إلى انتقام، وهنا تتجلّى كلمات الإمام الطاهر بن عاشور كمرآة لهذا الخذلان المعنوي حين قال:

"لا تجد لفظا تهواه النّفوس، وتهشّ لسماعه، وتستزيد من الحديث فيه -مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه- مثلَ لفظِ الحريّة. وما سبب ذلك التعلّق العام إلّا أن معظم من يسمعون هذا اللّفظ، أو ينطقون به يحملونه على محامل يخفّ محملها في نفوسهم. فالوقحُ يحسب الوقاحة حريّة، فيخفّ عنده ما ينكرُه النّاس من وقاحته، والجريء الفاتكُ ينمي صنيعه إليها، فيجد من ذلك مبررا لجرأته، ومحبّ الثّورة يعد الحرية مسوّغا لدعوته، والمفتون في اعتقاده يدافع النّاقمين عليه بأنه حرّ العقيدة إلى غير هؤلاء.. فيا لله لهذا المعنى الحسن ماذا لقيَ من المحن، وماذا عُدِل به عن خير سنن!!".

فما أسهل أن يرفع الثائر شعار الحرية وهو لم يتعلم بعد أن الحرية ليست حقا بلا ضابط، بل مسؤولية أمام الضمير والحق العام.

3- السلطة بوصفها إغراء وجوديا

في عمق النفس البشرية ميل إلى السيطرة والانفراد، فهو يعيش ما يمكن تسميته بـ"نزعة الهيمنة"، وكل من لم يروّض هذه النزعة تربية ووعيا، تتحوّل الثورة عنده إلى فرصة لتحقيق هذه الغريزة البدائية؛ أن يصير هو المتحكّم، لا أن يُقيم نظاما عادلا.

والثورة، للأسف، تتيح لهذا الميل بيئة خصبة؛ فالجماهير منصاعة ومُقبلةٌ وهاتفةٌ بعد أن تحررّت من نير الاستبداد، والشرعية مستمدّة من دماء الشهداء، والخصوم منكسرون؛ فإذا هو الثائر يجد نفسه إلها صغيرا، يطلب من الناس الولاء له، ويعدّ نقده كفرا بالوطن والثورة.

4- غياب الوعي بالتاريخ

من لم يتعلّم من دورات التاريخ أن الطغيان فكرة قبل أن يكون شخصا، لن يدرك أن الطاغية يسكن في كل نفس إنسانية غير محصنة بالقيم؛ فالطغيان لا يُقتل بقتل الطاغية، بل بقتل الفكرة التي أنجبته.

وما دام الثائر لم يتصالح مع هذه الفكرة، ولم يقف عند حدّ العدل، فإنه يستبطن من حيث لا يشعر فكرة الطغيان، ويعيد إحياءها في جسد آخر.

5- الحرية بوصفها عبئا

الحرية، بخلاف ما يتصوّره كثيرون، ليست وضعا مريحا للضّمير، بل عبء ثقيل يقتضي أن يحمّل الإنسان نفسه مسؤولية مصيره وأفعاله أمام الله والناس.

ومن لم يتعوّد على حمل هذا العبء، يهرب منه إلى شكل آخر من أشكال القمع؛ فيصبح هو القامع الجديد باسم الحرية نفسها.

فليست مأساة الثائر أنه خذل المعنى فحسب، بل مأساته أنه لم يتربّ على معنى العدل، ولا أدرك أن الثورة ليست غاية، ولا تعلّم أن السلطة اختبار أعسر من السّجن، ولا هيّأ قلبه لقبول عبء الحرية، ولا وعى أن الطغيان فكرة تعيش فينا ما لم نقتلها أولا في أنفسنا.

6- جهل ثمن الأمانة واستسهال الغنيمة

الحكم أمانة لا غنيمة، ومن جهِل حقيقتها خرّ صريع غروره؛ فمن لم يُدرك أن الحكم تكليف ينوء بثقله الضمير، وحقٌّ للناس لا جائزة للمنتصرين، أقبل عليه كغنيمة تُنتزع وثأرٍ يُستوفى، لا كأمانة يُستبقى بها العدل وتصان بها الكرامات؛ فإذا جلس على العرش موهوما بأنه ملك استحقه بحدّ السيف، وجد نفسه في رمال متحركة، يتزلزل عند أول امتحان؛ وتغوص قدماه في الرّمال، ويتغشّى قلبه دخان الغرور، فلا يعود يبصر الناسَ شركاء في القضية، بل رعايا في سلطانه، ولا يرى نفسه خادما للأمة، بل سيدا عليها، وينسى أن السّلطة امتحان للضّمائر، وأنّ من ولج أبوابها بغير زادٍ من تقوى وعدل، عُدّ من الهالكين، وكتب اسمه في سِفر المستبدّين.

7- الخوف من المصير؛ حين يصبح الثّائر الحاكمُ سجينا لصورة نفسه في الآخرين

منذ اللحظة التي يعتلي فيها الثّائرُ السّلطة، يسكنه طيف المصير الذي رآه لغيره من الثّوار الذين وصلوا إلى الحكم، فقد رأى بأمّ عينيه كيف أسقط من قبله من الثوار الذين انتقلوا من عباءة الثورة إلى مقام الحكم، ومن هنا ينبع رعبه الدفين في أن يلقى المصير ذاته، وهذا الرعب يصوغ سلوكه على صورة خوف دائم؛ فيبالغ في إحكام قبضته على الجيش والأجهزة الأمنية، وتوجّسه من أقرب حلفائه، فيطرد كل من يشمّ فيهم رائحة طموح، ويقمع كل من يرفع رأسه، ولو بهمسة، خشية أن تكون تلك الهمسة بذرة انقلاب يدبّرُ له في الخفاء كما دبّرَ لغيره من قريب؛ فهو يستبدّ لا لأنه قوي، بل لأنه خائف، ويشرع بالبطش لا لأنه مطمئن، بل لأنه يترقب الطعنة ذاتها التي طُعن بها مَن قبله.

8- افتتان النّفس بوهج القوّة وزهو الجماهير

حين يغرق الثّائر في تصفيق الجموع، ينسى أنه واحدٌ منهم، فينصب لنفسه صنما جديدا ويطليه بذهب الثورة، ويتضخّم في داخله وهْم المخلّص الأوحد، ويستسلم لزيف المنافقين وهمسات البطانات، حتى يرى الناس أدواتٍ له لا أصحاب قضية.

ا التاريخ مرارا أن الطغيان لا ينتهي حين يُخلع الطاغية، بل حين تنهار الفكرة التي كانت تبرّره، حين يستعيد الناس وعيهم بمبادئهم ويكفّون عن عبادة الأفراد، وما أشد خيانة الثائر لنفسه ولفكرته الثوريّة حين يلبس هو نفسه تلك الفكرة الملعونة، فيصير القيد الجديد الذي تشقى به أمته، بعد أن ظنّته المفتاح

تتورّم نفسه مع كل هتاف، ويصدّق كذب المديح على أنه قدرٌ إلهي، حتى يغدو في عينه الحق ما يراه هو، والباطل ما يخالفه.

إنها مأساة من ينسى أن الجماهير ترفع وتهدم، وأن قوّة الحاكم تُستمد من العدل لا من الصّخَب، فيغدو أسير صورته في أعينهم، ويعبد زهوه كما يعبدونه، وهكذا يتحوّل من ثائر على الطّغيان إلى طاغية جديد، يختنق تحت وهمٍ صاغته الجماهير بيديها.

الحرية أولا وأبدا.. لا جموح ولا عبودية

لم تكن مأساة الشعوب يوما في أن ترفع طاغية إلى مقام القداسة، بقدر ما كانت في أنها استمرأت أن ترفع الأشخاص فوق المبادئ، وتسلّم لهم صكوك الثّقة بيضاء، كأنها تتبرّأ من مسؤوليّة المصير، ولم تكن كارثة الثاّئر الجَمُوح في أن يسيء التقدير، بقدر ما كانت في يقينه الوهمي بأن دماء الناس التي حملته إلى السلطة قد صارت له رخصة لمصادرة كراماتهم باسم "الضرورة" و"المصلحة العليا".

ذلك أن العدل، في جوهره، معنى مطلق لا يقبل القسمة ولا التّجزئة، وأن الحريّة لا تحتمل التّأجيل إلى إشعار آخر، لأن تأجيلها موت بطيء لروح الأمة، وكل ثورة لا تعبر بالشعب إلى إنسان أكرم وأوعى، تتحوّل مع الزمن إلى لعنة جديدة، ربما أشد فتكا من لعنة الطاغية الذي أطاحت به.

لقد دلّنا التاريخ مرارا أن الطغيان لا ينتهي حين يُخلع الطاغية، بل حين تنهار الفكرة التي كانت تبرّره، حين يستعيد الناس وعيهم بمبادئهم ويكفّون عن عبادة الأفراد، وما أشد خيانة الثائر لنفسه ولفكرته الثوريّة حين يلبس هو نفسه تلك الفكرة الملعونة، فيصير القيد الجديد الذي تشقى به أمته، بعد أن ظنّته المفتاح.

x.com/muhammadkhm
التعليقات (0)