ذهب
الفقهاء إلى القول بجواز
الجمع في حالات متعددة مع خلافٍ بينهم في بعضها؛ ومن ذلك اتِّفاقهم
على جمع الصَّلوات في مزدلفة، واختلافهم في جواز جمع الصلوات في السفر والمطر والبرد
والثلج والمرض والخوف.
ولكنَّ
المدقِّق في الأحوال السابقة يرى أنَّ الفقهاء القائلين بجواز الجمع بين الصلوات حصروه
في الأحوال السَّابقة، وعدُّوها رخَصا مقدّرة لا يجوز أن تتعدَّى إلى غيرها، فيدخل
جمع الصَّلوات في
المظاهرات والاعتصامات تحت ما يمكن تسميته "الجمع بغير سبب"
أو "الجمع لحاجة". فماذا قال الفقهاء في ذلك؟
أولا:
أقوال الفقهاء:
انقسم
الفقهاء في حكم هذه المسألة إلى قولين:
القول
الأوَّل: عدمُ جوازِ الجمعِ بين الصَّلوات لغير الأعذار المذكورة وهو قول المالكيَّة والشافعيَّة،
مع تفصيلٍ بينهم في الجمع بين الصلوات لهذه الأعذار.
القول
الثَّاني: جواز الجمع بغير سبب إذا دعت الحاجة إلى ذلك ما لم تُتَّخَذ عادة، وهذا قول
الحنابلة وأشهب من المالكية، وابن المنذر من الشافعية وابن سيرين وابن شبرمة.
جاء في
القوانين
الفقهية: "يجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء لأسبابٍ، وهي
بعرفة والمزدلفة اتفاقا وذلك سنةٌ، وللسفر والمطر خلافا لأبي حنيفة فيهما، وللمرض خلافا
لهما، وللخوف بخلافٍ في المذهب، وأجاز الظاهرية وأشهب الجمع بغير سبب".
وجاء في
بداية المجتهد: "وأمّا الجمع في الحضر لغير عذرٍ فإنَّ مالكا وأكثر الفقهاء لا
يجيزونه، وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر وأشهب من أصحاب مالك".
وجاء في
المجموع: "في مذاهبهم في الجمع في الحضر بلا خوفٍ ولا سفرٍ ولا مطر ولا مرض، مذهبنا
ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد والجمهور أنّه لا يجوز، وحكى ابن المنذر عن طائفةٍ جوازَه
بلا سبب، قال: وجوّزه ابن سيرين لحاجةٍ، أو ما لم يتخذه عادة".
وجاء في
المغني: "ولا يجوز الجمع لغير من ذكرنا، وقال ابن شبرمة: يجوز إذا كانت حاجة أو
شيء، ما لم يتخذه عادة".
لكنهم
-أي الحنابلة- أجازوا الجمع للمرضع بسبب المشقة؛ جاء في كشاف القناع: "الْحَالُ
الثَّالِثَةُ (لِمُرْضِعٍ لِمَشَقَّةِ كَثْرَةِ النَّجَاسَةِ) أَيْ مَشَقَّةِ تَطْهِيرِهَا
لِكُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: هِيَ كَمَرِيضٍ".
ثانيا:
عرض الأدلّة:
أولا:
دليل القائلين بمنع
الصلاة لغير سبب:
عن عبد
الله رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلى صلاة إلاّ
لميقاتها إلاّ صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذٍ قبل ميقاتها".
وجه الاستدلال:
يقول النووي:
"وقد يحتج أصحاب أبي حنيفة بهذا الحديث على منع الجمع بين الصَّلاتين في السَّفر،
لأنَّ ابن مسعود من ملازمي النبيِّ، وقد أخبر أنّه ما رآه يجمع إلّا في هذه المسألة،
ومذهبنا ومذهب الجمهور جواز الجمع في جميع الأسفار المباحة التي يجوز فيها القصر. والجواب
عن هذا الحديث أنّه مفهومٌ، وهم لا يقولون به ونحن نقول بالمفهوم؛ ولكن إذا عارضه منطوق
قدَّمناه على المفهوم، وقد تظاهرت الأحاديث الصَّحيحة بجواز الجمع، ثمَّ هو متروك الظَّاهر
بالإجماع في صلاتيّ الظُّهر والعصر بعرفات، والله أعلم".
إنني أذهب إلى القول بجوازِ جمع الصَّلاة في المظاهراتِ والاعتصاماتِ وهو داخل تحت الجمع لحاجة ولرفع الحرج؛ لأنَّ أداءُ الصَّلاة في وقتها خلال المظاهرة والاعتصام يؤدِّي إلى مشقَّةٍ لدى النَّاس كما هو ملاحظٌ في الواقع
ثانيا:
دليل القائلين بجواز الجمع بين الصَّلوات بلا سبب:
استدلَّ
القائلون بذلك بحديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "جمع رسول الله صلى الله
عليه وسلّم بين الظُّهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوفٍ ولا مطر،
فقيل لابن عبّاس: ما أرادَ بذلك؟ قال: أراد أن لا يُحرج أمَّته".
وجه الاستدلال:
هذا الحديث
ظاهرٌ في جواز الجمع بين الصَّلوات بلا سبب، وقد بيّن ابن عباس ذلك ببيان الحكمة وهي
رفع الحرج.
قال الإمام
النووي في تعليقه على الحديث: "ذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة
لمن لا يتَّخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطّابي عن القفال
والشَّامي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث،
واختاره ابن المنذر، ويؤيّده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يُحرج أُمَّته، فلم يعلّله
بمرضٍ ولا غيره، والله أعلم".
هذا وقد
تأوّله القائلون بمنع الجمع بين الصَّلاتين بغير سبب بأنَّه محمول على الأعذار من المشقَّة
أو على الجمع الصُّوري.
جاء في
المغني: "وحديث ابن عبَّاس حملناه على حالةِ المرض، ويجوزُ أن يتناول من عليه
مشقة كالمرضع والشَّيخ الضَّعيف وأشباههما ممَّن عليه مشقَّة في ترك الجمع، ويحتمل
أنّه صلَّى الأولى في آخر وقتها والثَّانية في أوَّل وقتها، فإنَّ عمرُ بن دينار روى
هذا الحديث عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: قال عمرو: قلت لجابر: أبا الشَّعثاء أظنه
أخّر الظُّهر وعجّل العصر، وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء، قال: وأنا أظنُّ ذلك".
وقد فصّل
الحافظ ابن حجر التَّأويلات الواردة على الحديث مناقشا بعضها بقوله: وذهب الجمهور إلى
أنَّ الجمع لغير عذرٍ لا يجوز، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة؛ منها: أنَّ الجمع المذكور
كان للمرض، وقوّاه النووي. قال الحافظ: وفيه نظر لأنّه لو كان جمعه صلى الله عليه
وسلّم لعارض المرض لما صلّى معه إلاّ من له نحو ذلك العذر، والظَّاهر أنَّه صلى
الله عليه وسلم جمع بأصحابه، وقد صرَّح بذلك ابن عبَّاس في روايته، ومنها: أنَّ الجمع
المذكور كان لعُذْرٍ المطر، قال النَّووي: وهو ضعيفٌ بالرِّواية الأُخرى من غير خوفٍ
ولا مطر، ومنها: أنّه كان في غيمٍ فصلَّى الظهر، ثمَّ انكشف الغيم، وبان أنَّ وقت العصر
دخل فصلاّها، واحتمال فيه في المغرب والعشاء، ومنها: أنَّ الجمع المذكور صوريّ بأن
يكون أخَّر الظُّهر لآخر وقتها وعجَّل العصر في أوّل وقتها. قال النَّووي: هذا احتمالٌ
ضعيفٌ أو باطلٌ لأنَّه مخالف للظَّاهر مخالفة لا تُحتمل.
وواضح
من كلام ابن قدامة وابن حجر -رحمهما الله تعالى- أنَّ التَّأويلات التي ساقها الجمهور
على هذا الحديث مردودة؛ بل ردّوها وأظهروا عدم صلاحيَّتها، وقالوا بقوّة العمل بظاهر
هذا الحديث كما قال النَّووي: "ويؤيِّده ظاهر قول ابن عبَّاس أراد أن لا يُحرِجَ
أُمَّته فلم يعلِّله بمرضٍ ولا غيره والله أعلم".
وبناء
عليه، فإنني أذهب إلى القول بجوازِ جمع الصَّلاة في المظاهراتِ والاعتصاماتِ وهو
داخل تحت الجمع لحاجة ولرفع الحرج؛ لأنَّ أداءُ الصَّلاة في وقتها خلال المظاهرة
والاعتصام يؤدِّي إلى مشقَّةٍ لدى النَّاس كما هو ملاحظٌ في الواقع، والله أجلُّ وأعلم.
x.com/muhammadkhm