في زمن
الجراح النازفة يُختبر الحياء قبل أن يُختبر البيان، ويُفتضح الصّمت قبل أن يُفتضح
الموقف، وفي مشهد
غزة؛ حيث العظام تقرع أسنان
الجوع، والدّماء تصبغ الركام، والنساء
تحرس أنين أطفالهن العطشى، يخرج علينا بعض مَن تزيّنوا بالعمائم لينفقوا ما بقي لهم
من حياء في خدمة السّلطان، فيلقّنون المقهورين درسا باردا في ضرورة الصّمت، ويلومون
الضحايا على أنينهم، ويبشّرون المظلومين بفضائل الانكسار ومثالب الغضب، في خطابٍ باردٍ
كجوع الليل الطويل؛ بلا مروءة؛ وبلا حياء.
الحياء
المقلوب في خرائب الكلمات
وفي خضم
نحيب أطفال غزة، وأنين مجوّعيها، وصوت الملثّم الذي أيقظ الغافلين ليذكّرهم بمخاصمة
الحكام ورؤساء الأحزاب والعلماء والدّعاة نصرة للمستضعفين، خرج
الجفري بكلماته التي
يظنّها حكمة رصينة، فإذا هيَ حياءٌ مقلوب ووعيٌ منكوس؛ فقد أنكر على الأمة غضبها، وزجر
المستضعفين عن المطالبة بكرامتهم، ونهر النّاصحين عن معاتبة الطغاة، ليصوّر لهم "الدّولة"
غاية عليا تتقدّم على الإنسان، وغاية بذاتها تبرّر استمرار الظلم، حتى لو كان ثمنها
دماء الصغار وأرواح المجوّعين.
إن ما
تفوّه به الجفري لم يكن عثرة عابرة تبرّرها زحمة الانفعال، ولا نزوة لسانٍ أفلت في
غفلة من العقل؛ بل كان إفصاحا مكشوفا عن بنية فكرية مستقرّة، غُذّيت طويلا على موائد
السّلطان حتى تشبّعت به، وتشكّلت على مقاسه، وامتلأت بهواجسه أكثر ممّا امتلأت بهموم
الأمة.
ما تفوّه به الجفري لم يكن عثرة عابرة تبرّرها زحمة الانفعال، ولا نزوة لسانٍ أفلت في غفلة من العقل؛ بل كان إفصاحا مكشوفا عن بنية فكرية مستقرّة، غُذّيت طويلا على موائد السّلطان حتى تشبّعت به، وتشكّلت على مقاسه، وامتلأت بهواجسه أكثر ممّا امتلأت بهموم الأمة
لقد أفرزت
هذه البنية فكرا راكدا يختزل الأمّة إلى قطيع منقاد، يرى في الصمت غاية الحكمة، وفي
الذلّ عنوان الاستقرار، وفي الخضوع أعلى مراتب "الوعي"، حتى لو كان ثمن هذا
الصمت أرواح أطفالٍ نُحرت تجويعا تحت الحصار!
لقد انقلبت
عنده الموازين حتى غدا يرى المقهورين "فتنة" تهدد الدّولة، والغاضبين معاولَ
هدمٍ للوطن، والنّاصحين وقود خرابٍ لنظامٍ هشٍّ آيل للسقوط، وفي المقابل؛ كان بصره
كليلا عن الطغيان الجاثم على الصّدور، وصوته وديعا أمام بطش السلطان، ولسانه ليّنا
في حضرة المترفين.
لقد بات
يبارك بقاء الهياكل السياسية ولو كانت خاوية على عروشها، ويرى في صمودها نصرا ولو انهارت
في جوهرها الأخلاقي والإنساني.
قال: "كل
توظيف لمعاناة إخوتنا الفلسطينيين للتحريض على هدم ما تبقى لنا من دول هو خيانة لمعاناة
أهل فلسطين". لقد صوّر "
الدولة" صنما يعلو على الإنسان، وهيكلا مقدسا
تُذبح من أجله القيم والمبادئ والكرامة، متناسيا أن الدولة إن لم تكن نصيرا للمستضعفين
فهي أداة لقهرهم، وإن لم تكن حصنا للإنسان فهي قفصٌ له، وأن الشريعة جاءت لتجعل الدولة
وسيلة لحفظ الإنسان لا مقصلة على عنقه.
لقد ربط
مصير الأمة بخرائب أنظمة عاجزة مهزومة، تخلّت عن فلسطين، وتنكرت لليمن، وتواطأت على
العراق والسودان وسوريا وليبيا، ثم عاد يبكي على أطلالها بحجة "التّماسك"،
وكأن التّماسك في دوام الذّل، وكأن الحكمة في صيانة القهر!!
وقال مستنكرا:
"وكأن سقوط خمس دول لا يكفي للاعتبار، وكأن اجتياح العدو للبنان وسوريا لم يستصرخ
ضميركم ويثنكم عن أوهامكم!".
ويا للعجب!
ألا يعلم أن تلك الدول لم تسقط يوم انتفض المستضعفون، بل سقطت يوم عزمت الأنظمة التي
يتباكى على بقاياها، على تدميرها بأيديها وإحراق أوطانها بأموالها وسلاحها وأجهزتها،
وحين قررّت أن تحرق الأرض تحت أقدام شعوبها حتى لا ترى يوما تشرق فيه شمس الحرية؟ فهل
الاعتبار أن نبقى أسرى في زنازين الطغيان، نرضى بالركام ونحمد الاستبداد على أنقاض
الوطن؟ أم أن الاعتبار الحقّ أن نكسر القيد، ونستعيد أوطاننا من بين أنياب الطّغاة،
لنصنع شيئا يستحق أن يُسمى وطنا؟
ثم أراد
أن يكمّل مأساة منطقه فقال: "عدد الجوعى في اليمن منذ أحداث الثّورات أضعاف عدد
الجائعين في فلسطين، ومات في مجاعات الصومال عشرات أضعاف من مات جوعا في فلسطين"،
وكأنما الجوع عنده أرقام تنافسية في سجل الخسائر، لا جرح إنساني واحد سببه الجائرون
الذين يريد أن نحمي عروشهم!
إن من
يبرر الصمت عن الجلاد بحجة كثرة الجوعى، إنما يضاعف مأساتهم، لأن الجوع ثمرة ظلم لا
ثمرة حرية، والجائع ليس عدوا بل ضحيّة، والسكوت ليس علاجا بل جريمة.
ثم توّج
كلماته بخاتمة تليق بحيائه المقلوب: "كل بلد تسقط دولته يصبح مستباحا من كل الطامعين،
ويحتاج عقودا كي يعود إلى المستوى الأدنى من التماسك؛ فاستقيموا يرحمكم الله".
وكأن بقاء
الدولة المستبدة تماسُك، وكأنّ الحياة تحت نعال الطّغاة كرامة، وكأنّ حفظ الهياكل أولى
من إنقاذ الإنسان.
أما علم
أن "الدّولة" إذا أضاعت مقاصدها، وانحازت للجلّاد على الضحيّة، وضيّقت على
الجائعين لتوسّع على المترفين، فإن بقاءها جريمةٌ كبرى؟ أما علم أن الدّولة وسيلة لا
غاية، وأن العدل لا يقاس بعمر الأنظمة بل بقدر ما تحفظ من كرامات البشر؟
إن "الدّولة"
التي يدافع عنها الجفري ليست أكثر من قفص صدئ، يستبقي فيه الحاكم طيوره لينتزع منها
ريشها متى شاء، بينما الوطن الحقيقي هو حيث يشعر الإنسان أن له حقا أن يصرخ، وحقا أن
يغضب، وحقا أن يثور حين يُهان.
أما الحياء
الذي يفاخر به، فهو حياء مشوّه، يلين في حضرة المترفين ويشتدّ على المقهورين؛ حياءٌ
يقف على باب الطاغية مطأطئا، ثم يقف على صدر الجائع موبّخا.
الحياء
الحق أن تستحي من الله إذ ترى عباده جوعى فتغضب لهم، أن تستحي من ضميرك وأنت ترى أطفال
غزة يئنون فلا تصمت؛ وأن تقول كلمة الحقّ عند سلطان جائر، لا أن تعضد سلطانه على رقاب
المستضعفين.
غزة اليوم مرآة كونية، كشفت كل زيفٍ تخفّى خلف العمائم والبلاغة، وجعلت الجميع على حدّ سؤال الوجود؛ أأنت شوكة في حلق الجلاد، أم عكّاز في يده؟
أما نحن
فنقول: إن "الدولة" التي تصير سوطا في يد الجلاد ليست وطنا بل سجنا، والحياد
بين الجلاد والمظلوم جريمة، وأشرف للإنسان أن يعيش متمردا على القهر، من أن يعيش خانعا
في ظلالها خادما للظّالمين.
حياء العمائم..
بين مقام الحقّ ومداهنة السلطان
الحياء
ليس زينة لفظية يتجمّل بها الواعظ في مواسم المجاملات؛ بل هو مقام أخلاقي رفيع، ترتعد
له الأرواح خشية أن يراها الله ساكتة عن نصرة المظلوم أو شاهدة زورٍ في بلاط الجلاد.
أما المداهنة؛
فهي أن تصير العمامة قناعا لجرائم السلطة، وأن يتحول العلم إلى سوط على ظهور الجائعين،
وأن يلبس الظلم ثياب الضرورة ليُؤنَّب المقهورون ويُبرَّأ الجلاد.
هكذا تحدّث
الجفري عن "الدولة" كأنّها قدس الأقداس، وخلط -عن وعيٍ مداهن- بين "بقاء
الدولة" وبقاء النّظام السياسيّ"، متناسيا أن هذه الدول سقطت منذ ارتضت أن
تكون سوطا على شعوبها وسجادة تحت أقدام الغرباء؛ فالدولة التي ترتعد أمام الأجنبي وتنقضّ
على أبنائها ليست وطنا، بل قفصٌ يفاخر حرّاسه بأن الأقفال ما تزال تعمل.
غزة اليوم
مرآة كونية، كشفت كل زيفٍ تخفّى خلف العمائم والبلاغة، وجعلت الجميع على حدّ سؤال الوجود؛
أأنت شوكة في حلق الجلاد، أم عكّاز في يده؟ فلقد فضحت غزة كل عمامةٍ أنيقة تحوّلت عكّازا
للجلاد، وكل لسانٍ تزيّن بالمداهنة حتى غدا سوطا على الجائعين؛ فبئست العمامة وبئس
العكّاز.
x.com/muhammadkhm