قضايا وآراء

رجب.. استعادة معنى الزمن وهندسة البوصلة الأخلاقية للمؤمن

محمد خير موسى
"شهر رجب مدخل للتهيئة وشعبان مساحة للإعداد ورمضان ذروة للتزكية، ثم تأتي أشهر الحج لربط العبادة بالحركة والإيمان بالعمران في مسار تراكمي طويل النفس"- جيتي
"شهر رجب مدخل للتهيئة وشعبان مساحة للإعداد ورمضان ذروة للتزكية، ثم تأتي أشهر الحج لربط العبادة بالحركة والإيمان بالعمران في مسار تراكمي طويل النفس"- جيتي
شارك الخبر
يدخل شهر رجب على العقل الإسلامي بوصفه لحظة استدعاء للمعنى الكامن في الزمن وليسَ مجرد انتقال عددي بين الشهور؛ فالزمن في التصور الإسلامي كيان مقصود محكوم بمنظومة قيم ومشحون بدلالات أخلاقية، وقد اختار الله تعالى لبعض أجزائه مرتبة الحرمة ليكون فيها الإنسان أكثر وعيا بحركته وأشد محاسبة لنفسه وأدق التزاما بميزان السلوك؛ ومن هنا يغدو رجب علامة تذكير بأن الأيام في الإسلام ليست فراغا تتحرك فيه الأفعال بلا معيار، وإنما سياق تربوي يُعاد فيه ضبط الاتجاه ومراجعة المسار.

وحين أعلن النبي صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع أن "الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"؛ كان ذلك إعلانا تأسيسيا يعيد للزمان ميزانه الرباني ويضع حدا نهائيا لمحاولات الإنسان العبث بالمقدّس وفق أهوائه، فقد أغلق بهذا البيان الباب أمام ممارسات الجاهلية التي كانت تُخضع الأشهر الحرم لمنطق المصلحة والقوة؛ فتؤخّر وتحلّل وتحرّم بحسب الحاجة والهوى والعصبية وليس بحسب الحق.

قداسة الأيام والمواقيت نابعة من اختيار الله تعالى لها وليس من أعراف الناس ولا من حساباتهم الظرفية، وبهذا التثبيت تتأسس قاعدة مركزية مفادها أن مرجعية الزمن تعود إلى الوحي

وجاء هذا الإعلان النبوي ليقرر أن الزمن في التصور الإسلامي ليس وعاء محايدا تُعاد هندسته بإرادة البشر، ولكنّه بنية مقدّرة مرتبطة بالحكمة الإلهية، وأن قداسة الأيام والمواقيت نابعة من اختيار الله تعالى لها وليس من أعراف الناس ولا من حساباتهم الظرفية، وبهذا التثبيت تتأسس قاعدة مركزية مفادها أن مرجعية الزمن تعود إلى الوحي وأن العبث به صورة من صور اختلال الميزان.

ومفهوم الشهر الحرام في جوهره يتجاوز كونه حكما فقهيا متعلقا بالقتال أو تغليظ الديات ليتحوّل إلى إعلان عن سيادة أخلاقية للزمن، فالخطاب القرآني حين يقول: "فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ" يستدعي وعيا مضاعفا بالمسؤولية ويضع الفعل الأخلاقي تحت مجهر أشد دقة في زمن ارتفعت فيه درجة الحرمة، وهنا تتجلّى قاعدة فكرية بالغة العمق، وهي أنّ القيم ثابتة في أصلها غير أن وزن الأفعال يتضاعف بتضاعف السياق.

وعلى المستوى الحضاري تكشف الأشهر الحرم عن تصور إسلامي بالغ الرشد لإدارة القوة؛ فالتحريم الأصلي للقتال فيها يعكس نزوعا إلى ضبط الصراع ومنع تحوّله إلى حالة استنزاف دائم مع الإبقاء على حق ردّ العدوان حماية للحياة، وهكذا يتشكّل نموذج أخلاقي مبكر يوازن بين حفظ النفس ومنع الاستباحة ويقدّم تصورا متقدما لما يمكن تسميته أخلاقيات القوة المنضبطة.

كما أن اتصال رجب وبقية الأشهر الحرم بمواسم العبادات الكبرى يكشف عن هندسة زمنية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان على مراحل؛ فشهر رجب مدخل للتهيئة وشعبان مساحة للإعداد ورمضان ذروة للتزكية،
التحدي الأكبر الذي يواجه مفهوم الشهر الحرام في الواقع المعاصر يتمثل في تفريغه من أثره حين يتحول إلى معلومة ذهنية وليس إلى ميزانٍ سلوكيّ
ثم تأتي أشهر الحج لربط العبادة بالحركة والإيمان بالعمران في مسار تراكمي طويل النفس؛ يرفض الصدمات الموسمية ويؤسس للاستقامة المتدرجة.

إن التحدي الأكبر الذي يواجه مفهوم الشهر الحرام في الواقع المعاصر يتمثل في تفريغه من أثره حين يتحول إلى معلومة ذهنية وليس إلى ميزانٍ سلوكيّ؛ فالنسيء الذي ذمّه القرآن لم يكن مجرد تغيير في ترتيب الشهور، ولكنّه كان انقلابا هادئا على مرجعية الوحي، وكل عبث حديث بالثوابت الأخلاقية تحت ذرائع الواقع والضرورة يعدّ امتدادا لذلك المنطق وإن اختلفت صوره وأدواته.

إن رجب لا يستدعي طقسا محدثا ولا عبادة مخصوصة بقدر ما يستدعي يقظة في الضمير واستعادة لفكرة أن الله تعالى يعظّم ما يشاء وأن تعظيم، المقدّس شرط بقاء المعنى في الحياة، ولذلك جاء قول قتادة جامعا حين قرر أن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء وأن على العباد تعظيم ما عظّمه الله عزّ وجلّ.

وهكذا يقف رجب شاهدا على أن الإسلام يمنح الزمن قيمته بوصفه وعاء للعبودية، وأن الشهر الحرام يحرّر الحرية من العبث ويوجهها نحو المسؤولية؛ فمن أحسن الوقوف عند حدوده فقد تعلّم الوقوف عند حدود الله تعالى في سائر عمره ومن استهان بحرمة الزمان تهاونت لديه حرمة الإنسان.

x.com/muhammadkhm
التعليقات (0)

خبر عاجل