قضايا وآراء

حاجة سوريا إلى منهاج "العقيدة المقارن"

محمد خير موسى
"منهاج العقيدة المقارن يُمكن أن يكون المنصة التي تلتقي فيها مدارس أهل السنة على كلمةٍ سواء"- جيتي
"منهاج العقيدة المقارن يُمكن أن يكون المنصة التي تلتقي فيها مدارس أهل السنة على كلمةٍ سواء"- جيتي
حين غزا الصليبيون بلاد الشام، كان المجتمع الإسلامي يعيش حالة من التّمزق الداخلي، تغذّيها العصبية الجاهلية للمذاهب الفقهية، حتى صارت المساجد ميادين للمعارك العبثيّة؛ ففي الجامع الأموي وُضعت أربعة محاريب فيُصلّي كل مذهبٍ خلف إمامه، وفي المسجد الحرام تعاقبت الصلوات في الساحة نفسها، وصار النّاس يتساءلون عن حكم زواج الشّافعيّة من حنفيّ، وغدت مسألة مثل نقض الوضوء بلمس المرأة معركة تتشابك فيها الأيدي وتراق الدّماء.

في تلك المرحلة الحساسة، أدرك صلاح الدين الأيوبي -الشّافعيّ الأشعريّ- أنّ معركة التحرير لا تُخاض بالسيف وحده، وأن النصر الخارجي يحتاج إلى إصلاحٍ فكريّ داخلي يداوي أمراض الفكر قبل جراح الميدان؛ فتحالفَ مع العلامة ابن قدامة المقدسي -الحنبليّ الأثريّ- في مواجهة العصبية الجاهليّة الفقهية التي تُهدّد الأمة أكثر مما تهددها الجيوش الغازية.

ألّف ابن قدامة كتاب "المغني"، وهو من أبدع ما جادت به قرائح العلماء في الفقه المقارن، ويعرض فيه أقوال الأئمة في المسألة الواحدة، ويُبرز أدلتهم، ثم يناقشها بعقلٍ راجح وروح راقية تقوم على احترام الأقوال المختلفة. وكتاب "المغني" كتاب فقهي في مبناه الظّاهر، غير أن غايته فكريّة إصلاحيّة؛ فهو مشروع يسعى إلى إيصال رسالة واضحة بأنّ الخلاف الفقهيّ بين المذاهب الفقهيّة هو خلاف الجسد الواحد في الفروع وقد اتُفق على الأصول، وأنّ مساحات الاتفاق أوسع بكثير من مساحات الاختلاف، وأنّ الخلاف بين المذاهب الفقهيّة هو خلاف يدعونا إلى احترام الفقهاء جميعا دون التعصب الجاهليّ لأحدهم ومهاجمة الآخرين؛ فهو يعمل على تهذيب العقل العلمي، وإعادة بناء منطق النظر في الخلاف على أساس علمي راشد يحرّر طالب العلم من أسر التقديس غير الواعي للمذهب، ويقرّبه من روح الاجتهاد السليم.

تحتاج سوريا اليوم إلى "منهاج العقيدة المقارن" الذي يُعالج أمراض الانغلاق واحتكار الحق والعصبيّة الجاهليّة للمدرسة الاعتقاديّة، ويُنشئ جيلا من طلاب العلم يُبصر الخلاف على حقيقته، فيراه تنوّعا مشروعا يثري المدارك ولا يكون سببا للفرقة والانقسام

ومع هذا المنهج تولدت نهضة فكرية أعادت للعقل المسلم توازنه، فرُبي الفقيه على تقدير الاجتهاد المختلف، وتهيأ الطالب لأن ينظر في المسائل بعين تزن الدليل وتحترم الاختلاف وتقدّر الفقهاء جميعا وتجلّ المذاهب المختلفة.

من العصبية الفقهية إلى العصبية الاعتقادية

واليوم -وبعد قرونٍ من ذلك الإصلاح- تعود الحالة الفكرية في سوريا لتواجه بعد سقوط النّظام بروزا وظهورا لبوادر التشاكُس السُّنّي السُّنّي، الذي تسري في عروقه روح العصبية الجاهليّة القديمة ولكن في ثوبٍ جديد، لا يرفع راية الفقه هذه المرة بل راية العقيدة؛ فقد بدأ يبرز في الواقع الديني والشرعي، سواء في الواقعيّ المسجدي أو الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، سلوكيّات تدلّ على احتكار الحق، ومحاولة اختزال الإيمان في مذهبٍ واحد، ورمي المخالف بالضلال، حتى صار الخلاف في الفروع الاعتقادية خلافا في الأصول، وتحولت الظنيات إلى قطعيات، والمحتملات إلى يقينيات، والمباحث العلمية إلى معارك هوية.

إنّها عصبيّة جاهلية جديدة تُفرّق بين أبناء المدرسة الواحدة، وتزرع الشك في نيّات العاملين، وتحوّل التنوّع في الفهم إلى تناقضٍ في الولاء، فيتراجع العقل الجمعي من ساحة التعاون إلى ساحة الاتهام.

نحو منهاج العقيدة المقارن

كما احتاجت الأمة في زمن صلاح الدين إلى مشروعٍ فكريّ إصلاحيّ كان إحدى أدواته منهاجٍ فقهيٍّ مقارن يُعيد التوازن إلى الفكر ويهذّب الخلاف، تحتاج سوريا اليوم إلى "منهاج العقيدة المقارن" الذي يُعالج أمراض الانغلاق واحتكار الحق والعصبيّة الجاهليّة للمدرسة الاعتقاديّة، ويُنشئ جيلا من طلاب العلم يُبصر الخلاف على حقيقته، فيراه تنوّعا مشروعا يثري المدارك ولا يكون سببا للفرقة والانقسام.

هذا المنهاج المقترَح يُراد له أن يجمع بين دفّتيه أقوال المدارس الاعتقادية الكبرى داخل إطار أهل السُّنّة والجماعة، فيعرض بتجردٍ وموضوعيةٍ مناهج الأشاعرة والماتريدية وأهل الأثر أ(هل الحديث)، ويقدّم أقوالهم ومفاهيمهم في أبواب الاعتقاد على نحوٍ مقارنٍ متكامل، يبيّن الأصول التي اتفقوا عليها، ويفتح باب الفهم الهادئ لما اختلفوا فيه، فيعرض الأقوال ويعرض دليل كلّ فريق وحواراتهم بروح أخويّة راقية، بعيدا عن التعصّب المقيت والإطلاقات التوصيفيّة العدوانيّة والازدرائيّة للمخالف.

الغاية منه ليست ترجيح مدرسةٍ على أخرى، بل بناء وعيٍ علميٍّ راشدٍ يدرك أنّ مسائل الاعتقاد ليست كلها من نوعٍ واحد، وأنّ الأصول الاعتقادية الكبرى محلُّ اتفاقٍ جامع، أمّا ما تفرّع عنها من مسائل النظر والعبارة والتأويل وغيرها، فهي من الفروع الاعتقادية السائغة التي تتعدد فيها وجهات النظر ولا تُنقض بها الأواصر.

إنّ منهاج العقيدة المقارن بهذا التصور لا يُقصي أحدا من دائرة السنّة، بل يُعيد الجميع إلى مائدة البحث المنضبط، ويُعلّم طالب العلم أن ميزان النظر في الخلاف هو المقصد لا العصبية، وأنّ وحدة العقيدة لا تعني وحدة الصياغة الكلامية، وأنّ سعة الاتفاق في الأصول تكفي لبناء مشروع إيماني متين يُعلي من شأن الفهم ويُطهر القلب من الغلوّ والخصومة.

وبذلك يتحول التعليم العقدي من ميدان الاصطفاف إلى ميدان التحقيق والإنصاف، وتُستعاد الروح العلمية التي جمعت بين علماء الأمة الكبار حين جعلوا من الاختلاف في الوسائل سبيلا إلى توسيع مدارك الفهم وإثراء الأفكار، وليس وسيلة إلى تضييق دوائر الإيمان.

حين تنهض سوريا لتصوغ منهاج العقيدة المقارن، تكون قد بدأت مسيرة إتمام وجهها الثاني من الثورة؛ إذ تُتبع تحرير الجغرافيا بتحرير الفكرة، وتستكمل نصرها على الاستبداد السياسي بانتصارٍ أبهى على الاستبداد الفكري، وتُعلن ميلاد ثورتها الأجمل: ثورة العقل على العصبية، وثورة العلم على الجهل

إنّ الدعوة إلى منهاج العقيدة المقارن ليست ترفا علميا ولا استجابة ظرفية، وإنما هي ضرورة شرعية وفكرية تمليها حاجة الأمة إلى استعادة توازنها العقدي ووحدتها المعرفية؛ فالمسوّغ الشرعي ينبع من أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله الجامع، ومن سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم في جمع الكلمة وإصلاح ذات البين، ومن إدراك أن العلم حين يُدار بالعقل والعدل والحبّ يُطفئ جذوة الفتنة قبل أن تتقد، ويُحوّل الخلاف إلى ميدان تكاملٍ لا صراع.

أما المسوّغ الفكري فيقوم على وعيٍ عميق بطبيعة المرحلة التي تمرّ بها سوريا وسائر ديار الإسلام، حيث تتنازعها خطابات التشظّي العقدي والتنازع المذهبي، ويتهددها خطر تحويل التمايزات العلمية إلى صدامات هُوية؛ فكان لزاما أن يُبنى مشروعٌ علميٌّ موحِّدٌ، يُعيد رسم خريطة الاعتقاد في الوعي العام على أساس علمٍ رصينٍ جامعٍ يربط المدارس العقدية بمرجعيتها الكبرى: الوحي

إنّ منهاج العقيدة المقارن يُمكن أن يكون المنصة التي تلتقي فيها مدارس أهل السنة على كلمةٍ سواء، تجمع الأشاعرة والماتريدية وأهل الأثر في مائدة علمٍ؛ لا إقصاء فيها لأحد ولا احتكار فيها للحقّ من أحد، فيتربّى الطالب على أن التنوع داخل دائرة الحق سعة، وأن الاجتماع على الأصول أصل، وأنّ الخلاف في الفروع علامة ثراء فكريّ لا علامة انقسام عموديّ.

وعندئذٍ تُستعاد في سوريا روحُها العلمية، وتنهض رسالتها التاريخية من جديد: أن تكون منارة للوحدة العلمية، ومهدا لتصالح العقل والإيمان، وجسرا بين مدارس الأمة في زمنٍ تزداد فيه الحاجة إلى عقلٍ رشيدٍ يجمع ولا يفرّق، ويهدي ولا يُقصي، ويُبصِر في الخلاف رحمة تُثمر العقل الشرعيّ الجمعي وحدة في القلوب وإن تشاكست الأفكار.

فحين تنهض سوريا لتصوغ منهاج العقيدة المقارن، تكون قد بدأت مسيرة إتمام وجهها الثاني من الثورة؛ إذ تُتبع تحرير الجغرافيا بتحرير الفكرة، وتستكمل نصرها على الاستبداد السياسي بانتصارٍ أبهى على الاستبداد الفكري، وتُعلن ميلاد ثورتها الأجمل: ثورة العقل على العصبية، وثورة العلم على الجهل، وإحياء رسالة ابن قدامة وصلاح الدين في عصرٍ جديد.

x.com/muhammadkhm
التعليقات (0)

خبر عاجل