قضايا وآراء

قراءة تحليلية في نتائج انتخابات مجلس الشعب السوري

ياسر القادري
"الانتخابات لم تكن انتخابات شعبية عامة، بل كانت وفق نموذج الهيئات الناخبة التي تم تشكيلها"- سانا
"الانتخابات لم تكن انتخابات شعبية عامة، بل كانت وفق نموذج الهيئات الناخبة التي تم تشكيلها"- سانا
أظهرت نتائج انتخابات مجلس الشعب السوري جملة من المعطيات السياسية والاجتماعية التي كشفت عن ملامح عامة لطريقة تعاطي السوريين مع أول تجربة انتخابية محدودة منذ أكثر من ستة عقود، ويمكن من خلال تحليل نتائج الانتخابات فهم ديناميات السلوك الاجتماعي ما بعد التحرير؛ التي تتحكم بمزاج الناخب وأولوياته.

في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الانتخابات لم تكن انتخابات شعبية عامة، بل كانت وفق نموذج الهيئات الناخبة التي تم تشكيلها ابتداء بناء على التزكيات، ثم تنافس المترشحون لعضوية المجلس ضمن إطار الهيئة الناخبة، وهو النموذج الهجين الأكثر فاعلية في ظل غياب البنية التحتية للانتخابات على مستوى المعلومات الإحصائية؛ بسبب التغييرات الكبيرة التي طرأت خلال سنوات الثورة على بيانات السجلات المدنية وعناوين إقامة السكان وغير ذلك.

الانتخابات لم تكن انتخابات شعبية عامة، بل كانت وفق نموذج الهيئات الناخبة التي تم تشكيلها ابتداء بناء على التزكيات، ثم تنافس المترشحون لعضوية المجلس ضمن إطار الهيئة الناخبة، وهو النموذج الهجين الأكثر فاعلية في ظل غياب البنية التحتية للانتخابات

ويمكن قراءة النتائج النهائية لهذه الانتخابات في سياقات اجتماعية وثورية ضمن ثلاثة نماذج سيتناول المقال تحليلها بصورة إجمالية:

النموذج الأول: نموذج انتخابات دمشق؛ حيث فازت الكتل التي انبثقت من رحم جماعات دعوية في مقدمتها "جماعة زيد"، وأحياء ثورية بارزة في مقدمتها جوبر والقابون، ضمن تحالفات اجتماعية ودينية وثورية عززت بالمحصلة تواجد الشخصيات الثورية في المشهد، في حين فشلت قائمة الكفاءات الدمشقية من الحصول على أي مقعد، إلا مقعدا ينتمي صاحبة إلى القائمة وإلى جماعة زيد في آنٍ معا.

في هذا المشهد يمكن فهم دور الجماعات الدينية وأثر الانتشار الشعبي في المجتمع الدمشقي على أنه عنصر أساسي في خوض العملية السياسية، وأن الكفاءة السياسية ليست كافية إذا لم تعضدها قوة شعبية وامتداد اجتماعي وديني!

وبغض النظر عما إذا كان بيان "جماعة زيد" بعدم المشاركة في انتخابات مجلس الشعب قرارا تمت مخالفته، أو ترددا تم حسمه، أو تشتيتا -كما يزعم البعض- لكن المؤكد أن المرشحين استفادوا من العمق الشعبي للجماعة المعمّرة في المجتمع الدمشقي، وهذا يُظهر صعوبة منافسة الجماعات الدينية الممتدة حين تقرر خوض الانتخابات. حتى في السياسة التركية -على سبيل المثال- لطالما لعبت الجماعات الدينية دورا محوريا في حسم الانتخابات، وهو ما يفسر اهتمام الأحزاب التركية بكسب ودّ الجماعات الدينية عند كل استحقاق انتخابي.

سيتعاظم هذا المشهد فيما لو تم سنّ قانون الأحزاب السياسية في سوريا مستقبلا، ويحتدم التنافس بصورة أوضح لا سيما إذا تحوّلت الانتخابات إلى نموذج الانتخابات الشعبية العامة؛ حتى القيادة السورية التي ستخوض غالبا حينها الانتخابات بحزب خاص ستضطر إلى إعادة ترتيب الأولويات لتركز على الخدمات والتنمية للاقتراب وملامسة الحالة الشعبية.

أما النموذج الثاني فهو نموذج انتخابات ريف دمشق، حيث نجحت الكفاءات الثورية بالوصول إلى المجلس بأغلبية واضحة من خلال التفاهمات التي اشتملت على وعي متقدّم، قلّل عنصر المنافسة وغلّب عنصر التوافق ضمن الهيئات الانتخابية، وهو ما جعل النتائج محسومة بصورة كبيرة حتى قبل خوض الاستحقاق الانتخابي.

البرامج السياسية التي ركّز عليها المرشحون في هذه المرحلة بسيطة ومتوقعة، وذلك لوضوح الملفات ذات الأولوية وفي مقدمتها العدالة الانتقالية والخدمات الحياتية الأساسية، لكنها مع الوقت ستغدو أكثر تعقيدا مع اتضاح الحاجات الواسعة للشعب

في دائرة دوما مثلا، توافق أعضاء الهيئة الناخبة على ثلاثة مرشحين، وكذلك الأمر في دائرة الغوطة الشرقية. أما في دائر داريا فقد ظهر نموذج التوافق في صورة التنافس الشريف، حيث تنافس الصديقان المترشحان قبل أن يبارك الفائز منهما للآخر، فلا تدري مَن الفائز ومن الخاسر بينهما! كأنما يعتقدان أنهما فائزان بكل الأحوال..

في مقابل نموذج التوافق يبرز نموذج انتخابات بانياس، حيث لم يتمكن الأعضاء الذين ينتمون لخلفيات دينية وثورية -وهم أكثرية- من التوافق على مرشح، فتشتت أصواتهم وتمكّن مرشح من خلفية غير ثورية من الفوز بالمقعد المخصص، وهذا درس مهم للمستقبل في طريقة إدارة التوافقات والتحالفات قبل الوصول لصندوق الاقتراع.

من الجدير ذكره أن البرامج السياسية التي ركّز عليها المرشحون في هذه المرحلة بسيطة ومتوقعة، وذلك لوضوح الملفات ذات الأولوية وفي مقدمتها العدالة الانتقالية والخدمات الحياتية الأساسية، لكنها مع الوقت ستغدو أكثر تعقيدا مع اتضاح الحاجات الواسعة للشعب الذي خرج لتوّه من حرب طويلة على مستوى الواقع المعيشي والخدمات العامة والأمن الداخلي، وكذلك بالنسبة للأزمات الأساسية كالفقر والبطالة واستعادة الحقوق المدنية وغيرها، قبل أن تبرز قضايا السياسة الخارجية والملفات الإقليمية الأخرى..

بكل الأحوال فقد كانت التجربة السورية الأولى تجربة متقدمة في بلدٍ خرج لتوّه من استبداد مزمن وحرب طاحنة، وستكون هذه التجربة هي باكورة العمل السياسي وبداية مشوار إعادة بناء الدولة واستعادة سوريا من عمق التاريخ والجغرافيا.
التعليقات (0)

خبر عاجل