يعتبر البعض أن
دور
المجلس الإسلامي السوري قد انتهى بسقوط نظام الأسد في
سوريا، ووجب حلّه ودمجه
في هياكل الدولة الجديدة! والحقيقة أن هذه الخطوة مخاطرةٌ بدور العلماء، وربما
تكون في سياق تكريس مركزية الدولة، وهيمنتِها على دور المجتمع ومنظماته في عملية
البناء بعد التحرير..
وقبل أن تتخذ من
هذه المقدمة موقفا مسبقا، أبيّن لك أنني لم أكن يوما عضوا في المجلس الإسلامي
السوري، وسبق أن انتقدت بعضَ
بياناته ومواقفه لا سيما المتعلقة بهجومه المتكرر على هيئة تحرير الشام والرئيس
أحمد الشرع وحكومة الإنقاذ، وكنت أرى أنهم لا يتركون بذلك الخطاب شعرة معاوية،
لكنني في الوقت نفسه كنت أرى أن المشكلة ليست في فكرة المجلس ووظيفته بل في
اختزاله وبعض مواقفه.
لقد شكّل المجلس
الإسلامي السوري تجربة فريدة منذ تأسيسه؛ حيث أسهم في تعزيز الثوابت الثورية لدى
المجتمع السوري، ونجح في إيجاد جسم علمائي بديل عن الأجسام المزورة التي استعملها
النظام البائد آنذاك لإضفاء الشرعية على حكمه وتخدير شرائح اجتماعية عن الثورة
عليه، من خلال استخدام المؤسسة الدينية وبعض العمائم الفارغة، ونجح المجلس في مواكبة
العديد من المحطات الثورية من خلال البيانات التوجيهية والفتاوى المتعلقة بنوازل
الثورة.. كما نجح المجلس في جمع مختلف التيارات الإسلامية في هيكل تنسيقي واحد،
فاستمع المشايخ لبعضهم وتقارب الأتباع وهدأت المناكفات إلى حدٍّ كبير، وكان لفضيلة
الشيخ أسامة الرفاعي حفظه الله والشيخ سرور زين العابدين رحمه الله وغيرهما دورٌ
كبيرٌ في صياغة هذا المشهد..
شكّل المجلس الإسلامي السوري تجربة فريدة منذ تأسيسه؛ حيث أسهم في تعزيز الثوابت الثورية لدى المجتمع السوري، ونجح في إيجاد جسم علمائي بديل عن الأجسام المزورة التي استعملها النظام البائد آنذاك لإضفاء الشرعية على حكمه وتخدير شرائح اجتماعية عن الثورة عليه، من خلال استخدام المؤسسة الدينية وبعض العمائم الفارغة
وبين يدي قرار
حلّ المجلس يحقّ لنا أن نتساءل ابتداء: لماذا يكون للمكونات السورية المختلفة مرجعياتها
الدينية دون اعتراضٍ أو ملامةٍ ثم يُحرم المسلمون من وجود
مرجعية شرعية مستقلة
لهم؟! ولا يقولنَّ قائل: لكن الدولة صارت لنا! فنقول: على الرغم من كون دين الدولة
الرسمي هو الإسلام إلا أنّها تسوس الناس بالعدل على اختلاف مللهم ونحلهم، وهي
تمثّل للجميع مرجعية وطنية وإدارية وسياسية، ولكل مكونٍ مرجعيته الشرعية! ولا
يقولنَّ قائل أيضا: إن الإفتاء والأوقاف من مؤسسات الدولة وهي مؤسسات إسلامية!
فنقول: صحيحٌ؛ لكن وظائف المرجعية الشرعية المستقلة أوسع من هذا، فهي تضبط مساحة
العمل الإسلامي بين التيارات المختلفة، وترفد الدولة بالعلماء والمفتين والمصلحين
والقضاة، وتدير الحركة العلمية بمختلف صورها، وتمارس دورها في صيانة المجتمع وتوعيته
وتقويته، وتستنفر المجتمع والأمة في النوازل، وتملأ الفراغ عند الأزمات..
عبر تاريخنا
الإسلامي كان لاستقلال العلماء عن السلطة دورٌ كبيرٌ في ترسيخ ثقة الناس بالعلماء
ومرجعية الشريعة، ودورٌ إيجابيٌ في مساندة الدولة عند الأزمات، ومراقبة أدائها
والحسبة عليها، وبيان الموقف الشرعي دون مسايرةٍ أو ضغطٍ من السلطة الحاكمة،
فاستقلالُ مؤسسات العلماء يضفي عليها حيوية في الأداء ووضوحا في البيان وانعتاقا
من التبعية، إذ كيف يُتصور لمؤسسة تابعة لدولاب الدولة ويتقاضى أفرادها رواتبهم من
الدولة أن تمتلك كامل الحرية في بيان مواقفها وفتاويها؟! وليس هذا طعنا مسبقا
بالعاملين في سلك الدولة بل هو توصيف نفسي منطقي للواقع.
أقول: الثوارُ
الذين أخذوا بالعزائم في مرحلة الثورة والكفاح ضد الظالمين، سيضطرون عما قريب إلى
الأخذ بالرخص عندما تضطرهم السياسة والتزامات بناء الدولة إلى أضيق الطرق، وعندها لا
بدّ من أن يقوم الدور الشرعي المستقل بتقويم الأداء وتصويب المسار، وذلك حتى لا ينحرف
الساسة عن سبيل الشريعة ولا يدفعهم الحرص على البناء إلى الوقوع في مزالق الانحراف
أو مظاهر الاستبداد.
ولْنتخَيل أنَّ
الدولة اضطرت لموقفٍ لا يرتضيه أهل العلم ضمن المؤسسات الدينية في الدولة، عندها
سنكون أمام واحدٍ من أربعة سيناريوهات ليس من بينها السكوت عن
بيان الأحكام وموقف الشريعة؛ لأن وظيفة العلماء أن يبيّنوا للناس أحكام دينهم ولا
يكتمونها:
الأول؛ أن يتخذ
العلماء الموقف الذي يَدينون الله به، لكنه
لا يتفق مع توجهات الدولة واجتهاداتها، فعندها ستضطر الدولة إلى التدخل في بنية
المؤسسة وإقصاء المخالفين بهدف جعلِ المؤسسة الرسمية أكثرَ مواءمة مع توجهات
الدولة العامة.. إن لم تفعل هذا في الموقف الأول فستفعله غالبا في مواقف لاحقة،
وهذا طبيعي لأنها لن تترك مؤسسة تملك قرار العزل والتعيين فيها تسير في غير
اختياراتها السياسية. ونتيجة ذلك أن تخسر الدولة الناصحين وتستبدلهم بالمسايرين،
وتتراجع أدوار العلماء الذين خالفوا بمواقفهم الشرعية اختيارات الدولة السياسية!
الثاني؛ أن يرفض
العلماءُ شكلية مواقعهم، فينسحبوا بهدوء، وهنا سيرجعون إلى مجتمعهم فرادى محدودي
التأثير، وربما جرى تصنيفهم كمعارضين للدولة وتم التضييق عليهم، وسيملأ مواقعهم
السابقة من يتجرأ على ما تورّعوا عنه، ونتيجة ذلك بعد أن تتكرر هذه الوقائع
والمواقف أن يكون العلماء بلا جسم مرجعي مؤثر في مقابل مؤسسة رسمية مبررة لكل
تصرفات الدولة! وهذا من أكبر المفاسد التي يُضعف شرعية الدولة، ويشتِّت المجتمع، ويضيّع
دور العلماء.
أما السيناريو
الثالث؛ فهو أن تلتزم الدولة بما يصدر عن مؤسسة العلماء من الفتاوى والمواقف
الشرعية وتمتثل له حتى لو خالف توجهاتها، وذلك مع وضوح صلاحيات المؤسسة الدينية
الرسمية وضمان ألا تتغوّل بدورها على صلاحيات السلطة السياسية. وهذا مع ندرة حصوله
عمليا في التاريخ إلا أنّه أفضل الخيارات التي تعبّر عن حقيقة دور العلماء كما
تعبّر عن رشد السلطة السياسية في الوقت نفسه، وهي حالة طبيعية وتدافع إيجابي داخل
الدولة، وهذه
المدافَعة وإنْ بدت معرقلة لأداء الدولة إلا أنها مدافَعةٌ تحمل في محصلتها الخير
وتعصم من الفساد. وفي الحديث: "إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزيرَ صدقٍ
إن نسيَ ذكَّره وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله غير ذلكَ جعل له وزيرَ سوءٍ إن نسيَ
لم يذكِّرهُ وإن ذكر لم يُعنه". وبالتالي، فترك أهل العلم أن يبينوا ويسددوا
دون ضغطٍ أو إحراجٍ هو في حد ذاته خير للحاكم والمحكوم، وعامل حيوية وإحياء للأمة.
والعجيب أن السيناريوهات
الثلاثة هذه قد حصلت مع الشيخ عز الدين بن عبد السلام؛ فلما تعاون حاكم دمشق الملك
الصالح إسماعيل مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، مقابل أن يعطيَ
الصليبيين مدنا وحصونا، والسماح لهم بشراء السلاح، صدع العز بحرمة ذلك وأن الحاكم
لا يملك أصلا ما يتنازل عنه، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين لأنهم سيقتلون
به إخواننا في مصر، عندها قام الملك بعزله من كل مناصبه، ليسلم للدولة خيارها
السياسي دون تشويش من العلماء الرسميين، وهذا هو السيناريو الأول! ولما وصل العز
بن عبد السلام إلى مصر قلَّده حاكمها نجم الدين أيوب منصب كبير القضاة، فقَبِل
شريطة ألا يتدخل الحاكم في شؤون القضاء، لكن الشيخ وبعد عدة مواقف وجد أن كلامه لا
يُسمع وأن منصبه شكليّ، فبادر إلى خلع نفسه، وهذا هو السيناريو الثاني! ولما اجتاح
التتار بلاد المسلمين ووصلوا تخوم مصر، أراد المظفر قطز أن يأخذ المال من الناس
ليتمكن من تمويل جيشه لمواجهة زحف التتار، لكن العزَّ أفتى بجواز أخذ ما يعين من
أموال الناس للاستعانة به على جهاد التتار بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن
يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب، وأن يقتصر الجند على سلاحهم
ومركوبهم ويتساووا مع العامة، وعلى الرغم من اضطراب العسكر واستياء السلطان إلا أن
الدولة في المحصلة استجابت لفتوى سلطان العلماء، ومثل ذلك حصل في
فتوى بيع الأمراء
المماليك، وهذا هو السيناريو الثالث!
أما السيناريو الرابع
والذي يمكن أن تؤول إليه الأمور عند وقوع الخيارَين الأوَّلين، فهو مسايرة الدولة
في جميع اختياراتها بالبحث عن المخارج الشرعية المعلَّلة بالضرورة والحاجة ودفع
المفاسد وإزالة الضرر وارتكاب أهون الشرين.. وهذا مع أنه قد يكون اجتهادا سائغا في
بعض النوازل، إلا أنّ هذا المسار مع الوقت سيعزز الأخطاء الاجتهادية ولا سيما عند توهّم
المصالح والخلط بين مصالح الأمة العامة ومصالح الدولة الخاصة، وسيبهّت قيم الدين
السامية ومبادئه الرفيعة وأحكامه الثابتة في نفوس الناس، ويجعل السلطة السياسية حاكمة
للفتوى والموقف الشرعي بصورة تامة! ولا يخفى ما في هذا المآل من المفاسد التي
تُفسد دور العالم وتقيّد وظيفته الشرعية.
تقوية الدولة لا يشترط فيه التخلي عن مرجعية العلماء المستقلة، ثم إن مصلحة تقوية الدولة لا تتعارض مع مصلحة الحفاظ على استقلال العلماء، فالجمع بين المصلحتين ممكن. كما أنّ هذا الاستقلال لمؤسسة العلماء لا يشكّل أي خطرٍ على الدولة بل هو صمامُ أمان لها
وليس هذا سوء ظنّ
بالدولة ومؤسساتها، ولكن من شأن المؤسسة الرسمية أن تكون مسايرة للدولة التي تنتمي
إليها، فهي تواكب الذين يمارسون السياسة ويتعرّضون لإكراهاتها ويضطرون لأضيق الطرق
فيها، فتجوّز لهم أن يأخذوا بالرخص، ويختاروا من الأحكام أيسرها، وربما رجّحوا
الأقوال المرجوحة لمرجح شرعي، فهم يرتكبون أهون الشرين وأقل المفسدتين. وبصرف
النظر عن صواب ما يعتمدونه -فتلك مساحةٌ اجتهاديةٌ- إلا أن دور العلماء وأئمة
الدين أن يبينوا للناس الدين ولا يكتمونه، فيتبنون المواقف التي تحفظ على الناس
عقائدهم وشعائرهم وقيمهم، ولا يضطرون لتعليل أو تبرير ممارسات الدولة عند كل واقعة
جديدة.. وهذا في حقيقته دورٌ تكامليٌ بين المؤسسة العلمائية المرجعية والمؤسسات
الدينية في الدولة.
وقد يقال: إنَّ
تقوية الدولة الناشئة من خلال الاندماج في بنيتها ومؤسساتها مصلحةٌ راجحةٌ، وهذا
صحيح، لكن تقوية الدولة لا يشترط فيه التخلي عن مرجعية العلماء المستقلة، ثم إن مصلحة
تقوية الدولة لا تتعارض مع مصلحة الحفاظ على استقلال العلماء، فالجمع بين
المصلحتين ممكن. كما أنّ هذا الاستقلال لمؤسسة العلماء لا يشكّل أي خطرٍ على
الدولة بل هو صمامُ أمان لها، وبوصلةٌ لضبط توجهاتها واستراتيجياتها، وظهيرٌ قويٌ
لها في أزماتها المستقبلية. وأحسب لو أنَّ المجلس عالج مخاوف الدولة ومآخذها عليه،
وبادر باستيعاب التيارات الإسلامية غير الممثلة فيه وإعطائها مساحتها المستحقة،
وفي المقابل لو أن الدولة طالبت بتحديد وتحرير مهام المجلس ووظيفته، وتوسيعه
وتطوير بنيته ليشمل بقية أطياف العمل الإسلامي مع الحفاظ على استقلاليته، لكان
أنفع لها والله أعلم.
عموما؛ قد اجتهد
أمناء المجلس بقرار حلّه استجابة لطلب الدولة -كما نصّ بيانهم- فصار جزءا من
التاريخ السوري، لكنَّ هذا لا يمنع من دراسة هذه التجربة بنجاحاتها وإخفاقاتها،
والسعي إلى جمع العلماء وطلاب العلم تحت مظلة علمية مستقلة، تُمكِّنُ أهل العلم من
ممارسة وظائفهم الشرعية، وذلك بالتنسيق مع الدولة بما يحقق استقلال المؤسسة العلمائية
وتكاملها في الوقت نفسه مع مؤسسات الدولة الرسمية.