قضايا وآراء

الحلم الكردي إلى زمن آخر

غازي دحمان
"المشروع تضارب مع الرؤية الأمريكية لهندسة المنطقة التي باتت تميل إلى تفضيل التعاطي مع تحالفات كبيرة تستطيع من خلالها تأمين مصالحها"- جيتي
"المشروع تضارب مع الرؤية الأمريكية لهندسة المنطقة التي باتت تميل إلى تفضيل التعاطي مع تحالفات كبيرة تستطيع من خلالها تأمين مصالحها"- جيتي
مرّة أخرى، في سياق محاولات دؤوبة عبر العصر الحديث، يتأجل حلم الأكراد بالاستقلال والحصول على كيان، ومرة جديدة تعاندهم الأقدار أشواقهم ليشكلوا كيانهم الجديد مثل بقية شعوب المنطقة، لتبقى تجربة كردستان العراق متفردة ووحيدة، فصورة حرق أسلحة حزب العمال الكردستاني، وتصريحات المبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس باراك عن ضرورة تكيّف الكرد في سوريا مع الواقع الجديد، تؤكد نهاية مرحلة نهوض الحلم الكردي.

خانتهم الأولويات الدولية والتوازنات الإقليمية رغم أنهم قدموا ملف أوراق اعتماد مكتمل المواصفات للحصول على حق الاستقلال، أو أقله إدارة شؤون مناطقهم بشكل مستقل، شكلوا جيوشا منظمّة وأجنحة سياسية وإدارية عصرية، وصورة لنمط حياة تقارب الصورة الغربية، ولا سيما في مسألة التعامل مع المرأة، لكن رغم ذلك لم يتبنّهم طرف دولي وازن ولم يستطيعوا الحصول على وعد بلفور كردي يضمن ويغطي تأسيس الكيان الذي اكتملت أركانه من شعب وأرض وسلطة، وتتوقف عملية إظهاره على الاعتراف السياسي.

الظروف الدولية تبلورت إلى حد بعيد، بعد إجراء تقييمات جديدة انتهت إلى أن الخيار الافضل هو عدم العبث بالتركيبة القائمة في المنطقة، ودعم الكيانات الموجودة، إذا ارادت أمريكا أن تنتهي من صداع المنطقة وتتفرغ لقضايا الصراع العالمي

بين العقد الماضي واليوم شهدت السياسات الدولية تحولات عديدة، وتشكلت معطيات جديدة إقليمية ودولية مهدت لمعادلات سياسية جديدة يتوقع أن تؤثر بشكل كبير على الأوضاع السياسية والاقتصادية والمجتمعية في المنطقة، وعلى الكرد ضمن هذا السياق. ويمكن قراءة تخلي حزب العمال الكردستاني عن السلاح في هذا الإطار، وكذلك الضغط الأمريكي على الإدارة الذاتية في سوريا، عبر تصريحات مندوبها توماس باراك التي تحمل كل يوم ضغوطا جديدة على الكرد، تضعف موقفهم التفاوضي وتقلل خياراتهم وتحصرها في خيار وحيد، حسب باراك، والمتمثل في طريق دمشق.

والواضح أن الظروف الدولية تبلورت إلى حد بعيد، بعد إجراء تقييمات جديدة انتهت إلى أن الخيار الافضل هو عدم العبث بالتركيبة القائمة في المنطقة، ودعم الكيانات الموجودة، إذا ارادت أمريكا أن تنتهي من صداع المنطقة وتتفرغ لقضايا الصراع العالمي، إذ لم يعد لواشنطن طاقات فائضة تصرفها في ساحات أخرى عبر تبنيها لمشاريع إشكالية وغير ذات جدوى في الوقت الذي تتسارع قوة الصين صعودا.

ثم إن أمريكا تشتغل على مقلب كامل وليس جزء صغير منه، مصالحها وروابطها في المنطقة تضمنها دول بحجم تركيا والسعودية، وهذه تتعارض مصالحها بالمطلق مع أفكار من نوع الفيدرالية واللا مركزية التي قد تكون مهددات لترتيباتها وتراكيبها الداخلية.

بعد سقوط نظام الأسد، سعت الإدارة الذاتية إلى بناء مجال فوضوي في سوريا يشكل بيئة حاضنة لمشروع تشكيل دويلات مستقلة في جنوب سوريا وغربها، أو في أقل الأحوال داعمة للا مركزية، وهو المشروع الذي ساندته إسرائيل في إطار مشروعها إعادة تشكيل الشرق الأوسط، أو حتى صناعة الشرق الأوسط على هيئة جديدة، يكون بمثابة ترجمة لانتصاراتها الساحقة، ويبدأ من تقسيم سوريا إلى كيانات أصغر تمثل مكوناتها الطائفية والعرقية.

غير أن هذا المشروع تضارب مع الرؤية الأمريكية لهندسة المنطقة التي باتت تميل إلى تفضيل التعاطي مع تحالفات كبيرة تستطيع من خلالها تأمين مصالحها، عبر توفير مساحات استقرار تحت إشراف قوى إقليمية، ترتد فوائدها على أمريكا وتجنبها تكاليف بشرية ومالية. ثم إن الشرق الأوسط يعيش في حالة فوضى قصوى ولا يمكن إضافة عناصر جديدة لهذه الفوضى، بعد أن ثبت أنه كلما زادت مساحات الفوضى كلما كانت هناك إمكانية لدخول قوى منافسة لأمريكا على المنطقة. أما اسرائيل، فقد أثبتت التجربة أنها تستطيع تحطيم وإسقاط أنظمة وتدمير منظمات وفصائل، لكنها لا تستطيع هندسة واقع جديد في المنطقة لأن هذه العملية أكبر من قدراتها وإمكانياتها، بدليل ما فعلته في غزة وعدم قدرتها على إيجاد استراتيجية خروج من المأزق الذي وقعت به.

يدرك الكرد، في سوريا والإقليم، أن الفرصة قد فاتت لتحقيق ما خططوا له وضحّوا من أجله، فالولايات المتحدة الأمريكية، الراعية الأساسية لهم، على وشك إغلاق ملف تدخلها في سوريا وتسليم مفاتيحه لفواعل محلية وإقليمية غير متعاطفة مع قضيتهم، كما أن أدواتهم لتحقيق مشروعهم ليست على قدر التحدي المطروح عليهم، في ظل اختلال موازين القوى لغير صالحهم والتحوّل الكبير في البيئة الاستراتيجية المحيطة بهم

يدرك الكرد، في سوريا والإقليم، أن الفرصة قد فاتت لتحقيق ما خططوا له وضحّوا من أجله، فالولايات المتحدة الأمريكية، الراعية الأساسية لهم، على وشك إغلاق ملف تدخلها في سوريا وتسليم مفاتيحه لفواعل محلية وإقليمية غير متعاطفة مع قضيتهم، كما أن أدواتهم لتحقيق مشروعهم ليست على قدر التحدي المطروح عليهم، في ظل اختلال موازين القوى لغير صالحهم والتحوّل الكبير في البيئة الاستراتيجية المحيطة بهم.

في ظل ذلك، تبقى السياسة هي المساحة الوحيدة المتبقية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، من هنا تتبنى الإدارة الذاتية الكردية تكتيكا تفاوضيا بأسقف مرتفعة، يستبطن رهانات على تغير المعطيات، من نوع فشل النظام السوري الجديد في إدارة الوضع السوري، أو حصول فوضى وصراعات داخل مكونات النظام الجديد، وهذا ما يدفع الإدارة الذاتية إلى طلب المزيد من الوقت لتنفيذ التفاهمات التي حصلت بين مظلوم عبدي وأحمد الشرع، لعل الظروف والأقدار تأتي بفرص توسع خيارات الكرد وتبعدهم عن الخيار الكابوس الذي طرحه توماس باراك، من أن الطريق الوحيد أمامهم هو دمشق.

لا شك أن الأكراد، مثل الفلسطينيين في المنطقة، أصحاب قضية عادلة، ولهم كامل الحق في أن يكون لهم، مثل بقية شعوب المنطقة، الحرية في تقرير مصيرهم، لكن الظروف ما فتئت تعاندهم، والواضح أن خياراتهم بالفعل باتت تنحصر في المجال السياسي، من خلال انخراطهم في سياسات البلدان التي يتبعون لها، والنضال من أجل تحقيق مطالبهم، وإن كان هذا الفعل يستغرق وقتا أطول، لكن في النهاية يبقى أقل تكلفة من الخوض في المجهول والسير في طريق آلام طويلة غير مضمونة النتائج، وعلى ما يبدو أن هذه القناعة كانت في صلب قرار القائد عبدالله أوجلان في حل حزب العمال الكردستاني.

x.com/ghazidahman1
التعليقات (0)