مدونات

ارفع مستوى الصوت

رميصاء عبد المهيمن
"لم يكن فوز زهران ممداني في نيويورك مجرد انتصار سياسي، بل كان تمثيلا لجيل بدأ يثبت أن القوة لم تعد حكرا على النفوذ التقليدي"- جيتي
"لم يكن فوز زهران ممداني في نيويورك مجرد انتصار سياسي، بل كان تمثيلا لجيل بدأ يثبت أن القوة لم تعد حكرا على النفوذ التقليدي"- جيتي
حيثما وُجدت السياسة، فإنها ليست مجرد سعيٍ إلى السلطة، بل اختبار للفكرة التي يختار القائد أن يقف عليها. تختلف هياكل الأنظمة الديمقراطية في أنحاء العالم، لكن صراع القوة والمصلحة والسردية يكاد يكون واحدا في كل مكان، والفرق فقط أن هناك من يُكمَّم فيه الصوت، وهناك من يعلو فيه.

لم يكن فوز زهران ممداني في نيويورك مجرد انتصار سياسي، بل كان تمثيلا لجيل بدأ يثبت أن القوة لم تعد حكرا على النفوذ التقليدي، بل يمكن أن تُبنى على ثبات الفكرة. كما قال والده في مقابلة مع الجزيرة، لم يخض زهران الانتخابات ليفوز، بل ليُثبت وجهة نظر: إن كانت السردية قائمة على العدالة، فستجد من يسمعها. وهي ذات الفكرة التي لخّصها نيلسون مانديلا: "يبدو الأمر مستحيلا دائما.. حتى يتحقق".

للسياسة وجهان؛ وجه تصنعه القوة، ووجه يُعيد الأفراد تعريف معنى القوة. وانتصار ممداني مثال للوجه الثاني؛

ظهر في وقتٍ كان الحديث فيه عن فلسطين يُعتبر انتحارا سياسيا في الولايات المتحدة، لكنه لم يتراجع عن موقفه. حاول البعض وصفه بالتطرف أو ربطه بتوجهات فكرية خفية، لكن الناخبين أكدوا أن السردية إذا كانت مبنية على الحقيقة، فلا يمكن إسكاتها. لذلك صوّتوا ليس لشخصه فقط، بل للفكرة التي حملها؛ فكرة العدالة وصوت المظلوم، سواء كان من مجتمع سكني في نيويورك، أو من قطاع غزة.

للسياسة وجهان؛ وجه تصنعه القوة، ووجه يُعيد الأفراد تعريف معنى القوة. وانتصار ممداني مثال للوجه الثاني؛ لم ينجرّ وراء الشعارات، ولم يتنازل عن مبادئه لأجل المكاسب الآنية. واجه النقد، وحتى السخرية من اسمه وخلفيته، لكنه لم يرد بالصياح أو رد الفعل، بل بحملة انتخابية كان جوهرها "شجاعة قول الحق". ولهذا يُنظر إلى فوزه اليوم لا كنجاح سياسي فحسب، بل كدليل على أن المسلمين بدأوا يتحولون من موقع رد الفعل إلى موقع صناعة السردية.

كثير من قادة التاريخ حاولوا أن يجعلوا من السياسة أكثر من "فن الممكن"، لتصبح شجاعة إعادة تعريف الممكن. كما قال أحد المفكرين السياسيين: "السياسة ليست دائما فن الممكن، أحيانا هي شجاعة إعادة تعريف الممكن". وفي الفكر الإسلامي، السياسة مسؤولية، لا وسيلة للهيمنة. كما قال أحد المفكرين المسلمين: "إذا ارتبطت السياسة بالعدل أصبحت قوة، وإذا ارتبطت بالقوة بقيت مجرد سياسة".

قد يُنظر إلى انتخاب زهران ممداني على أنه حدث محدود عالميا، لكنه في العمق أوسع أثرا. لقد أثبت أن السياسة لا تصنع القرارات فحسب، بل تصنع الوعي حين تكون الحقيقة هي مصدرها ويقف الناس خلفها؛ لعله كان ذلك اللحظة التي قرر فيها الناس أن الاستماع لم يعد كافيا، بل حان وقت الكلام.

وربما هذا هو جوهر الرسالة: حين يبدأ المستحيل في اتخاذ ملامح الواقع.. لا يجب أن نخفض الصوت، بل نقول: ارفع مستوى الصوت.

[email protected]
التعليقات (0)