أكتب هذا
المقال، وتزدحم مخيلتي بذكريات كثيرة من مراحل الصبا والمراهقة التي قضيتها في دور
العرض السينمائي والمسرحي، والتي كان لها بالغ الأثر في تشكيل وجداني وذائقتي
الفنية. وقد انعكس هذا الأثر أيضا على أجيال عديدة تربّت على حب الفن والجمال.
نعم، كانت تلك المظلة التي اجتمعت تحتها أجيال متعاقبة، هي ثقافة الجمال.
الجمال
ليس في الفن والسينما والمسرح فقط، بل هو في الأشجار والحدائق التي كانت تزين كل
ميدان وشارع وزقاق، وفي المظهر والهندام، والأهم من ذلك كله: الجمال معرفيا وثقافيا
وفكريا.
لكن،
عندما أفتح عيني بعد اجترار تلك الذكريات، أرى واقعا مختلفا تماما؛ واقعا بائسا
تذبل فيه ثقافة الجمال، بل وتُقتلع من جذورها، لتحل محلها ثقافة قبيحة لا تقيم وزنا
لمعيار الجمال، بل تدهسه بالبلدوزرات وتهدمه لتقيم مكانه عمارات إسمنتية قبيحة
تزيد من الاختناق الحراري،
عندما أفتح عيني بعد اجترار تلك الذكريات، أرى واقعا مختلفا تماما؛ واقعا بائسا تذبل فيه ثقافة الجمال، بل وتُقتلع من جذورها، لتحل محلها ثقافة قبيحة لا تقيم وزنا لمعيار الجمال، بل تدهسه بالبلدوزرات وتهدمه لتقيم مكانه عمارات إسمنتية قبيحة تزيد من الاختناق الحراري
تدعمها أجهزة تكييف تصدر أصواتا مزعجة وفحيحا ساخنا،
فتساهم في ارتفاع غير مسبوق لدرجة الحرارة في مصرنا الحبيبة. يواكب ذلك انتشار
ثقافة الاستهلاك من مولات وقاعات أفراح وغيرها، في مقابل غياب ثقافة الإنتاج.
ولعلني
هنا أذكر بعض الأمثلة؛ إذ إن الرصد الدقيق يحتاج إلى دراسات معمقة، وليس إلى مقال
واحد فقط.
نبدأ
بإزالة المقابر التراثية وهدمها، وهي مقابر لرموز دينية وثقافية واجتماعية، لأسماء
كبيرة يُشار إليها بالبنان والاحترام، كانت فاعلة في مصرنا الحبيبة على المستويات
كافة. ومع ذلك، لم يشفع لها تاريخها، فتمت إزالتها وهدمها بلا رحمة ولا شفقة.
وكذلك الأشجار التي كانت تزدان بها شوارع
مصر المختلفة، تم اقتلاعها دونما أسف أو
ندم.
أما دور
المسرح والسينما، فقد طالتها أيضا أيادي الهدم. رُفعت دعوى قضائية ضد الراحل سمير
خفاجي لاسترداد مسرح الحرية بشارع الشيخ ريحان من المجالس المتخصصة. وقد كسبت
الدعوى وانتُزع المسرح من فرقة "الفنانين المتحدين" وصاحبها سمير خفاجي،
رغم التاريخ الطويل الذي صنع فيه البهجة والسعادة للمصريين.
تم القضاء
على
سينما قصر النيل وتحويلها إلى مسرح، ثم توقف المسرح وأصبح المكان مهملا لا
حياة فيه. وهذا ما حدث أيضا لسينما راديو ذات التصميم الداخلي المميز، حيث امتدت
إليها أيادي القبح فقسمتها إلى صالة عرض مصمّتة أشبه بعلب السردين، إضافة إلى مسرح
قدم بعض العروض لكنه ما لبث أن أصيب بالسكتة وغاب عن الحياة.
ثقافة عظيمة وجميلة كانت، يتم محوها وهدمها معرفيا وجغرافيا، ليحل محلها قبحٌ لا يمت للجمال بصلة. ولكن، هل نفقد الأمل؟
أما سينما
مترو وسينما ريفولي بتصميمهما الرائع، فقد تحوّلتا، مع شديد الأسف، إلى مجموعة من
القاعات الصغيرة المصمّتة الخالية من الذوق والجمال. ولعل أسفي على
"ريفولي" كبير وعميق؛ فهي تكاد تكون السينما الوحيدة في مصر التي تصلح
لإقامة مهرجان سينمائي بحجم مهرجان القاهرة السينمائي، نظرا لسعتها وفخامة تصميمها
من الداخل، واحتوائها على قاعات للمؤتمرات الصغيرة، وصالونات بالغة الفخامة. لكن
كل ذلك دُمّر، مع الأسف الشديد.
وما زال
مسلسل الهدم مستمرا؛ فقد هُدم مؤخرا المسرح التاريخي المسرح العائم فاطمة رشدي،
وسط صيحات استنكار من أهل المسرح والثقافة ومحبي الجمال، لكن لا حياة لمن تنادي.
ولن يكون هذا الأول ولا الأخير؛ فقد سبقه مسرح جلال الشرقاوي بالمنتزه، الذي أصبح
مكانا مهجورا خربا. وكذلك هُدم مسرح العبد بالإسكندرية، رغم احتواء أرضه على آثار
تعود إلى العصر الهلنستي. كما هُدم مسرح كوته وأصبح مكانا مهجورا تفوح منه الروائح
الكريهة، وتحولت مسارح اللونابارك ونجم وسينما ريالتو إلى مولات تجارية وقاعات
أفراح. وسبقهم جميعا مسرح الريحاني الذي هُدم وأقيم مكانه عمارة سكنية يتصدرها
مقهى يحمل اسم نجيب الريحاني العظيم!
وهكذا،
عزيزي القارئ، القائمة تطول، والشجون لا حدود لها. ثقافة عظيمة وجميلة كانت، يتم
محوها وهدمها معرفيا وجغرافيا، ليحل محلها قبحٌ لا يمت للجمال بصلة. ولكن، هل
نفقد الأمل؟ كلا، لن نفقد الأمل.. رغم كل هذه المعاول التي تهدم وتطمس الذاكرة،
ستظل مصرنا الحبيبة قادرة على التجدد عبر الزمان.
فهكذا هي
مصر العظيمة.. رغم أنف الجميع.