أفكَار

الجغرافيا الممزقة والذاكرة المثقلة.. كيف تتكرّر حروب الداخل على حساب قضايا الأمة؟

الحرب العراقية ـ الإيرانية، بكل مرارتها ودمائها، لم تكن مجرد نزاع حدودي، بل كانت اختبارًا وجوديًا للمشروع السياسي الجديد في إيران.. أرشيفية
الحرب العراقية ـ الإيرانية، بكل مرارتها ودمائها، لم تكن مجرد نزاع حدودي، بل كانت اختبارًا وجوديًا للمشروع السياسي الجديد في إيران.. أرشيفية
منذ أن سقطت أولى القذائف على قطاع غزة، والعالم كلّه يشهد ـ دون أن يحرّك جفنًا ـ واحدة من أكثر لحظات التاريخ قسوةً وبؤسًا: حرب إبادة تُشنّ على شعب محاصر في مربّع سكني ضيّق، يفتك بهم القصف إن نجا بعضهم من الجوع والمرض. صورة إنسانية تختصر المأساة في أكثر أشكالها تجريدًا: أمّ تبحث في الركام عن أطفالها، وجائع يمد يده للهواء فلا يجد إلا الغبار، ومريض ينتظر سريرًا لا يأتي. مأساة على مرأى ومسمع من شعوبٍ كان يُفترض أن تنتفض، فإذا بها تتفرّج، أو تلوذ بالصمت، أو تغرق في حروبها الصغيرة.

وليس هذا الغياب عن الفعل وليد اللحظة؛ فالتاريخ القريب يذكّرنا بالحرب العبثية التي اشتعلت بين العراق وإيران في ثمانينيات القرن الماضي. حرب استنزفت دماء الملايين ومواردهم، فيما كانت القوى الغربية تراقب المشهد عن كثب، بل وتديره من وراء الستار، سعيدة بأن أمة بكاملها تنشغل في قتل نفسها. تلك الحرب ـ التي كان يمكن أن تكون جبهة مشتركة بوجه الهيمنة ـ تحوّلت إلى جرح نازف، أضعف الطرفين، ومهّد لانكسارات تالية ما زلنا ندفع ثمنها.

اليوم، تتكرّر المأساة في غزة بوجه مختلف، لكنها تحمل الروح ذاتها: روح التواطؤ الدولي، والعجز العربي، والانقسام الإسلامي. كأن التاريخ يصرّ على أن يعيد دروسه المؤلمة، وأن يذكّرنا أنّ المأساة لا تموت، بل تعود في كل جيل بثوب أشد سوادًا.

وإذا كان المشهد في غزة اليوم يكشف عن حجم التواطؤ الدولي وصمت الإقليم العربي والإسلامي أمام حرب إبادة غير مسبوقة، فإن ذلك ليس بدعًا من التاريخ. فما يجري الآن هو امتداد لمسار طويل من الإخفاقات والانقسامات، حيث تُترك الشعوب فريسة للجوع والقتل والحصار، بينما تنشغل الدول بحسابات السلطة، أو تُستنزف في معارك جانبية. ولعل أبرز مثال في ذاكرتنا القريبة الحرب العراقية ـ الإيرانية، التي اندلعت في مطلع الثمانينيات، وجعلت الأمة تستهلك طاقتها ودماء أبنائها في صراع داخلي، فيما القوى الغربية تراقب وتدير اللعبة لمصلحتها.

اليوم، تتكرّر المأساة في غزة بوجه مختلف، لكنها تحمل الروح ذاتها: روح التواطؤ الدولي، والعجز العربي، والانقسام الإسلامي. كأن التاريخ يصرّ على أن يعيد دروسه المؤلمة، وأن يذكّرنا أنّ المأساة لا تموت، بل تعود في كل جيل بثوب أشد سوادًا.
كانت تلك الحرب اختبارًا مبكرًا للدولة الإيرانية الوليدة، لكنها في الوقت ذاته كشفت عجز النظام العربي عن تحويل الثورة الإسلامية من فرصة للتجديد إلى شريك في بناء توازن إقليمي جديد. وعلى العكس، تحوّل المشهد إلى نزاع مدمّر، غذّته الاعتبارات المذهبية والتحالفات الخارجية، وترك أثره العميق على علاقة المشرق العربي بالخليج، وعلى مسار الوعي الإسلامي والسياسي لعقود لاحقة.

من هنا، فإن الانتقال إلى دراسة تفاصيل الحرب العراقية ـ الإيرانية لا يُقرأ فقط في ضوء نزاع حدودي أو صراع على النفوذ، بل كحلقة من حلقات تاريخ طويل تتكرر فيه الأخطاء، حيث تُهدر الطاقات في صراعات داخلية بينما تتواصل المآسي على أطراف الأمة، من فلسطين إلى غيرها، بلا سند حقيقي.

وهذا هو صُلب بحثنا الذي بدأناه في هذه السلسلة من المقالات عن الإسلام السياسي الحديث والمعاصر، ودوره في تحديد معالم العالم الإسلامي والعربي. فالمشهد في غزة اليوم، كما الحرب العراقية ـ الإيرانية بالأمس، لا ينفصل عن التحولات الفكرية والسياسية التي شهدتها المنطقة منذ صعود المشاريع الإسلامية الحديثة، ومحاولاتها المتكرّرة لبلورة هوية جامعة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

ومن هنا فإنّ تتبّع هذه الأحداث لا يهدف فقط إلى توثيق المآسي، بل إلى قراءة موقع الإسلام السياسي في صناعة التاريخ، وفهم كيف أسهمت خياراته ـ أو إخفاقاته ـ في إعادة تشكيل موازين القوى، وتكريس واقع الانقسام أو المقاومة."

2 ـ الحرب العراقية ـ الإيرانية.. اختبار الدولة الوليدة

لم تمضِ الثورة على إيران طويلًا حتى وجدت نفسها أمام تحدٍ وجودي: حرب ضارية مع العراق بدأت في سبتمبر 1980، سعت فيها بغداد إلى السيطرة على الأراضي النفطية، تأمين شط العرب، ووقف انتشار الثورة بين الأقليات العربية في جنوب إيران. وقد دعمت دول الخليج العراق سياسيًا وماليًا، بينما وفر الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، غطاءً استراتيجيًا غير مباشر، معتبرين أن تحجيم طهران يصب في مصالح الاستقرار الإقليمي.

واجهت إيران الهجوم بمقاومة عنيفة، مستعينة بالروح الثورية وجماهير الشعب، ونجحت بحلول عام 1982 في استعادة معظم الأراضي المحتلة. بعد ذلك، دخل الطرفان مرحلة حرب استنزاف طويلة، امتدت ثماني سنوات، استخدم فيها كل الوسائل العسكرية الممكنة، مع استمرار الضغط على المدنيين والبنية التحتية.

وأدركت الجمهورية الإسلامية، بعد ثمانية أعوام من القتال المستمر، أن الاستمرار في الحرب قد يؤدي إلى المزيد من الخسائر، فتقبلت في أغسطس 1988 وقف إطلاق النار، وهو القرار الذي وصفه الإمام الخميني بـ"تجرع كأس السم"، تعبيرًا عن المرارة والفداحة: الدولة الثورية نجت، لكنها دفعت ثمن الحفاظ على مشروعها السياسي وهويتها الجديدة.

التحولات العقائدية والسياسية في الخليج والعراق بين 1979 و1988

أولاً ـ الثورة الإسلامية كزلزال عقائدي في الخليج

بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، لم يكن الخوف الخليجي محصورًا في البعد السياسي أو الأمني فقط، بل كان خوفًا عقائديًا مذهبيًا بالدرجة الأولى. إذ رأت الأنظمة الخليجية، ولا سيما النخبة الدينية الوهابية في المملكة العربية السعودية، أن المشروع الإيراني ليس فقط سياسيًا، بل يحمل في طياته تصورًا دينيًا شيعيًا ثورياً يهدد التوازن المذهبي في المنطقة.

1 ـ  ظهور التحذير من "المد الشيعي":

بدأت أصوات داخل المؤسسة الدينية الوهابية السعودية، ومنابر دعوية خليجية أخرى، في تصعيد الخطاب المذهبي ضد الثورة. لم يكن ذلك فقط لاعتبار الخميني قائدًا لثورة إسلامية، بل لأنه يؤسس لنموذج شيعي سياسي يستند إلى ولاية الفقيه، والذي اعتُبر انحرافًا عن التصور السني للعقيدة السياسية الإسلامية.

ظهرت آنذاك أدبيات تتحدث عن خطر التشيع، واعتباره "شركًا سياسيًا"، و"تقية ماكرة"، و"ثورة صفوية" تستهدف عقيدة أهل السنة.

هذه التعبئة كان لها أثر مزدوج: تبرير القرب من الغرب للحماية، وإعطاء غطاء ديني للحرب العراقية ضد إيران، رغم أن صدام حسين نفسه لم يكن يمثل النموذج الإسلامي الذي تتبناه المؤسسات الدينية الخليجية.

2 ـ الهاجس الأمني العقائدي داخل الخليج:

أدى وجود أقلية شيعية فاعلة في بعض دول الخليج، لا سيما في السعودية (القطيف والأحساء)، والبحرين والكويت، إلى نوع من الرعب من أن تتحول هذه الأقليات إلى "طابور خامس" للثورة الإيرانية. وسرعان ما تمت إعادة هندسة العلاقة بين المذهب والدولة في الخليج، فتم تقييد النشاط الشيعي، ومراقبة الحسينيات، وشيطنة الخطاب الديني المرتبط بإيران.

ثانيًا ـ صدام حسين بين القومية العلمانية و"التعبئة المذهبية"

قبل عام 1979، كان نظام حزب البعث العراقي يقدّم نفسه بوصفه القلعة العربية العلمانية الأخيرة، ضد الإسلام السياسي بكل أطيافه، وضد الطائفية، وضد أي خلط بين الدين والسياسة. لكن مع انطلاق الحرب، بدأ صدام حسين يُعيد هندسة الخطاب السياسي البعثي، ليس على مستوى المفاهيم فقط، بل على مستوى الرموز والشعارات.

1 ـ استدعاء الرموز الإسلامية السنية:

مع تصاعد الحرب، بدأ النظام العراقي يتحدث عن دفاعه عن البوابة الشرقية للعرب والمسلمين، واستُخدمت عبارات مثل: "الدفاع عن الصحابة"، "حرب ضد المجوس الصفويين"، "حرب العروبة والإسلام ضد التشيع السياسي".

رغم أن البعث تأسس على أسس علمانية قومية، فإن الواقع فرض تحوّلاً في أدوات التعبئة الجماهيرية، خصوصًا مع تصاعد التعبئة الإيرانية القائمة على بعد ديني وشعائري كثيف.

2 ـ تحالف مصالح بين صدام والخطاب الديني الخليجي:

لم يكن غريبًا أن يجد صدام في الخطاب الوهابي السلفي حليفًا تكتيكيًا، يقدّم غطاء دينيًا لصراعه. وبالمقابل، وجدت بعض الدول الخليجية في صدام حاجزًا واقيًا أمام إيران، فرُصدت مليارات الدولارات لدعم العراق، باعتباره الجدار الأخير أمام زحف الثورة الشيعية.

ثالثًا ـ الحرب كاستراتيجية غربية لاستنزاف الجميع

رغم الخطاب الظاهري بالدعم الغربي للعراق، فإن الحرب مثلت في جوهرها لعبة مزدوجة من القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لأسباب عدّة:استنزاف إيران وإعاقة ترسيخ الثورة في الداخل والخارج، إضعاف العراق كقوة عربية طموحة ومنافسة محتملة في الخليج، إبقاء الخليج في حالة خوف دائم، مما يبرر استمرار الحماية الأمريكية.

الحرب العراقية ـ الإيرانية لم تكن مجرد نزاع حدودي أو رد فعل سياسي، بل كانت منعرجًا مذهبيًا خطيرًا أعاد صياغة الهوية السياسية والعقائدية في المنطقة، ولحظة تحوّل في الخطاب السياسي البعثي العراقي الذي انتقل من العلمانية القومية إلى التعبئة الإسلامية، وفرصة للغرب لإعادة ترتيب أوراقه في الخليج، على قاعدة "الفوضى المدارة"، حيث لا يخرج أحد منتصرًا، ويبقى الجميع بحاجة إلى الدعم الخارجي.
وقد أظهرت تقارير لاحقة أن الولايات المتحدة باعت السلاح لطرفي الحرب، بشكل مباشر أو عبر وسطاء، وشاركت إسرائيل ـ ضمن عملية "إيران كونترا" ـ ببيع أسلحة لإيران نفسها، بهدف تعقيد المشهد وإطالة أمد الصراع.

الحرب العراقية ـ الإيرانية لم تكن مجرد نزاع حدودي أو رد فعل سياسي، بل كانت منعرجًا مذهبيًا خطيرًا أعاد صياغة الهوية السياسية والعقائدية في المنطقة، ولحظة تحوّل في الخطاب السياسي البعثي العراقي الذي انتقل من العلمانية القومية إلى التعبئة الإسلامية، وفرصة للغرب لإعادة ترتيب أوراقه في الخليج، على قاعدة "الفوضى المدارة"، حيث لا يخرج أحد منتصرًا، ويبقى الجميع بحاجة إلى الدعم الخارجي.

وما تزال آثار تلك الحرب قائمة حتى اليوم، في الطائفية السياسية، والخطاب المذهبي، وتبعيات الهيمنة الغربية على أمن الخليج.

الثورة والفكرة والدولة

الخميني وحده هو من رأى في الدولة هدفًا مباشرًا، ولذلك كانت الجمهورية الإسلامية امتدادًا طبيعيًا لأفكاره.

شريعتي كان أقرب إلى حالم بثقافة مقاومة، دون مشروع دولة، لذا تحوّلت رؤيته إلى مجرد رمزية في الخطاب الثوري.

الصدر، رغم قربه من الخميني فكريًا، لم يُمنح الوقت ولا المساحة لترجمة مشروعه، وانتهى شهيدًا على يد نظام صدام حسين.

تجربة الثورة الإيرانية تثبت أن الأفكار، حتى بعد رحيل أصحابها، تظل حيّة، وأن الدولة يمكن أن تصبح ترجمة عملية لتصورات فكرية عميقة، لكنها محكومة أيضًا بمتطلبات القوة والواقع السياسي. فشريعتي أيقظ الوعي الجماهيري والثقافي، وترك بصمة في الوجدان الثوري، بينما الصدر قدم نموذجًا معرفيًا مؤسسيًا متكاملًا، إلا أن الخميني وحده استطاع تحويل الفكر إلى سلطة فعلية، مؤسسًا الجمهورية الإسلامية ككيان سياسي متكامل، قادر على البقاء والصمود.

الحرب العراقية ـ الإيرانية، بكل مرارتها ودمائها، لم تكن مجرد نزاع حدودي، بل كانت اختبارًا وجوديًا للمشروع السياسي الجديد، وكاشفة عن حدود القوة والثورة في مواجهة الخصوم الداخليين والخارجيين، بما في ذلك الدعم الغربي والدولي لصدام حسين، ومحاولات بعض دول الخليج لضرب المشروع الثوري. إن تجرع الخميني كأس السم بقبوله وقف إطلاق النار، يعكس الصراع بين الرؤية الثورية المطلقة ومتطلبات الحفاظ على الدولة والشعب، ويؤكد أن الثورة، مهما بلغت روحانيتها، لا تنفصل عن السياسة الواقعية.

وهكذا، يمكن القول إن الجمهورية الإسلامية لم تولد من فراغ، بل هي ثمرة تراكم فكري وتجربة ثورية نادرة، جمعت بين خطاب التغيير، وإرادة الجماهير، وعقل الدولة، ومواجهة التحديات الكبرى. وبينما انتهت حياة القادة المؤسسين، بقي المشروع حيًّا، مستمرًا في صياغة ملامح الشرق الإسلامي المعاصر، مع جميع مفارقه: بين الفكر والدولة، بين الثورة والبيروقراطية، وبين الأمل في الإصلاح والرهانات الجيوسياسية المعقدة.

إن قراءة الثورة الإيرانية اليوم، من موقع الباحث الدارس للتاريخ والفكر والسياسة، تتيح فهمًا أعمق لمآلات المشاريع الثورية في العالم الإسلامي، وتبيّن أن القوة الفكرية لا تفنى مع غياب الأجساد، وأن المشروع القادر على البقاء هو الذي يجمع بين رؤية مثقفة، تنظيم مؤسسي، ومرونة سياسية تتيح مواجهة الاختبارات الكبرى التي يفرضها التاريخ.
التعليقات (0)

خبر عاجل