تنشر "عربي21"، بالتزامن مع
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، هذا المقال الفكري المتخصص للدكتور جمال لطيف
حسين، عضو الاتحاد، حول مفهوم "صناعة الجوّ الإسلامي"، في لحظة زمنية
تشتدّ فيها الحاجة إلى إعادة تفعيل القيم الإسلامية في الواقع المعيشي، لا كشعارات
معزولة، بل كأسلوب حياة متكامل ينعكس في السلوك الفردي والبناء المجتمعي والأنشطة
العامة.
يستعرض المقال مرتكزات هذا المفهوم، وآلياته
العملية، وضوابطه الشرعية والتربوية، مستندًا إلى نصوص القرآن والسنة، ومطّلعًا
على اجتهادات معاصرة لعلماء ومفكرين بارزين.
في ظل تحديات التغريب والعولمة، وفتور
الهوية في بعض البيئات الإسلامية، تبرز أهمية هذا الطرح الذي يسعى لتجسيد الإسلام
في الواقع لا الاكتفاء بنصوصه، وإحياء الروح الإيمانية في بيئة الإنسان ومحيطه، لا
الاكتفاء بوعظه داخل المساجد.
صناعة الجو الإسلامي: المفهوم، الآليات
والضوابط..
صناعة الجو الإسلامي تعني خلق بيئة مجتمعية
وحياتية تعكس القيم والمبادئ الإسلامية في جميع الجوانب، سواء على مستوى الأفراد
أو المؤسسات أو الأماكن العامة. وهي عملية شاملة تهدف إلى إحياء الهوية الإسلامي*
في السلوكيات اليومية، والعلاقات الاجتماعية، والمعاملات المالية، والأنشطة
الثقافية، بحيث يصبح الدين الإسلامي منهج حياة عملي وليس مجرد شعائر فردية.
أركان صناعة الجو الإسلامي
1 ـ الركن العقدي: توحيد الله وعبادته وفق
المنهج الصحيح.
2 ـ الركن الأخلاقي: التحلي بالقيم
الإسلامية مثل الصدق، الأمانة، الرحمة.
3 ـ الركن الاجتماعي: بناء العلاقات على
أساس الأخوة الإسلامية والتكافل.
4 ـ الركن الحضاري: إبراز الجمال والعمران
الإسلامي في البيئة المحيطة.
أهمية صناعة الجو الإسلامي
ـ تحقيق
العبودية الكاملة لله في كل مناحي الحياة.
ـ حماية المجتمع
من الانحرافات الفكرية والأخلاقية.
ـ تعزيز
الانتماء الإسلامي لدى الأجيال الناشئة.
ـ تقديم نموذج عملي للإسلام كدين شامل متوازن.
الأدلة من القرآن الكريم المفسرة
1 ـ التوحيد أساس الجو الإسلامي: يقول
تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات:56]. تفسير هذه الآية يؤكد أن الهدف الأسمى لوجود الإنسان هو عبادة الله
وحده، مما يعني أن أي جو إسلامي يجب أن يكون قائمًا على التوحيد الخالص ونبذ الشرك
بجميع أشكاله.
2 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يقول
تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:104]. هذه الآية تضع
الأساس الشرعي لصناعة الجو الإسلامي من خلال الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، مع مراعاة الحكمة والموعظة الحسنة.
3 ـ التعاون على البر والتقوى: يقول تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. هذا المبدأ القرآني يوجه إلى أن الجو الإسلامي يقوم
على التعاون الإيجابي بين أفراد المجتمع في كل ما فيه خير وصلاح.
4 ـ القدوة الحسنة: يقول تعالى: {لَّقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. صناعة الجو
الإسلامي تحتاج إلى نماذج عملية يقتدى بها في السلوك والأخلاق.
الأدلة من السنة النبوية المشروحة
1 ـ البناء الاجتماعي الإسلامي: قال النبي ﷺ:
"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [متفق عليه]. هذا الحديث يوضح أن الجو
الإسلامي الحقيقي يقوم على التكافل والتراحم بين أفراد المجتمع.
2 ـ النظافة والجمال: قال ﷺ: *"إن الله
جميل يحب الجمال" [رواه مسلم]. وهذا يدل على أن الجو الإسلامي لا يقتصر على
الجوانب الروحية فقط، بل يشمل أيضًا الجمال الحسي والنظافة في البيئة.
3 ـ السماحة واليسر: قال ﷺ: "يسروا ولا
تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" [متفق عليه]. هذا الحديث يرشدنا إلى أن صناعة
الجو الإسلامي يجب أن تكون قائمة على اليسر والسماحة، لا على التشدد والتعسير.
4 ـ الحفاظ على البيئة: قال ﷺ: "ما من
مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به
صدقة" [متفق عليه]. هذا يوجه إلى أن الجو الإسلامي يشمل أيضًا العناية
بالبيئة والموارد الطبيعية.
آراء المفكرين الإسلاميين المعاصرين
1 ـ الداعية يوسف القرضاوي: يؤكد على أن
صناعة الجو الإسلامي تحتاج إلى "توازن بين الثوابت والمتغيرات"، حيث يتم
الحفاظ على الأصول الشرعية مع مراعاة ظروف العصر ومتطلباته.
2 ـ المفكر محمد قطب: يرى أن "الجو
الإسلامي الحقيقي هو الذي يجمع بين العبادة الصحيحة والمعاملة الحسنة"، مع
التركيز على بناء الشخصية الإسلامية المتكاملة.
صناعة الجو الإسلامي في أي بلد أو مكان عملية متكاملة تحتاج إلى جهود جماعية منظمة، تقوم على الأسس الشرعية الصحيحة، وتستفيد من تجارب المفكرين المعاصرين، مع مراعاة الظروف الواقعية. إنها مسؤولية مشتركة بين الأفراد والمؤسسات، تبدأ من الفرد نفسه ثم أسرته ثم مجتمعه. والنجاح في هذه المهمة يتطلب الصبر والحكمة، والاعتماد على الله ثم العمل الدؤوب.
3 ـ الداعية عمرو خالد: يشدد على
"أهمية البرامج التربوية والتثقيفية" في صناعة الجو الإسلامي، من خلال
المدارس والمساجد ووسائل الإعلام.
4 ـ المفكرة نايفة النمر: ترى أن "دور
المرأة أساسي في صناعة الجو الإسلامي" من خلال التربية الأسرية والمشاركة
المجتمعية.
آليات صناعة الجو الإسلامي
1 ـ التربية الإسلامية: من خلال:
ـ المناهج التعليمية
التي تعزز القيم الإسلامية
ـ البرامج التدريبية
للشباب
ـ الدورات الشرعية
للكبار
2 ـ الإعلام
الهادف: عن طريق: إنتاج مواد إعلامية تعكس
القيم الإسلامية، استثمار وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الوعي الإسلامي، إنشاء
قنوات إعلامية هادفة.
3 ـ الأنشطة المجتمعية: مثل: المسابقات القرآنية
والثقافية، المعارض الإسلامي، المخيمات الشبابية
4 ـ العمران الإسلامي: من خلال: تصميم
المساجد وفق العمارة الإسلامي، إنشاء المراكز
الإسلامية المتكاملة، العناية بالحدائق والأماكن العامة
5 ـ الاقتصاد الإسلامي: عبر: تطبيق المعاملات المالية
الإسلامية، دعم المؤسسات الخيرية، تشجيع المشاريع الصغيرة.
ضوابط صناعة الجو الإسلامي
1 ـ الالتزام بالوسطية: تجنب الغلو والتشدد
من جهة، والتفريط والإهمال من جهة أخرى.
2 ـ مراعاة الأولويات: التركيز على الأهم
فالمهم في بناء الجو الإسلامي.
3 ـ الحكمة والموعظة الحسنة: في الدعوة
والتعامل مع الآخرين.
4 ـ التدرج في التطبيق: مراعاة ظروف الناس
وقدراتهم.
5 ـ الشمولية والتكامل: عدم التركيز على
جانب دون آخر.
صناعة الجو الإسلامي في أي بلد أو مكان
عملية متكاملة تحتاج إلى جهود جماعية منظمة، تقوم على الأسس الشرعية الصحيحة،
وتستفيد من تجارب المفكرين المعاصرين، مع مراعاة الظروف الواقعية. إنها مسؤولية
مشتركة بين الأفراد والمؤسسات، تبدأ من الفرد نفسه ثم أسرته ثم مجتمعه. والنجاح في
هذه المهمة يتطلب الصبر والحكمة، والاعتماد على الله ثم العمل الدؤوب.
*عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين