تنشر "عربي21" هذه الورقة الفكرية
بالتزامن مع نشرها على صفحات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهي من إعداد
الكاتب والباحث موفّق شيخ إبراهيم، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
تتناول الورقة مفهوم الهوية الإسلامية
باعتبارها الحصن الذي يحفظ للأمة ذاتها، ويرسّخ موقعها الحضاري في وجه موجات
التغريب والتيه والذوبان الثقافي، وتناقش الدعائم الفكرية والعقدية التي تُشكّل
هذا المفهوم. كما تستعرض الأسباب التي أدت إلى تصدّع هذا البنيان المناعي،
والتحديات التي تواجه الأمة في زمن تماهت فيه الحدود بين المبادئ والمصالح، وتراجع
فيه الوعي بهويتها الرسالية.
في هذا السياق، تضيء الورقة على جذور
الأزمة، محذّرة من خطورة الاستلاب والانفصال عن الثوابت، ومشدّدة على ضرورة
استعادة الهوية كشرط لازم للنهوض الحضاري، والتمكين السياسي والفكري للأمة
الإسلامية.
مرآة للفكر
الهويَّة لأيِّ شريحةٍ ممَّن يعيش على وجه
هذه البسيطة مرآة تعكس النضوج الفكري، وامتلاك العدَّاد الجغرافي لمعرفة اتجَّاه
السير، بعد التأمل في صفحات التاريخ، والاستفادة منها على الوجه الذي ينبغي.
كما أنَّ الخطاب الفكري الذي يصوغ أطروحات
من نعتوا أنفسهم بالحداثيين، يستمدُّ جذوره من الانقلاب على الذات، والتنكُّر
لثوابت الأمَّة وجذورها التاريخية، والسقوط في دهاليز الانهزامية. ثم يتبع ذلك
سعيٌ حثيثٌ دؤوبٌ لتذويب هويَّة المجتمع المسلم، وتغيير بنيته العقَديَة.
بنسيان ذاتيتنا الإسلامية أضحت ذاكرتنا
عقيمةً، وبفقداننا الهوية وجدنا أنفسنا في ساحة غير ساحتنا، وقد أعطينا ولائنا
لجهةٍ غريبةٍ عن بيئتنا العقدية والفكرية!
أفرزت الهزيمة التي مُنيِت بها أمتنا، حالةً
من فقدان الذات، أدَّت إلى انشغال نخبتنا بالردِّ على الشبهات، ووضع الدين في موقف
الدفاع. وبدلاً من توجيه المسار نحو تعزيز الثقة بالذات، انشغلنا بجلدها بذرائع
واهية، وكأننا تبع للغرب لا شخصية، ولا كيان، ولا حضارة، ولا تاريخ لنا! مما آلت
بنا الأمور إلى مزيد من التيه والضياع.
وبعد إحساس الأمَّة بالهزيمة النفسية
والفكرية، لا بدَّ من العودة إلى منظومة ثوابتنا قبل أن تجرفنا عواصف الغربة عن
قيمنا، ونصبح في عدَاد الأمم المنسية كما حدث مع شعب "المايا"، أو نكون
قريبيين من ذلك، كما حدث مع "الهنود الحمر"!
هوية الأمَّة هي الجسم المناعيُّ، ضدَّ كلِّ
دخيلٍ في ثناياه الموت المحقَّق! وفي حال فقد الفرد المسلم هذا الجهاز المناعيَّ
الذي يمثِّل مركز الدفاع الأول والثاني والأخير في البنية الروحية والفكرية له،
كان عرضةً للمشي خلف كلِّ ناعق، ولو كان الأخير شبَه الغراب! عن عليٍّ رضي الله
عنه، قال: "الناس ثلاثةٌ: عالمٌ ربانيٌّ، ومتعلِّم على سبيل نجاةٍ، والباقي
رعاعٌ أتباع كلِّ ناعق"[1].
هوية الأمَّة هي الجسم المناعيُّ، ضدَّ كلِّ دخيلٍ في ثناياه الموت المحقَّق! وفي حال فقد الفرد المسلم هذا الجهاز المناعيَّ الذي يمثِّل مركز الدفاع الأول والثاني والأخير في البنية الروحية والفكرية له، كان عرضةً للمشي خلف كلِّ ناعق، ولو كان الأخير شبَه الغراب! عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: "الناس ثلاثةٌ: عالمٌ ربانيٌّ، ومتعلِّم على سبيل نجاةٍ، والباقي رعاعٌ أتباع كلِّ ناعق"[1].
إنَّ التغيير المجتمعي العام يبدأ من الفكر.
وإنَّ غير المسلمين قد فقدوا [البوصلة]، وجانبوا الصواب، وضلُّوا الطريق؛ فاضطربت
عندهم الموازين، واختلفت لديهم المفاهيم، فنراهم استخرجوا من مقدماتٍ امتلكوها،
نتائج خاطئة. نلحظ هذا التوصيف في البيان الأول من سورة الأنعام. قال الله تبارك
في علاه: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ الأنعام: ١.
فكيف لنا أن نستقي من هذه العصبة، التي فقدت
انتماءها وتوازنها منهجاً لحياتنا، أو رصيداً فكرياً يتملَّك عقولنا، أو قيَماً
روحيةً تملأ قلوبنا؟! وثمَّة أناسٌ لا خَلاق لهم من المعرفة قد لبسوا لبوسها
زوراً! قد أصابهم العمى بصريح بيان سورة الرعد: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ الرعد: ١٩.
فكيف ترنو أنظارنا إليهم؟! ننهل منهم كلَّ
ما بدا لهم من دون تمحيصٍ، ولو كانت سموماً فكريةً، وشوائب عقديةً، هي ثمرة
تصوراتٍ فاسدةٍ تنذر مجتمعاتنا وأجيالنا بكلِّ سوء! وهذا ضربٌ من ضروب التيه
والضياع!
قال المفكِّر الكبير، "محمَّد أحمد
الراشد" رحمه الله: "ومن أصدق ما قاله "مالك بن نبي":
"إنَّ قبل قصة كل استعمار، هناك قصة شعب خفيف يقبل الاستخذاء". وهو مثل
ضربه رحمه الله، يفسِّر ظواهر حيوية كثيرة، وكما تبدأ تراجعات كل حضارة بالنخر،
لتخلي مكانها إلى حضارة منافسة!".
وكان "مالك بن نبي" ذاته رحمه
الله، قد زاد الأمر وضوحاً حين قال: "ولكنَّ الوقت الذي يكون فيه الألم
أشدُّ، والحسرة أكبر، هو عندما نحاول إحياء العالم الثقافيِّ المشحون بالأفكار
الميتة، بالاستعانة بأفكار قاتلةٍ مقتبسَةٍ من حضارةٍ أخرى فهذه الأفكار قاتلةٌ،
وهي في موطنها الأصلي، تصبح أشدَّ قدرةً على القتل عندما تنسلخ من هذا المحيط. وعلى هذا النحو يقتبس عن المجتمـع
الإسلاميِّ المعاصر، الأفكار الحديثة والتقدمية في الحضارة الغربية".
وفي حال الشعور بالإفلاس على مستوى سواد
الأمَّة فنحن أمام مآل التبعية للغرب والولوج إلى جحر الضبِّ الذي عمل على صناعته
لنا وعلى مدى زمنيٍّ ليس بالقصير! وهو المعروف عند من يرتاد الصحراء برائحته
النتنة، وهكذا حال التبعية فهو كذلك أيضاً!
قال الشاعر المسلم "محمود مفلح":
يا أمتي وأقـولها ملء الهـوى
وتخـونني في نطقـها الكلـماتُ
أتظلُّ تحت الشمس ألف عقيدة
والشمس تضحك والدجى طعناتُ
أنــظلُّ أعـرابـاً ورايتــنا الـتـي
تعـلو عـلى هـام الــدنى رايـاتُ
أنظلُّ نشرب من سواقي غيرنا
والـمـاء دفَّـاق هـنـا وفـراتُ
والمسلمون المتنورون الأحرار يدركون مدى
أهميَّة الحفاظ على أصالة الفكر وصلابة المنهج، فقد حَدَث أن قطع التلفزيون التركي
بثَّه المنقول مباشرة، من "جامع الفاتح" بعد أن تعالت صيحات الاستنكار
ردَّاً على طلب إمام المسجد قراءة الفاتحة على روح "مصطفى كمال
أتاتورك"، المتوفَّى سنة 1938م، ثمَّ أذاع رئيس أركان الجيش التركيِّ،
الجنرال "كنعان أفرين" بياناً، حمل فيه على إهانة مؤسِّس الجمهورية
التركية، وهدَّد باستخدام القوة قائلاً: "إنَّ لدى القوات المسلَّحة، القوةُ
لقطع لسان كلِّ من يتحدَّث ضدَّ أتاتورك العظيم[2]!
إنَّ الصراع الذي يخوضه أصحاب الفكر
الإسلاميِّ النيِّر اليوم، يكمن النزاع فيه، وفي أغلب المواقع، في أصول ديننا،
وثوابتنا الفكرية والعقدية، التي لا تقبل المجاملة أو شيئاً من التنازلات. وفي
نهاية المطاف فالهدف هو إعادة الأمَّة إلى طريقها القويم، ووضعها على الجادَّة كي
لا تعصف أمواج الانحراف بسفينتها المرجوة، وهذه الأمواج أصبحت أمراً واقعاً، ومع
الأسف الشديد فقد فعلت الثقافة الغربية في الجسد الإسلاميِّ فعل الهروئيين، وفي
بعض الأحايين فعل السمِّ الزعاف. وعلى وجه الخصوص على أيدي مثقفين عرب، لا يلبسون
ثياب القساوسة لكنهم مبشِّرون!
كان "مالك بن نبي" ذاته رحمه الله، قد زاد الأمر وضوحاً حين قال: "ولكنَّ الوقت الذي يكون فيه الألم أشدُّ، والحسرة أكبر، هو عندما نحاول إحياء العالم الثقافيِّ المشحون بالأفكار الميتة، بالاستعانة بأفكار قاتلةٍ مقتبسَةٍ من حضارةٍ أخرى فهذه الأفكار قاتلةٌ، وهي في موطنها الأصلي، تصبح أشدَّ قدرةً على القتل عندما تنسلخ من هذا المحيط. وعلى هذا النحو يقتبس عن المجتمـع الإسلاميِّ المعاصر، الأفكار الحديثة والتقدمية في الحضارة الغربية".
ومن ثمرات هذا الحصاد المرِّ فقدنا الراية
الإسلامية والنظم الإسلامية، وكذا الأوضاع الإسلامية، وبدأت شعوبنا تتخبَّط في
ظلمات التيه، وفي أوحال القوانين الوضعية!
إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين
لقد أدرك أعداؤنا أهمية هذا الجسم
المناعيَّ، فأمسوا لا تكتحل لهم عين، ولا يرقأ لهم جفنٌ، حتى شرعوا ووفق دراسةٍ
ممنهجةٍ وتخطيطٍ، لم يعدْ خافياً على أحد، بغية النيل من كيانه وفاعليته؛ ومنه ما
ورد في وثيقةٍ محفوظةٍ في دار الوثائق القومية في "باريس"، وهي عبارةٌ
عن رسالةٍ كان قد أرسلها "لويس التاسع" ملك "فرنسا"، عندما
أُسِرَ في دار "ابن لقمان" بــ"المنصورة" في "مصر"،
خلال فترة الحروب الصليبية؛ حيث يقول في هذه الرسالة: "إنه لا يمكن
الانتصار على المسلمين من خلال حربٍ، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة؛
باتباع الآتي:
أ ـ إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين، وإذا
حدثت فليُعمَل على توسيع شقَّتها ما أمكن، حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف
المسلمين.
ب ـ عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية،
أن يقوم فيها حكم صالح.
ت ـ إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية، بالرشوة
والفساد والنساء، حتى تنفصل القاعدة عن القمَّة.
ث ـ الحيلولة دون قيام جيشٍ مؤمنٍ بحقِّ وطنه عليه،
يضحِّي في سبيل مبادئه.
ج ـ العمل على الحيلولة، دون قيام وحدةٍ عربيةٍ في
المنطقة.
ح ـ العمل على قيام دولةٍ غريبةٍ في المنطقة
العربية، تمتدُّ ما بين غزَّة جنوباً وأنطاكية شمالاً، ثم تتجِّه شرقاً، وتمتدُّ
حتى تصل إلى الغرب".
والقارئ للتاريخ المعاصر، يدرك إلى ما آل
إليه الواقع الصعب، وإلى استباحة الصهاينة الماكرين ومن نهج نهجهم، لحرمات
المسلمين، حتى أصبح لنا في كلِّ بلدٍ نائحةٌ وثكلى!
وليت الذين يعطون ولاءهم لكلِّ قادمٍ ولكلِّ
رافعٍ لرايةٍ! أن يأخذوا الدرس من فتاة حديثة السنِّ لم تتجاوز الحادية عشرة من
عمرها؛ دُعيِت إلى بيت والدها الماركسيِّ الأحمر في قرية فلسطينيةٍ محتَّلةٍ منذ
سنة 1948م، إلى الإفطار في رمضان، إذ هي مقيمةٌ في بيت عمِّها المسلم، وعندما دخلت
بيت والدها، أبصرت صورة "لينين" معلَّقةً، فآلت على نفسها ألا تذوق
طعاماً حتى تُنَّزل صورةُ "لينين"، وحاورها والدها وأصرَّت الفتاة وخرجت
بعد المغرب في رمضان دون أن تذوق طعاماً! وثمَّة طلبة عرب يدرسون في
"أميركا" قالوا ذات يومٍ: "ما عرفنا الإسلام إلا في أميركا! من
خلال النماذج الإسلامية الذين ربتهم الدعوة الإسلامية مع أننا عشنا في
"مكَّة" و"الرياض"، وما كان ذلك كذلك لولا الاعتزاز بالهويَّة!
قال شاعر الإسلام "محمَّد إقبال":
"لقد هبّت عليَّ نفحة من نسيم السحر في الصباح الباكر وناجتني، وقالت لي:
إنَّ الذي عرف نفسه وعرف قيمته ومركزه لا يليق به إلا عروش المجد"!
أجد من اللزام، أن أؤكد من جديدٍ، على ضرورة
العمل من أجل إحياء فكرة إعادة الوظيفة الاجتماعية لمنهجنا القويم، بعد غيابها
ردحاً طويلاً من الزمن، ممَّا اضطرنا إلى دفع ضريبةٍ قاسيةٍ هي ضريبة الذلِّ،
ضريبة الدينونة لغير الله! والتي كان من آثارها ونتائجها، أنه لا يكاد يوجد فردٌ
من آحاد الأمة المسلمة، إلا وفيه جرحٌ ينزف، ودمٌ يثعب، وشعبٌ يُهان، وحرماتٌ
تنتَهك، وأراضٍ تغتصَب!
يتعين علينا نحن الذين عملوا جاهدين، على
فهم المنهج الإسلامي فهماً صحيحاً، أن ندرك أن ثمَّة بهاءٌ للأمَّة مفقود على
الدعاة أن يعيدوه إلى مجده الغابر؛ وأن نساهم في عملية استرداد الشخصية الإسلامية
لمقوماتها، وتعزيز ثقتها بنفسها، والعمل على أن تأخذ من أصالتها بحظٍّ وافرٍ. وعلى
أن نحميَ أجيالنا أن يكون إقبالهم على كلِّ وافدٍ ثقافيٍّ، إقبال حاطب ليلٍ لا
يفرِّق بين عصا أو ثعبان!
رسالة الإسلام رسالة خالدةٌ إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها، وتعزيز الثقافة الإسلامية الراشدة، أساسٌ مهمٌّ في رسم المنهج
السديد لحضارة الأمَّة، لأنها قلبها النابض وحصنها المنيع، الذي يحميها من زيف
الحضارة الغربية.
هذا وقد شهدت البشرية كيف أن التنكُّب
والتنكُّر لأصول الثقافة الإسلامية، أدى إلى إنهيار أكبر حصون المجتمع، مما حدا به
إلى أن يعيش فترةً من الجمود والتعطيل، لكونه وقع بين خطرين اثنين، أحدهما حضارةٌ
غربيةٌ مستوردةٌ، والآخر عاملٌ محليٌّ معطِّل، وفي حال استمرار الوضع على هذه
الحال، فإن عملية النهوض بثقافة الأمَّة صعبةُ المنال.
إنَّ البحث عن الهوية، ومن ثَمَّ الحفاظ
عليها هو أساس نفسيٌّ وواقعيٌّ وحتميٌّ وضروريٌّ، للاستقلال السياسيِّ والفكريِّ
والاقتصاديِّ، للأمَّة المسلمة بعد زمنٍ طويلٍ من ذلِّ التبعية للآخرين.
رسالة الإسلام رسالة خالدةٌ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتعزيز الثقافة الإسلامية الراشدة، أساسٌ مهمٌّ في رسم المنهج السديد لحضارة الأمَّة، لأنها قلبها النابض وحصنها المنيع، الذي يحميها من زيف الحضارة الغربية.
قال الأستاذ الكبير "أبو الأعلى
المودودي"، يصف جهود "محمَّد إقبال" (1877 - 1938م)، في مجال
الإصلاح والتربية: "إن العمل العظيم الذي أدَّاه الدكتور "محمَّد
إقبال" في مجال الإصلاح، له قيمة كبرى لا ينساها التاريخ الإسلاميُّ، والعمل
المهم الذي أنجزه "محمد إقبال"، هو أنه أعلن حرباً لا هوادة فيها ضدَّ
الغرب وحضارته المادية، فقد كان الرجل الوحيد في عصره، الذي لا يدانيه أحد في
تعمُّقه في فلسفة الغرب ومعرفته بحضارته وحياته، فلما نهض يفنِّد فلسفته وأفكاره
المادية، بدأ يذوب سحر الحضارة الغربية؛ الذي كان يذيب القلوب ويستولي على النفوس!"[1].
كما تجدر الإشارة إلى أننا نشهد اليوم حرباً
ضروساً وصراعاً عنيفاً بين هوية هذه الأمَّة - التي تكالبت عليها الأمم والأفكار
والمذاهب من كلِّ جانبٍ، كونها تمثِّل مبادئ استطاعت أن تجيب على أسئلة الإنسان
والكون والحياة إجاباتٍ صائبةً - وبين الكمِّ الهائل من نقيضاتها موقف الندِّ
للندِّ، وبدأت الأخيرة تتكسَّر على صخرة هذه الهوية العاتية، والتي امتزجت بمعين
الوحي! ولم تخلو الساحة الأدبية من توصيفٍ لهذا الصراع المحتدم! الذي عبَّر عنه
شاعرنا الملتزم، "عبد الله عيسى السلامة":
مهلاً فما عنَتِ الحياة لسادرٍ
يختال بين شواطىء وضفاف
من لم يخُض لجَجَ الحياة فرأيُهُ
زبدٌ على ثبَج المبادىء طاف
إنَّ الحياة سعير حـربٍ مُرَّةٌ
بين الهدى وشرائع الأحلاف
إلا أنَّه وعلى أرض الواقع، وبين يدي تحول
عامَّة المسلمين من أمَّة مبادئ إلى أمَّة مصالح، أدَّى ذلك إلى فقدان هذا الكنز؛
الذي لا يُقدَّر بثمن!
ومن مظاهر فقدان الهوية أن يلهث آحاد
الأمَّة خلف السراب! وقريب منَّهم الينبوع الصافي الذي لم تتكدَّر دلاؤه، ولن
تتكدَّر لأنَّه رباني الصبغة؛ ألا وهو الوحي بجناحيه: الكتاب والسنَّة، يحلِّق في
آفاق النفس البشرية السويَّة.
أياد خفية
ثمَّة أيادٍ خفيَّةٍ وراء بعض ما نحسبُهُ من
الشكليات في ساحة الواقع، والتي لا يلتفت إليها كثيرٌ من المسلمين للسطحية التي
اعتلت تفكيرهم، وعلى سبيل المثال تغيير اسم شارع "عمرو بن العاص" في
كبرى العواصم العربية "القاهرة" إلى شارع "كورنيش النيل"،
فترى اللافتة وقد كتِب عليها شارع "كورنيش النيل"، وتحت ذلك وبخطٍّ
صغير: "عمرو بن العاص سابقاً"! ومثل تغيير علَم محافظة
"القاهرة"، الذي تمثله المئذنتان اللتان عند "باب زويلة"،
وتحويله إلى شكل الشمس فوق عبارة: "محافظة القاهرة"، وبذلك عاد
"آمون رع"، وذهبت المئذنتان!
حدث هذا كلُّه، نتيجة طبيعية لأصحاب الأقلام
المسعورة، الذين رفعوا لواء العلمانية، وكتبوا عن الحداثة، وهي كلمة جذَّابة
لأجيالنا الناشئةَ ولها بريق. الحداثة التي أقامت قطيعة مع الموروث، فأصبحت بناءً
هشَّاً لا أساس له من التراث. وقبل عقودٍ من الزمن كانت الحالة مختلفة! يقول
"ابن باديس" رحمه الله: "حين لم نلتفت إلى ماضينا وقوتنا السماوية،
ما كنَّا نُرهِب أحداً. أمَّا اليوم فبهذه اللفتة القصيرة إلى تراثنا المجيد،
أصبحنا نُخيف بعد أن كنَّا نخاف!".
من مظاهر فقدان الهوية أن يلهث آحاد الأمَّة خلف السراب! وقريب منَّهم الينبوع الصافي الذي لم تتكدَّر دلاؤه، ولن تتكدَّر لأنَّه رباني الصبغة؛ ألا وهو الوحي بجناحيه: الكتاب والسنَّة، يحلِّق في آفاق النفس البشرية السويَّة.
وفي سنة 1930م، تصور الكاردينال
"لافيجري"، أنَّ عهد الهلال في "الجزائر" قد غبَرَ، وأنَّ عهد
الصليب قد بدأ وسيستمر إلى الأبد! ولكن هيهات من هذا التصور، إذ أتى الواقع فيما
بعد، على غير ما يشتهيه هذا الكاردينال الواهم!
إنَّ التخطيط لضرب هويَّة هذه الأمَّة عن
طريق إلحاق الهزيمة الفكرية والنفسية جاء من دوائر وجهاتٍ عديدة كان من أهمها،
أبناء أولئك الذين عملوا منذ قرنٍ من الزمن على إلغاء الخلافة؛ التي كانت بحقٍّ
آخر حصنٍ للمسلمين.
قال "شمعون بيريز"، أواخر سبعينات
القرن الفائت في مهرجانٍ خطابيٍّ انتخابيٍّ: "إنه لا يمكن أن يتحقَّق السلام
في المنطقة، ما دام الإسلام شاهراً سيفه، ولن نطمئنَّ على مستقبلنا، حتى يغمِدَ
الإسلامُ سيفَه إلى الأبد "!
وهذا الذي ذهب إليه، هو انعكاسٌ لمقولة
البرفسور "موشيه شارون"، مستشار "مناحيم بيغن" للشؤون العربية
والإسلامية: "ما من قوة في العالم، تضاهي قوة الإسلام، من حيث قدرته على
اجتذاب الجماهير، فهو يشكِّل القاعدة الوحيدة للحركة الوطنية الإسلامية".
وممَّا يتعيَّن علينا معرفته، بأنَّ بداية
الهزيمة النفسية، تبدأ من الشعور بالنقص في سنِّ الطفولة، من خلال متابعة الطفل
أفلاماً أنتجتها العولمة التي هي الوجه الآخر للغزو الفكري، الذي احتلَّ بيوت
المسلمين، وبتسهيل من أهلها، وبدون كلمة مرور! وعادتي التدليل على ما أدَّعي؛
ولنأخذ على سبيل المثال فيلم "فندر فاكس" الذي يصوِّر الصراع بين الخير
والشرِّ على أنَّه صراع بين الغرب والشرق، يمثِّل الشرق جانب الشرِّ فيه، وعلى وجه
التحديد المسلمين من أهله حيث جعل الفيلم شعار الهلال رمزاً للشرِّ المزعوم! أما
فيلما "سوبر مان" و"طرزان"، فيظهرِان الرجل الغربي بصورة
المنقذ للعالم. وكما اعترفت بنت شيخ الأزهر الشيخ "المراغي" بعبقريات
"العقاد"، فقد كانت مسافرة مع أبيها فصادفت في تلك الرحلة امرأة من
[الخواجات]، فراحت تذكر لابنة الشيخ إعجابها بــ"العقَّاد"، وخصوصاً
بـكتابه "العبقريات"، وهنا راحت ابنة الشيخ تطلب العبقريات من أبيها،
فقال الشيخ بحسرة: "أنا شيخ الأزهر، وابنتي لم تسمع لي، وسبق أن كلمتها عن
العقاد وكتبه، فلما حدثتها الخواجة استمعت لها وصدقتها!". ثم عقَّب بألم ومرارة
قائلاً: "يبدو أننا لن نؤمن ولن نصدق بالإسلام، إلا إذا آمن الخواجة به!".
يقول "أبو الكلام آزاد":
"إنه ليس هناك ما هو أدعى للخزي والمهانة، من أن يحني
المسلمون رؤوسهم أمام
أفكار غيرهم السياسية! إنَّ الإسلام لا يسمح لهم أن يكونوا ذيلاً لغيرهم في
أفكارهم، بل عليهم أن يدعو غيرهم إلى مشاركتهم واتِّباعهم، ولو أنهم خفضوا رؤوسهم
لله تعالى وحده لخفض العالم رأسه أمامهم. إنَّ الإسلام قد وضَّح لهم طريقهم الخاص،
فلماذا يستعيرون من غيرهم الطرق؟! وإذا كان الله رفع رؤوسهم، فلا ينبغي لهم أن
يخفضوها أمام غيرهم".
وإزاء رؤيتنا لهذا الجزء المهمِّ من الواقع،
يجدر بنا أن نكون مبادرين لأفعال، لا أن نكون جاهزين، وأصابعنا على [كونترول] ردود
الأفعال، ولنتيَّقن أنَّ التغيير الذي يريده الإسلام، وألهج له لهجاً وألحُّ عليه
إلحاحاً، ليس نقل رقمٍ من خانةٍ إلى أخرى، أو من جدولٍ إلى جدولٍ! بل هو تغييرٌ
جذريٌّ عند الفرد المسلم يشمل عالمي التصور والسلوك.
وإذا سكبنا العبرات أمام مشاهد من إذلال
المسلمين، وما أكثر الأكَلةُ حول قصعتهم، مستبيحين لها دون ضوابط يعرفها عالم
الخلق ودنيا الناس؟! فهذا لا يكفي، بل لا بدَّ من تحركٍّ فاعل نقطف منه نتائج
إيجابية وفاعلة على الأرض. ولا غرابة أن تعود هذه الأمَّة إلى سالف عهدها المشرِّف
كونها صاحبة عقيدةٍ هي أقوى من كل سياسةٍ رعناءَ، والأمَّة العريقة أصلب عوداً
وأمضى سيفاً وأطول عمراً من دولة الظلم، الذي أضحى صفةً تعمُّ العالم من خلال
ازدواجية المعايير، والمولودِ من رحِمِ النفاق العالمي الرخيص، لا أقول على حساب
المبادئ، بل على حساب أدنى معايير القيَم الإنسانية.
ومن الخطأ بمكان أن يظنَّ الدعاة في العصر
الحاضر، أنَّ الراحة لها موضع ومكان في حياتهم، وكأنَّ ابن الخطاب t يعيش بيننا
الآن، لينبهنا إلى هذه الحقيقة قائلاً: "الراحة للرجال غفلة".
وليعلموا أنَّ تحول الإسلام إلى صورة حيَّة
يقلب الموازين، ويحدث اهتزازاً، ويزلزل المعادلات، ويبعث على القلق عند أعدائه.
ما أجدرَ بنا أن يعشعش الإسلام في جنبات
نفوسنا فكرة ومنهجاً، الفكرة هي بمثابة جذور للشجرة، المؤمَّل أن تكون باسقة مثمرة
مورقة بالعطاء. أنبتها الله على أرض صلبة لا تقبل تزييف الحقائق أو تقبل التميّعُ
في السلوكيات، وهذا العطاء لها، هو المنهج في أبهى صوره وأنصع أشكاله.
وختاماً لا بدَّ من حضور المقومات الإسلامية
من جديد، وفي مقدمتها الأصالة التي صنعت ضمير الأمَّة، وهذه المقومات كفيلةٌ
بإعادة التجربة الحضارية الإسلامية في التاريخ. وهذا لا يأتي إلا بعد وضوحٍ في
الرؤية، وبعد حسن اختيارٍ لمسارنا في الحياة.
جعلنا الله أوفياء للرسالة التي وقفنا
لنصرتها وتفرَّغنا لإحيائها من جديد، بعد طول سباتٍ وانشغالٍ عنها من عامَّة
المسلمين، بعد أن تقاذفتهم الأهواء يمنةً ويسرةً؛ ولنكن بعد هذا الركام وهذا
التيه، دعاة استنارة ورسل حضارة.
*عضو الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين