يشبه
لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء
مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين
والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ
الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق
الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة
التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله،
مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الطائف. إذ تختزن ذاكرة هذا البلد
الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا
يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت
هذه
الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان
به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.
من هنا، يخصص موقع
"عربي 21"
سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط" ويتوقف في هذه
الحلقة عند الطائفة العلوية، في محاولةٍ جادة وعميقة لإلقاء الضوء على هذه
الطوائف، واستكشاف خصائصها وتاريخها وتراثها، والتعرف إلى الدور الذي لعبته وتلعبه
اليوم في الواقع اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة. هذه السلسلة
ليست مجرد بحثٍ معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم
صراعاته قادراً على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في الشرق الأوسط.
تمثل طائفة العلويين في لبنان إحدى الأقليات
الدينية الصغيرة التي لا يتخطى عدد أبنائها نسبة 1.5% من إجمالي عدد اللبنانيين.
وبرغم قلّة عددهم، فإن العلويين يشكلون مكوّنًا دينيًا واجتماعياً نجح في الحفاظ
على خصوصيته الثقافية لكنه لم ينجح دائماً في تعزيز مكانته الوطنية والسياسية ضمن
التوازنات اللبنانية الدقيقة وذلك بفعل ارتباطاته الإقليمية ولا سيما مع سوريا
طوال فترة حُكم آل الأسد، فواجه
العلويون تحديات مرتبطة بالهوية والتمثيل
والانخراط في الحياة السياسية، ما تُرجم أحياناً على شكل توترات طائفية في المناطق
التي يتركزون فيها ولا سيما طرابلس.
الأصول الدينية والتاريخيّة
العلويون ليسوا طائفة شيعية اثني عشرية وهي
الغالبة بين الفرق الشيعية، بل فرقة دينية متأثرة بتيارات فسلفية ومذاهب صوفية.
وترجع جذورهم الفكرية إلى تيارات الغلوّ في التشيّع، ما أدى إلى عزلة دينية
ومجتمعية عن باقي الفرق الإسلامية دفعت بهم إلى تطوير هوية جماعية تتسم بالانغلاق
والسرية، ما أثر على تركيبتهم الثقافية والاجتماعية لاحقًا، سواء في سوريا او في
تركيا أو في لبنان.
دينياً، يُعدّ العلَويون أو
"النُّصَيريّون" كما كانوا يُعرفون سابقًا نسبةً إلى محمد بن نُصير،
فرعاً من الشيعة، ينسبون انفسهم إلى المذهب الجعفري الاثني عشري لكنهم يختلفون عنه
في عدد من المعتقدات.
العلويون ليسوا طائفة شيعية اثني عشرية وهي الغالبة بين الفرق الشيعية، بل فرقة دينية متأثرة بتيارات فسلفية ومذاهب صوفية. وترجع جذورهم الفكرية إلى تيارات الغلوّ في التشيّع، ما أدى إلى عزلة دينية ومجتمعية عن باقي الفرق الإسلامية دفعت بهم إلى تطوير هوية جماعية تتسم بالانغلاق والسرية، ما أثر على تركيبتهم الثقافية والاجتماعية لاحقًا، سواء في سوريا او في تركيا أو في لبنان.
تعود أصول هذه الطائفة إلى القرن الثالث
الهجري (التاسع الميلادي)، حين أُسِّست في العراق خلال الفترة العباسية، وسط مناخ
من الصراعات الفكرية بين المعتزلة وأهل الحديث السنة والشيعة. نشأت الطائفة العلوية على يد محمد بن
نصير النميري، أحد تلاميذ الإمام الحسن العسكري وهو الإمام الحادي عشر عند الشيعة
الاثني عشرية. ويُعرف عن ابن نصير ادعاءه النيابة الخاصة عن الإمام العسكري إذ كان
احد دعاته، وقد نَسب له بعض المؤرخين "تأليه" الإمام علي بن أبي طالب،
وهو ما يُعدّ من عقائد الغلوّ التي تسبّبت في اضطهاد أتباع ابن نصير واضطرتهم إلى
الفرار نحو مناطق نائية خوفًا من القمع، فاستقر الكثير منهم في جبال النصيرية
(سلسلة الجبال الساحلية غرب سوريا) وبحلول القرن العاشر الميلادي، كانت الطائفة قد
رسّخت وجودها في اللاذقية وجبال الساحل
السوري، وتحوّلت إلى مجتمع مغلق.
واستناداً إلى تعاليم ابن نصير، يعتبر
العلويون أن للإمام علي مقامًا إلهيًا، ويؤمنون بعقيدة "التثليث"
الرمزي: المعنى، الاسم، والباب:
1 ـ المعنى = الإمام علي (الجوهر الإلهي)
2 ـ الاسم = النبي محمد (الظاهر النبوي)
3 ـ الباب = سلمان الفارسي (هو الوسيط
الكاشف للأسرار، وهو الصحابي العارف الذي آمن بعلي إيمانًا باطنيًا)
ولعلّ هذا التفسير هو أكثر ما يُظهر
التأثيرات الفلسفية والميول الصوفية (التوجهات الروحية الباطنية التي تهدف إلى
الاتحاد بالله عبر الزهد والتأمل والمحبة) والغنوصية (مصطلح يوناني قديم يعني
"المعرفة" ويشير إلى معرفة روحية تقود الإنسان إلى الاتحاد بالإله).
في عقيدتهم، وعلى غرار الموحّدين الدروز
الذين تحدّثنا عنهم في المقال السابق، يوصف العلويون أيضاً بأنهم باطنيون، بمعنى
أنهم لا يكشفون تعاليمهم الدينية إلا للخواصّ، وهذا جعل الكثير من عقائدهم محط
تكهنات أو اتهامات، ويؤمنون أيضاً بالتناسخ (التقمص) ويعتقدون أن أرواح المؤمنين
تنتقل في أجساد بشر أما أرواح الكافرين فتُعذَّب في الحيوانات، ويقسمون فئات
المجتمع استناداً إلى مستوى المعرفة الدينية إلى طبقتين: الخواص (العارفون)
والعوام (الجاهلون).
غير أن العلويين ليسوا جزءاً من طائفة
الموحدين الدروز بل هم أقرب الى المسلمين، ويحتفلون بالأعياد الدينية الأساسية
للمسلمين مثل عيد الفطر وعيد الأضحى لكن بطقوسهم الخاصة، كما يحتفلون بعيد الغدير
الذي يُعتقد أن النبي محمد (ص) أعلن خلاله أمام جمع من المسلمين أن الإمام علي هو
وليّ المسلمين وخليفتهم من بعده، واللافت أنهم يحتفلون بعيد النيروز وهو فارسي
الأصل، وثَني الجذور (سابق على ظهور الإسلام) ويُحتفَلُ به مع الاعتدال الربيعي.
لكنّهم بخلاف المسلمين من أهل السنة
والشيعة، لا يؤمنون بفروض الصلاة والصوم بالشكل المتعارف عليه، بل لديهم طقوس
بديلة رمزية. من بينها، إجتماعاتٌ ليليةٌ تتضمّن الإنشاد وتلاوة النصوص الباطنية،
طقوسٌ تأمُّلية تُعدّ بديلاً للصلوات اليومية الخمس المفروضة في الإسلام التقليدي.
ويأتي ذلك كترجمة للاعتقاد العلَوي بأنّ أداء الصلاة الشكلية ليس ضروريًا وأن
الصلاة الحقيقية هي التأمّل لمعرفة "الباطن" الإلهي.
ويُعرف عن العلويين أنهم لا يصومون شهر
رمضان بل يصومون في أيام أخرى من السنة مثل يوم العاشر من محرم (عاشوراء) وبعض
الأيام في شهر كانون الأول ديسمبر (من 1 إلى 9 كانون الأول ديسمبر ويُسمى
"صيام الطهر") ولا يعلن العلويون عن الأسباب علنًا بفعل طبيعة عقيدتهم
الباطنية، لكنّ ما يُعرَف من مصادرهم ومن كتب الباحثين والسرديات الاجتماعية يفيد
بأن الصيام يُعدّ نوعاً من الاستعداد الداخلي لذكرى تجلي النور الإلهي في شخصية
الإمام علي. ويتميز العلويون عن سائر المسلمين بطقوس "التلقين" وهي
مراسم تعليمية سرية يخضع لها المنتسبون الجدد بعد بلوغهم (غالباً عند الذكور)،
يعلنون فيها الولاء للإمام علي، ويلتزمون عقائد سرية يُمنع الإفصاح عنها للعامة.
إذاً، ليست العبادة عند العلويين قائمة على
الممارسة الظاهرة (الظاهر/الشريعة) بل على الباطن والمعنى العميق، لذلك تتسم
طقوسهم بالروحانية وتهدف إلى الاتحاد بالمعرفة الإلهية وتطهير النفس وهذا ما
يجعلهم أقرب إلى التيارات الصوفية الباطنية منها إلى التيارات الإسلامية
التقليدية. وقد يرى بعض الباحثين أن العلويين يخلطون بين العناصر الإسلامية
والرموز المسيحية (العقيدة الثلاثية التي تشبه عقيدة الثالوث المسيحي، رمزية النور
والتجلي الإلهي) والوثنية (رمزية النور والظل، الاحتفال بالأعياد ذات الطابع
الفلكي مثل عيد النيروز).
العلويون في لبنان
تشكل المجتمع العلوي في لبنان بفعل هجرات
متتالية للعلويين من جبال الساحل السوري، لا سيما من مناطق اللاذقية وطرطوس، خلال
القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بسبب الفقر والاضطهاد الديني أو لأسباب
اقتصادية. وشهد لبنان آخر فصول الهجرة والنزوح من الساحل السوري في مطلع هذا
العام، بُعيد سقوط نظام بشار الأسد ووقوع مجازر في الساحل السوري اتسمت بالطابع
الانتقامي ووصفت بأنها "تطهير طائفي". لجأ العلويون الهاربون من الموت
إلى الحدود غير المضبوطة ودخلوا لبنان من معابر غير شرعية على شريط النهر الكبير
الشمالي، فوجد هؤلاء احتضاناً شعبياً في المناطق التي يتمركز فيها العلويون
اللبنانيون في محافظة الشمال، وتحديداً في منطقة "جبل محسن" ضمن مدينة
طرابلس، وفي عدد من القرى والبلدات في قضاء عكار من بينها بلدة بني عثمان وقرى
المسعودية والسماقية والحوشة، وفي مناطق أخرى ليست مركزاً للعلويين لكنّ سكانها
منفتحون ومتقبلون للنازحين.
يوصف العلويون أيضاً بأنهم باطنيون، بمعنى أنهم لا يكشفون تعاليمهم الدينية إلا للخواصّ، وهذا جعل الكثير من عقائدهم محط تكهنات أو اتهامات، ويؤمنون أيضاً بالتناسخ (التقمص) ويعتقدون أن أرواح المؤمنين تنتقل في أجساد بشر أما أرواح الكافرين فتُعذَّب في الحيوانات، ويقسمون فئات المجتمع استناداً إلى مستوى المعرفة الدينية إلى طبقتين: الخواص (العارفون) والعوام (الجاهلون).
وصل عدد النازحين السوريين خلال شهر آذار
مارس الماضي إلى 21 ألف شخص أغلبهم من الطائفة العلوية بحسب تقدير مفوّضية الأمم
المتحدة لشؤون اللاجئين، وأفادت مصادر محلية أن بعضهم لبناني في الأساس لكنه يقيم
في الساحل السوري لأسباب عائلية أو مهنية. علماً أن عدد العلويين اللبنانيين
يُقدَّر بنحو 120 ألفاً، وفق ما صرّح به مؤخراً مدير مكتب رئيس المجلس الإسلامي
العلَوي في لبنان الشيخ أحمد عاصي، لافتاً إلى أن العدد الأصلي أكبر من ذلك لأن
عائلات علَوية كثيرة سجّلت أبناءها على قيود الطوائف السنية أو الشيعية إما خلال
الحرب الأهلية، وإما خلال السنوات الأخيرة لأسباب وصفها بالـ "عمَلية"
من بينها إمكانية تحصيل وظيفة في القطاع العام أو تسهيل بعض المعاملات، داعياً
إياهم إلى إعادة تصحيح المذهب.
وقد تحمل هذه الدعوة إشارة إلى حرص
المسؤولين عن الطائفة على حفظ وجودها ومَكانتها الاجتماعية في موازاة هشاشة موقعها
السياسي وغياب أي حركة فكرية قوية داخلها للدفع باتجاه الإصلاح الداخلي كما حدث
مثلًا عند الدروز أو الشيعة. ولعل هذا ما يبرّر السلوك "الانغلاقي
والدفاعي" الذي غالباً ما تنتهجه الأقليات للحفاظ على وجودها. سلوكٌ يتمثل
أحياناً في الضغط على جيل الشباب للزواج من داخل الطائفة حصراً ويُترجم أحياناً
أخرى باللجوء إلى "الخارج" والاحتماء به. إذ يُحكى همساً عن وجود بعض
الفتاوى داخل الطائفة تحرّم الزواج من غير العلويين غير أن حالات زواج كثيرة تبرز
بين العلويين وبنات وأبناء الطوائف الأخرى منها السنية والشيعية وخصوصا في مناطق
الشمال. كما يُحكى عن ضعف المؤسسة الدينية العلوية في لبنان وعدم وضوح المرجعية
فيها ووجود الكثير من المشايخ المحليين "بالوراثة"، لذلك غالبًا ما
استمد العلويون مرجعيتهم الدينية – وخصوصاً في المرحلة السابقة - من المؤسسات
العلوية السورية.
غير أن الواقع الجديد الذي فرضه سقوط نظام
الأسد (العلَوي) في سوريا دفع أبناء الطائفة إلى التأقلم والتصالح مع الواقع
الجديد، ويروي شهود عيان من منطقة جبل محسن ذات الأغلبية العلَوية، أن صور قيادات
"البعث" والشعارت الحزبية والأعلام، غابت من المشهد وحلّت محلّها
الأعلام اللبنانية وحدها وبعض صور رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون.
ويُذكر أنّ قانون تنظيم شؤون الطائفة
الإسلامية العلوية كان قد صدر في العام 1995 وحمل الرقم 449/95، إلا أنه لم يوضع
موضع التنفيذ إلا بعد مرور أعوام عدّة، وفي العام 2009 انتُخب أول رئيس للمجلس
الإسلامي العلوي وهو الشيخ أسد عاصي، ثم توالى رؤساء المجلس الذين لعبوا أدواراً
تنظيمية أكثر منها سياسية، أبرزها المطالبة بإقرار حقوق الطائفة عبر تعديل قانون
المحاكم الشرعية العلوية، والمطالبة بنقل "مرسوم الإفتاء" الذي وقّعه
رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي إلى الجريدة الرسمية كي يدخل حيز التنفيذ، وهو
مرسوم بالغ الأهمية بالنسبة للعلويين لأنه يتيح إعادة هيكلة مؤسساتهم الرسمية بما
يعزز تحصيل الحقوق وتكريس الحضور في مؤسسات الدولة.
حكاية التبانة وجبل محسن
لم تكن المعارك المتقطعة التي اندلعت في
طرابلس شمال لبنان، بين العلويي القاطنين في حيّ جبل محسن والسُنة في حيّ التبانة، مجرّد خلافات طائفية محلية، بل
حملت في طياتها بُعدًا إقليميًا صريحًا، جعل من مدينة طرابلس ـ ثاني أكبر المدن
اللبنانية ـ ساحة تصفية حسابات بين محورين متنازعين: محور المقاومة (المؤيد لنظام
الأسد) ومحور المعارضة السنية المؤيد للسعودية.
في قلب مدينة طرابلس، تجاور حيّان شعبيّان
يمثلان وجهَين متقابلَين لصراعٍ مُعقّد: جبل محسن ذات الغالبية العلوية، وباب
التبانة ذات الغالبية السنية. لطالما كانت العلاقة بين المنطقتين مشدودة بخيوط
التوتر الطائفي والسياسي، لكنّها ما لبثت أن أفلتت وانفجرت في سلسلة اشتباكات
مسلّحة متفرّقة وقعت بين عامي 2008 و2014، لتتحوّل المنطقة إلى واحدة من أخطر بؤر
النزاع الأهلي المصغَّر في لبنان ما بعد الحرب.
لطالما اتُّهم سكان جبل محسن بالولاء للنظام
السوري بقيادة حافظ الأسد ولاحقاً نجله بشار، خصوصاً من خلال ارتباط الحزب الأكثر
تمثيلاً لهم "الحزب العربي الديمقراطي" بحزب البعث في سوريا. وعلى الجهة
المقابلة، لطالما شعر سكان باب التبانة بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي، وزاد من
احتقانهم الاصطفافُ السياسي مع التيارات التي عارضت النظام السوري، خصوصًا بعد
اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005، ثم اندلاع الثورة السورية عام
2011. فاندلعت الشرارة الأولى للمواجهات المسلحة بينهما في أيار مايو من عام 2008
بالتزامن مع الاشتباكات في بيروت بين عناصر من "حزب الله" ومناصرين
لتيار المستقبل كردة فعل على قرار حكومي بمصادرة شبكة اتصالات حزب الله وإقالة
مسؤول أمني مقرّب منه.
ورغم أن الاشتباكات المسلحة في بيروت
والاضطرابات السياسية والاجتماعية الناجمة عنها انتهت باتفاق الدوحة، لم تنتهِ
الاضطرابات في طرابلس بل صارت أكثر حدّة وتواتُرًا، حتى بلغت ذروتها بين 2011
و2014 حين استُخدمت الأسلحة الرشاشة، والقذائف الصاروخية خلال المواجهات التي شهدت
عمليات قنص يومية، فتحوّلت خطوط التّماس بين حيّي جبل محسن والتبانة إلى جبهات
قتال مفتوحة.
انتهى النزاع فعليًا في تشرين الأول أكتوبر
من عام 2014، مع إطلاق الجيش اللبناني عملية أمنية شاملة في طرابلس والشمال، تم
خلالها تفكيك الشبكات المسلحة من الطرفين. فرّ عدد من القادة السياسيين والعسكريين
من جبل محسن إلى سوريا، وانهار النفوذ التنظيمي للحزب العربي الديمقراطي، فيما بقي
وجود الجيش اللبناني الضامنَ الوحيد للهدوء الأمني الذي لم يثبّته أي حل سياسي
شامل ونهائي.
فالطائفة العلوية شعرت بالمزيد من العزلة
داخل طرابلس، وتعمّقت صورتها في عموم لبنان كـ"طابور خامس سوري" ما
وضعها في موقف دفاعي دائم ولا سيما بعد تفكُّك التنظيم السياسي الوحيد للطائفة أي
الحزب العربي الديمقراطي عام 2014. فيما بقي أبناء الطائفة السنية في حيّ التبانة داخل دوامة الفقر والبطالة وضعف
الخدمات الأساسية ما عمق شعورهم بالتهميش وجعلهم عرضة لموجات التطرف والانخراط في
شبكات إرهابية.
يمثّل الطائفةَ العلوية في لبنان نائبان اثنان في البرلمان، أحدهما عن دائرة طرابلس، والآخر عن دائرة عكار. وغالباً ما تُعد الطائفة العلوية متحالفة سياسيًا مع محور المقاومة الذي يعيش راهناً حالةً من الكُمون، وتحيط بمستقبله علامات استفهام وشكوك إثر اغتيال قائده الأبرز السيد حسن نصرالله، وسقوط نظام بشار الأسد
في الخلاصة، كان الصراع بين التبانة وجبل
محسن إنعكاسًا حيًّا للواقع الطائفي اللبناني المُمزَّق، المرهون بتوازنات إقليمية
أكثر منه بتسوية وطنية حقيقية. وكانت الطائفة العلوية، برغم كونها أقلية، مرآةً
مكبِّرة لأزمة الهوية والانتماء في لبنان، حيث تتحول الهشاشة الاجتماعية والتوتر
الطائفي إلى اشتباك مسلح، حين تغيب الدولة وتُترك الأحياء المهمّشة فريسة
للاصطفافات الإقليمية والانتماءات المغلقة.
أزمة الدّور والهوية
يمثّل الطائفةَ العلوية في لبنان نائبان
اثنان في البرلمان، أحدهما عن دائرة طرابلس، والآخر عن دائرة عكار. وغالباً ما
تُعد الطائفة العلوية متحالفة سياسيًا مع محور المقاومة الذي يعيش راهناً حالةً من
الكُمون، وتحيط بمستقبله علامات استفهام وشكوك إثر اغتيال قائده الأبرز السيد حسن
نصرالله، وسقوط نظام بشار الأسد الذي دعم المقاومة من خلال تأمين خطٍ آمن لإمدادها
بالسلاح والمال، فضلاً عن غموض الموقفَين الإيراني والروسي من "المحور"
وبالتالي من مستقبل الصراع مع إسرائيل وتغيير توازن القوى في المنطقة.
غير أن ما نُغفل عنه غالبًا هو أن العلويين
لم يشكلوا كتلة وطنية صلبة متجانسة، بل طائفة في مرحلة إنتقالية طويلة بين انغلاق
وضعف سياسي من جهة، ومحاولات خجولة للانفتاح والاندماج من جهة أخرى. ويبدو أن
مستقبلهم مرهون ليس فقط بقدرتهم على بناء مؤسساتٍ ثقافية ودينية مستقلة، بل في
الانخراط الإيجابي في الفضاء اللبناني العام من دون أن يكونوا أداة في يد اللاعبين
الإقليميين الأساسيين تحت أي حجة أو مصلحة. فشعورهم الدائم بالمظلومية المزدوجة
(من السنّة ومن الشيعة) وبأنهم أقلية معزولة عن سائر المذاهب الإسلامية حيث لا يعترف
السّنّة بشرعية عقيدتهم فيما يرفض الشيعة دمجهم فقهيًا، دفعهم للارتباط أكثر
بالأنظمة السياسية التي تضمن حمايتهم كالنظام السوري القديم.
وبخلاف الطوائف الكبرى، لم يتمتّع العلويون
بـتجربة سياسية واضحة داخل المشروع اللبناني لأنهم لم يشاركوا ـ تاريخيّاً ـ في
بناء الدولة، ولم يكن لهم تمثيل فعلي قبل اتفاق الطائف (1989) وليس لهم مرجع ديني
لبناني أو مجلس مذهبي مستقل كما هو الحال عند الدروز أو الشيعة أو السنة، مما
يفاقم شعورهم بعدم الأمان وفقدانهم الانتماء المؤسسي. إذ تفتقر الطائفة العلوية في
لبنان إلى مدارس مذهبية خاصة (كما لدى المسيحيين أو الشيعة أو السنّة) وإلى جمعيات
فكرية أو بحثية تعرّف عن تاريخها وتدافع عن روايتها للأحداث وهذا ما جعل صورتهم تُختزل
إما بالتوتر الأمني (في جبل محسن والتبانة)، أو بالولاء للنظام السوري، أو بالغموض
الديني. ويُلاحظ أنه نادرًا ما يأتي الإعلام على ذكر العلويين كطائفة لها صوت أو
قضية أو فكر، حتى في الدراما أو الإنتاج الوثائقي، نادرًا ما نجد شخصيات علوية أو
تصويراً لمجتمعهم، ما يُكرّس الصورة النمطية الملازمة لهم وعنوانها "الآخر
الغريب".
وقلّما يُسلَّط الضوء على علويي لبنان
المهاجرين، رغم وجودهم في دولٍ كالبرازيل، وأستراليا، وأوروبا. هؤلاء، شأنهم شأن
كل المهاجرين اللبنانيين، يعتبرون خزانًا بشريًا واجتماعيًا واقتصاديًا مهمًا، قد
يُعيد تشكيل علاقة الطائفة التي ينتمون إليها بالهوية اللبنانية الجامعة إذا ما
أُتيحت لهم الفرصة للتنظيم والمشاركة.
ومع تراجع نفوذ الحزب العربي الديمقراطي منذ
العام 2014، بدأت تظهر بوادر جيل علوي شاب، يحاول كسر القوالب التقليدية. جيل يبدو
أقل ارتباطًا بسوريا، وأكثر ميلًا للانخراط في هوية وطنية مدنية لبنانية، ويسعى
إلى إنتاج خطاب علوي جديد يتجاوز الانقسام الطائفي. ورغم أن هذه
المحاولات لا تزال في بداياتها، إلا أنها تحمل إمكانية حقيقية لإعادة تعريف الذات
العلوية بعيدًا عن ولاءات الخارج وضغوط الداخل.